قبل أسبوع وفي ظل المفاجآت والتخمينات الدائرة بشأن عجلة التطبيع الدائرة بقوة ومن يناديه الدور، خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورمى قنبلة دخان جديدة، مؤكدًا أن كوسوفو وافقت على تطبيع علاقاتها مع “إسرائيل”، بل وستفتح سفارة لها في القدس، ما يجعلها أول دولة ذات أغلبية مسلمة تنقل الصورة إلى أبعد زاوية يمكن أن يتوقعها أحد.
لكن الأمر ليس سهلًا كما يتوقع البعض، من ناحية هناك معارضة شعبية كبيرة لهذه الخطوة التي يبدو أنها جاءت أحادية من الحكومة دون الدخول في حوار مجتمعي، لهذا وضع نتنياهو هيئات الأمن القومي والجهات السيادية معه في الكادر، تحسبًا لأي موقف يحدث لاحقًا، وربما لا ترتاح له الكثير من القوى الرافضة للاتفاق داخل “إسرائيل”.
فالاعتراف بكوسوفو أو إقامة علاقات طبيعية معها يعني إغضاب صربيا التي ترفض أي اعتراف دولي بكوسوفو، وتزعم ولاياتها التاريخية عليها، فضلًا عما قد يسببه هذا التعاون من إثارة أزمة أخلاقية كبرى في المحافل الدولية، فالقضية بالنسبة لصربيا، هي نفسها بالنسبة لـ”إسرائيل” في موفقها من فلسطين.
ما هي كوسوفو؟
دولة غير ساحلية يبلغ عدد سكانها نحو 1.8 مليون نسمة، وتقع في جنوب شرق أوروبا، كانت جزءًا من الدولة العثمانية طيلة خمسة قرون، منذ أن فتحها السلطان العثماني مراد الأول عام 1389، لكن بعد حرب البلقان الأولى عام 1912 تقاسمت صربيا والجبل الأسود أراضي كوسوفو.
وضعت الحرب العالمية الأولى بصماتها على كوسوفو، فضُمت إلى مملكة يوغسلافيا، حتى تغير الوضع مع الحرب العالمية الثانية واحتلال يوغسلافيا، وضُم الإقليم إلى ألبانيا التي كانت تحت الاحتلال الإيطالي، لكن مع انتهاء الحرب عاد مرة أخرى إلى يوغوسلافيا الاتحادية.
عاشت كوسوفو حكمًا ذاتيًا حتى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، قبل أن يخيم التوتر من جديد عام 1989 بعد قرار الرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش بإلغاء الحكم الذاتي الذي كان يتمتع به ألبان كوسوفا، ويحكم الإقليم بالحديد والنار وفق أساليب بوليسية ضمن الأعنف التي عرفها العالم الحديث.
لم يستسلم سكان الإقليم وقرروا المواجهة في المقابل، لكن بطابع قومي وليس دينيًا، وهو ما أثار تعاطفًا دوليًا معهم، خاصة في ظل الطابع السلمي للمواجهة والنضال السياسي والهوى الأمريكي للإقليم، ولهذا مع إجبارهم من النظام القمعي على اللجوء للتمرد المسلح، تدخل حلف شمال الأطلسي “الناتو” سريعًا بناءً على قرار من مجلس الأمن الدولي، وقدم دعمًا عسكريًا ـ جويًا ولوجيستيًا ـ ودبلوماسيًا لكوسوفو.
انتهت الحرب بمعاهدة كومانوفو، ووافقت القوات اليوغوسلافية على الانسحاب من كوسوفو مقابل حل جيش التحرير، لكن استمرت ظلال الأزمة حتى عام 2008، قبل أن ينهي برلمان كوسوفو سياقًا طويلًا من الصراع، بإعلان استقلال “جمهورية كوسوفو”.
استمرت أشواط التفاوض حتى عام 2013 بإعلان اتفاق بروكسل، وبموجبه طبعت صربيا علاقاتها مع كوسوفو، دون أن تعترف باستقلالها بشكل رسمي، واعترفت 115 دولةً عضوةً في الأمم المتحدة، وجهات دولية عديدة بجانب 22 دولة من 27 عضوًا في الاتحاد الأوروبي بالدولة الوليدة، بينما رفضت قوى كبرى مثل الصين وروسيا والهند وإسبانيا والمغرب الاعتراف بها، حتى لا يشجعون المناطق الانفصالية الناشطة لديهم على اتباع نفس المسار.
“إسرائيل” وكوسوفو.. ما الجديد؟
لأكثر من عقد من الزمان و”إسرائيل” تصر على مخالفة الهوى الغربي الذي ساعد على قيام دولة كوسوفو بدعم رئيسي من الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا، كانت تل أبيب تتخوف من دعم غربي مماثل لفلسطين إذا قررت اللجوء لنفس المسار، فقررت أن تبقى ضمن الفريق الرافض للاعتراف، رغم العلاقات التاريخية التي تجمعها بالألبان الذين كانوا أكثر القوميات دفاعًا عن اليهود، وقدموا لهم المساعدة والحماية من الإبادة خلال الحقبة النازية.
لكن مع تولي ترامب يبدو أن “إسرائيل” لم تعد خائفة من السيناريوهات القديمة التي وقفت أمام تطبيع العلاقات مع كوسوفو، مع ظهور مركب التطبيع، طورت معرفةً وأسسًا مختلفة لإقناع الرأي العام الداخلي أن الأزمة بين كوسوفو وصربيا، لا يمكن تشبيهها بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وبالتالي لا سبب مقنع لاستمرار مثل هذه الحساسيات التي خيمت على العلاقات بينهما طوال العقود الماضية.
