أعادت الولايات المتحدة فرض كل العقوبات الأممية الموقعة على إيران بسبب ما أسمته “انتهاكات” الأخيرة فيما يتعلق بالاتفاق النووي المبرم في يوليو/تموز 2015 رغم انسحاب واشنطن الأحادي منه قبل عامين، وذلك بعد انقضاء مهلة الشهر الواحد التي أعطتها إدارة دونالد ترامب لمجلس الأمن بتفعيل آلية “فض النزاع”.
وبمنتصف ليل الـ20 من سبتمبر/أيلول الحاليّ دخلت تلك الآلية حيز التنفيذ، لتعيد واشنطن فرض العقوبات من طرف واحد، وسط خلافات حادة مع شركاء الاتفاق النووي، بشأن قانونية هذا التحرك الفردي، علمًا بأن أربعة من الشركاء الخمس دائمون في المجلس (الصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا)، بجانب ألمانيا، العضو غير الدائم.
يأتي هذا التحرك الذي يستهدف دفن الاتفاق النووي إلى الأبد، وهو مبتغى ترامب منذ دخوله البيت الأبيض، في وقت يسابق فيه الرئيس الأمريكي الزمن للفوز بولاية رئاسية ثانية، الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات عن توقيت هذا الإجراء ودوافعه الحقيقية.
وفي المقابل هدد الرئيس الإيراني حسن روحاني بأن بلاده “سترد برد ساحق على بلطجة أمريكا”، معتبرًا أن ما حدث باطل قانونًا، وهو رأي الحلفاء الأوروبيين على رأسهم بريطانيا وفرنسا وألمانيا الذين يرون أن الولايات المتحدة وإدارة ترامب لا تملك السلطة ولا الحق لتنفيذ مثل هذه الخطوة.
لم يكن الهدف الأمريكي المعلن من وراء تلك الإجراءات إعادة فرض العقوبات على إيران فحسب، إذ إن مثل تلك العقوبات والقيود الأممية مفروضة بالفعل على أرض الواقع منذ سنوات، وتلتزم بها معظم الدول التي تتعاون مع طهران بشكل أو بآخر، غير أن التوقيت وقبيل أقل من 6 أسابيع من انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني الحاسمة يضع هذا التحرك في مرمى تساؤلات أخرى بشأن أهداف جديدة تحتاج إلى تسخين الأجواء بشكل قد ينذر بحرب أو مواجهات عسكرية.. فهل من الممكن ذلك؟
تصعيد التوتر
بحسب القرار الأمريكي فإن الأمور ستسير نحو المزيد من توتير الأجواء، إذ يستلزم قيام السفن الأمريكية بمهاجمة واعتراض سفن الشحن الإيرانية في المياه الدولية، وهو التحرك الذي أكده وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو الذي يرى أنه تجاوز مرحلة القانونية إلى الضرورة الملحة لدعم القرارات الأممية.
وفي الجهة الأخرى من المتوقع أن يقابل هذا الإجراء – حال وقوعه – رفض دولي من بعض أعضاء مجلس الأمن التي من المرجح أن تعتبر هذا السلوك عملًا عدوانيًا، وذلك رغم استيلاء واشنطن خلال الفترة الماضية على أكثر من سفينة إيرانية والتحفظ عليها.
من الواضح أن هناك نية مبيتة من الإدارة الأمريكية لتهيئة الرأي العام نحو توتير الأجواء أكثر وأكثر مع الجانب الإيراني، ومحاولة تصدير صورة للشارع الداخلي أن انتهاكات طهران تجاوزت خطوطها الحمراء ولا بد من الرد عليها
التحرش الأمريكي بإيران ليس شرطًا أن يصل إلى الخليج العربي أو مضيق هرمز، ومع ذلك ليس هذا أمر مستبعد، وهو ما قد لا يستبعد معه نشوب أي مواجهات عسكرية مع القوات البحرية الإيرانية، وهي الخطوة التي لو أقدمت عليها طهران – كما توعدت قيادتها -، فربما تكون فرصة كبيرة للإدارة الأمريكية لتبرير تحركاتها والحصول على دعم لمواجهتها على اعتبار أن ما قام به الإيرانيون عملًا عدوانيًا يتطلب ردًا حاسمًا.