كان نتنياهو حريصًا في الإشارة إلى الدور الأمريكي لإلحاق كوسفو بقطار التطبيع والمجهود الذي قدمه دونالد ترامب الذي سهل إقامة تفاهمات على أسس جديدة بين نتنياهو ورئيس الوزراء الكوسوفي عبد الله هوتي، التي أسفرت في النهاية عن الاتفاق على إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين “إسرائيل” وكوسوفو، بما يجعل الأخيرة ملتزمة بنقل سفارتها للقدس.
والسؤال: ما المقابل إذن؟ كما قال نتنياهو من قبل، لم يعد في جعبتهم إلا خيار واحد: السلام أمام السلام والاقتصاد مقابل الاقتصاد، بمعنى أن كل بلد ومصالحه المنفصلة تمامًا، ولهذا لم يتم الإشارة من قريب أو بعيد إلى القضية الفلسطينية، فالثمن تطبيع العلاقات الاقتصادية، وبالتالي هذا الثمن كاف جدًا لكوسفو ليساعدها على دفع اقتصادها أمام الحصار الصربي.
حتى تتم الاتفاقية كان لزامًا على الدور الأمريكي إنتاج مجهود مضاعف مع صربيا التي طالما ادعت حقها في الولاية السياسية والاجتماعية على أراضي الألبان، وحاربت ولا تزال ضد أي اعتراف دولي إضافي باستقلالهم لإدخالها ضمن صفقة ثلاثية.
نجح ترامب في مسعاه، وبالفعل أعلن بداية الشهر الحاليّ موافقة صربيا على التعاون الاقتصادي مع ما أسماها “حكومة المنطقة الانفصالية” التي خضعت لسيف المعز وذهبه، ولم تلتفت إلى تهديدات الاتحاد الأوروبي الذي يرفض أي تحرك منفرد لأي من الدول الخاضعة للوائحه، تجاه تغيير الوضع في القدس، قبل أن يكون هناك توافق دولي واتفاقية سلام يوافق عليها الفلسطينيون.
استضاف ترامب الرئيس الصربي ألكسندر فوسيتش وعبد الله هوتي في البيت الأبيض للتوقيع على اتفاقية لإنشاء روابط جوية ومد خطوط سكك حديدية وشق طرق سريعة بين العاصمة الصربية بلغراد وبريشتينا عاصمة كوسفو.
خسائر التطبيع
قد يبدو للبعض أن غنائم التطبيع كبيرة وضخمة للغاية، لكن كما هو الحال في كل بلد مسلم، التطبيع بالنسبة للغالبية العظمى خط أحمر، ليس ما قبله كما بعده لأي حكومة أو حزب سياسي يقدم على مثل هذه الخطوة، وهذا ما ينتاب أغلب شعب كوسوفو الآن وخاصة النخب الدينية، وعلى رأسهم بحري سيديؤ إمام وخطيب مسجد العاصمة الكبير والمفتى السابق للبلاد، الذي هاجم الاتفاق بشدة، مؤكدًا أن غالبية الكوسوفيين سيرفضون أي تحركات للتطبيع، فضلًا عن فتح سفارة بمدينة القدس المحتلة.
لم تقف كرة اللهب على رجال الدين وحدهم، بل تدحرجت إلى قوى المعارضة التي هاجمت الاتفاق ورفضت التطبيع مع دولة يعتبرونها تعيد إنتاج نفس المعاناة التي تعرضوا لها مع الشعب الفلسطيني، وبالتالي يجب أن يكون الهم الأكبر لحكومة بلادهم تدعيم استقلال كوسوفو والنأي بالنفس عن الانخراط في أي مشروعات دولية لا تناسبهم.
تعتبر المعارضة أن الاتفاق مفرغ من مضمونه، فالفائدة لن تعود أصلًا إلا على “إسرائيل” التي ستربح سياسيًا من ضم بلد بأغلبية مسلمة إلى نادي الدول المسلمة المطبعة معها، ما ينعكس على ثقلها الدولي وتأكيد شرعيتها، وعلى المستوى الاقتصادي، ستذهب الفائدة مباشرة إلى صربيا التي تعتبر أكبر الدول الصناعية بالبلقان ولمثل هذه الاتفاقات فائدة كبرى لها.
على المستوى الدبلوماسي للدولة، تعتبر المعارضة أن المستفيد الأكبر بجانب “إسرائيل” من هذه العملية، إدارة ترامب وأجندته الخارجية في الشرق الأوسط، التي يستثمر فيها للانتخابات القادمة، حيث يروج لنفسه باعتباره الداهية التاريخي للسياسة الخارجية والاقتصاد الأمريكي.
فترامب بهذه القفزات لم يعد مدافعًا عن بقاء “إسرائيل” فقط ، بل أصبح بعبعًا للاستثمار الصيني، الذي سيمعنه من البقاء في أقوى دول البلقان، ليثبت أنه القيصر الوحيد القادر على تحجيم الصين، وبعد أن ساهم في تقزيمها بشدة داخل السوق الأمريكية، نقل حصاره لها إلى كل مكان يتنافس فيه اقتصاد البلدين بالعالم.
تنهي المعارضة اللغط بشأن القضية، فبالنسبة لهم لا بديل عن التزام كوسوفو بموقفها التاريخي من قضية فلسطين التي كانت داعمة دائمًا لقرارات الأمم المتحدة التي لا تزال تؤكد أن الحل الوحيد لآخر أزمة احتلال في العالم، لن يكون إلا بدولة مستقلة ذات سيادة، عاصمتها القدس الشرقية على حدود عام 1967 وليس أقل من ذلك!