تهيئة الرأي العام
من الواضح أن هناك نية مبيتة من الإدارة الأمريكية لتهيئة الرأي العام نحو توتير الأجواء أكثر وأكثر مع الجانب الإيراني، ومحاولة تصدير صورة للشارع الداخلي أن انتهاكات طهران تجاوزت خطوطها الحمراء ولا بد من الرد عليها، ولعل تسريب ما يقال بشأن “المؤامرة” الإيرانية لاغتيال السفير الأمريكي في جنوب إفريقيا ردًا على اغتيال الجنرال قاسم سليماني يفسر بشكل كبير طلاسم المشهد.
مجلة “بوليتيكو” الأمريكية كانت قد نشرت قبل أيام قصة محاولة اغتيال طهران لسفيرة واشنطن في جنوب إفريقيا، لانا ماركس، ونفت عن مسؤولين أمريكيين قولهما إنهما كانا على علم بوجود تهديد ضد السفيرة منذ الربيع الماضي، غير أن التهديدات تضاعفت خلال الآونة الأخيرة، متهمين السفارة الإيرانية في بريتوريا بالضلوع في المخطط، وأنه تم “إبلاغ السفيرة ماركس بالتهديد”.
كما نقلت المجلة عن تقارير أخرى تحدثت عن أسماء أخرى على قائمة الاغتيالات الإيرانية على رأسها “الجنرال كينيث ماكنزي، قائد القيادة المركزية الأمريكية” الذي قال الشهر الماضي إنه يتوقع ردًا جديدًا من إيران على الوجود الأمريكي المستمر في العراق.
وبحسب المجلة فإن شرطة جنوب إفريقيا أشارت إلى أنها كانت على علم بالمؤامرة في نفس اليوم الذي نُشر فيه التقرير، ما يعني أن الإدارة الأمريكية هي الأخرى على علم بما حدث من خلال تقارير استخباراتية، لكن ترامب في تغريدته التي توعد فيها طهران، لم يشر إلى تلك التقارير الاستخباراتية، ما أثار الكثير من الشكوك في تلك الرواية.
وبعيدًا عن مدى مصداقية تلك القصة التي نشرتها المجلة الأمريكية ووظفها ترامب لخدمة مخططه في الترويج لفكرة العدوان الإيراني المحتمل ضد مصالح بلاده، فإن النتيجة واحدة وهي تهيئة الجمهور الأمريكي لحاجته الماسة إلى الرد على تلك التهديدات التي تواجهها البلاد في الداخل والخارج.
دعاية انتخابية
تتعدد الأهداف الأمريكية من وراء هذا القرار الأحادي، من بينها محاولة إعادة تدويل الملف الإيراني مرة أخرى مما يخلق إجماعًا أمميًا ضد طهران، تعبيدًا للطريق نحو تأسيس وضع قانوني دولي حقوقي جديد ضد الإيرانيين، وبما يضمن تحييد القوى الداعمة لها.
هذا بجانب التخطيط لحرمان طهران من بعض الامتيازات المتبقية من الاتفاق الموقع وفي مقدمتها تخصيب اليورانيوم، استباقًا لمراحل إيران الخاصة بتقليص الانسحاب من الاتفاق والإسراع لإنهاء عملية التخصيب الكاملة، وهي ورقة الضغط المستخدمة ضد الحلفاء الأوروبيين.
غير أن توقيت هذا الإجراء دفع بهدف الدعاية الانتخابية ليتصدر قائمة الأهداف المنشودة، فالتصعيد في الوقت الحاليّ وعلى مقربة من الماراثون المتوقع سخونة أجوائه، يضع التحرك الترامبي في صلب الحسابات الانتخابية للرئيس الأمريكي.
وتهدف تلك الدعاية المجانية التي يسعى ترامب لتحقيقها من هذا التوتير إلى استرضاء وكسب أصوات التيار الصهيومسيحي الأمريكي، هذا بخلاف غض طرف الناخب الأمريكي عن المشاكل الداخلية وتوجيه دفة الاهتمام بالقضايا الخارجية التي تهدد أمن البلاد واستقرارها.
توقع ترامب ومن معه أن الدعم غير المسبوق من أي رئيس أمريكي سابق، تجاه اللوبي الصهيوني وحليفه الإسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية، سيكون الباب الكبير نحو الولاية الثانية بسهولة ودون مشقة
التطبيع وحده ليس كافيًا
رغم الإنجازات التي حققها ترامب في مسار خدمة الأهداف الإسرائيلية وتلبية طموحات اليهود عبر الضغط لإبرام اتفاق سلام بين “إسرائيل” والإمارات والبحرين، وهي الخطوة التي لاقت ترحيبًا كبيرًا، هذا بجانب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال ونقل سفارة بلاده إليها، فإن ذلك لم يكن كافيًا لضمان الأصوات التي تؤهل الرجل للفوز بولاية ثانية، وهو ما دفعه للبحث عن دوافع ومحفزات تصويتية أخرى.
توقع ترامب ومن معه أن الدعم غير المسبوق من أي رئيس أمريكي سابق، تجاه اللوبي الصهيوني وحليفه الإسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية، سيكون الباب الكبير نحو الولاية الثانية بسهولة ودون مشقة، غير أن الأمور لم تتفق وحسابات الرئيس.
ينتوي ما يقرب من ثلثي اليهود في أمريكا التصويت لصالح تحالف بايدن مقابل 30% فقط لصالح ترامب، وذلك وفق المسح الذي أجراه معهد الناخبين اليهود (JEI) (مؤسسة غير حزبية) في الفترة بين 2 و7 من سبتمبر/أيلول الحاليّ وأعلنت نتائجه في 14 منه.
فقبل شهر ونصف على إجراء الماراثون الانتخابي أكد المسح في ضوء النتائج التي توصل إليها تفوق بايدن بشكل كبير على ترامب في أوساط الناخبين اليهود الأمريكيين، وهو ما يمثل تراجعًا كبيرًا عما كان عليه الوضع في 2016، حين حصل ترامب على نسبة الدعم الأكبر داخل الجالية اليهودية حين ترشح أمام هيلاري كلينتون.
العينة التي اختارها المعهد لإجراء المسح رأت أن بايدن أفضل من ترامب في التعامل مع بعض القضايا الحساسة، وثيقة الصلة بالناخب اليهودي، وفي مقدمتها “التعامل مع معاداة السامية وأمن المجتمع والعلاقات الأمريكية الإسرائيلية”، فيما رفض 67% من اليهود سياسات ترامب وأداءه الوظيفي بشدة.
واختتم الاستطلاع نتائجه بشعور معظم من شملهم المسح بعدم الأمان في ولاية الرئيس الحاليّ، 56% من العينة قالت إن أمريكا ستكون “أقل أمانًا لليهود” إذا أعيد انتخاب ترامب، فيما يعتقد 25% أنها ستكون “أكثر أمانًا” مقارنة بما كان عليه الوضع قبل أربع سنوات، أي قبل تولي ترامب الحكم.
وفي المجمل ورغم التحذيرات التي تشير إلى أن الذهاب إلى حرب – لو كانت دعائية – خطوة سياسية محفوفة بالمخاطر بالنسبة لترامب لا سيما في المراحل اللاحقة، حين تظهر أسئلة من نوعية ضرورات تلك الحرب ودوافعها الحقيقية، فضلًا عن رد الفعل غير المتوقع من طهران الذي ربما يُدخل المنطقة في أتون الاضطرابات، فإن الرجل لم يعد يفكر إلا في ولايته الثانية أيًا كانت الوسائل، فمكيافيلليته كفيلة أن تقوده إلى الكرسي ولو عبر إستراتيجية الأرض المحروقة.