“سنجعل تركيا قاعدة عالمية للإنتاج والتكنولوجيا”.. بهذه الكلمات وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان طموح بلاده في نهاية شهر أغسطس من هذا العام خلال مشاركته في حفل افتتاح مركز “MESS” للتكنولوجيا و40 مصنعًا كبيرًا في إسطنبول، مضيفًا “هذا المركز سيكون منطلقًا لفتح عهد جديد في التكنولوجيا التنافسية بالبلاد”.
إن المطلع على حال تركيا اليوم، يدرك تمامًا أنها مغايرة لما كانت عليه قبل 2002، فتركيا الأمس كان المواطن فيها يعاني من قلة الثقة في الحكومة بشكل كبير جدًا بسبب الفساد والعجز، وما الانهيار الاقتصادي الكبير الذي حدث في 2001 إلا انعكاسًا للمشاكل السياسية والاقتصادية التي كانت تضرب تركيا لسنوات.
شهدت تركيا منذ تأسيس الجمهورية الحديثة عام 1923 محاولات عديدة لإنتاج الأسلحة والماكينات بقدرات محلية، إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل بسبب عدم وجود دعم حكومي للمشاريع أو عرقلة متعمدة تقف وراءها القوى التي تريد أن يبقى الاقتصاد التركي يعتمد بالدرجة الأولى على الزراعة، كي تستمر حاجة البلاد إلى الخارج في مجالات التكنولوجيا والصناعات الدفاعية.
بينما تركيا اليوم من بين الدول المتقدمة في العالم وثالث أكبر اقتصاد في العالم من حيث القوة الشرائية وفقًا لكتاب حقائق العالم لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية الذي ينشر بشكل سنوي، كما تحتل المرتبة الـ19 من إجمالي الناتج المحلي الاسمي في العالم، وتطمح أن يصبح اقتصادها ضمن أقوى 10 اقتصادات في العالم سنة 2023، كما أصبحت تركيا واحدة من 4 دول فقط تمتلك أحدث التقنيات في مجال صناعة الطائرات دون طيار (درون).
لكن كيف تحقق ذلك؟
بداية الألفية وخريطة طريق متكاملة
لغرض النهوض بواقع تركيا الاقتصادي والتكنولوجي عمل حزب العدالة والتنمية الحاكم بعد 2002 على تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي، ثم رسم خريطة طريق متكاملة، وبغية تحقيق هدف الحكومة في الإصلاح الاقتصادي عمل من خلال أربعة محاور وهي:
1. تخفيض التضخم، ووفق تقرير للأستاذ بجامعة بهشاشهير في إسطنبول الدكتور سيف الدين غورسال، فإن: “الحكومة التركية عملت على تخفيض التضخم المالي الذي كان بنسبة 30% إلى 4% وبالتالي رفعت قيمة الليرة التركية أمام سعر الذهب والعملات الأجنبية الأخرى”.
2. جذب الاستثمار، كان نهج الحكومة والمؤسسات الاقتصادية جعل تركيا جاذبة للاستثمار، ووصلت مبالغ الاستثمار التي تم جلبها لتركيا إلى 20 مليار دولار سنويًا، ووصل عدد الشركات الأجنبية خلال 78 عامًا إلى 5 آلاف شركة، بينما وصل العدد خلال الـ11 سنة الأخيرة إلى 40 ألف شركة أجنبية.
3. تسهيل الديون وتقليل الفوائد، إذ تراجعت نسب الفائدة من 65% إلى أقل من 10%، وأدى هذا إلى زيادة السيولة من خلال انخفاض أسعار الفائدة وتراجع نسبة الديون العامة بالنسبة للدخل القومي من 74% إلى 36%.
4. تعزيز الصادرات، صرحت وزيرة التجارة التركية روخسار بكجان، بأن صادرات تركيا بلغت 180.46 مليار دولار، بزيادة 2.04% في 2019 وهو رقم قياسي تاريخي.
مضيفة أن العجز في التجارة الخارجية انخفض بنسبة 44.9% من 54.3 مليار دولار إلى 29.9 مليار دولار، والحكومة دعمت المصدرين بـ3.2 مليار، وفي عام 2020 بلغ الدعم 3.8 مليار.
كما أن صادرات تركيا من الخدمات ارتفعت بنسبة 10.3% لتصل إلى 46.6 مليار دولار، أما صادرات تركيا من المواد الخام للعام 2019، فقد بلغت 85 مليار دولار، والسلع الاستهلاكية 72.7 مليار دولار، وكانت ألمانيا والمملكة المتحدة والعراق الوجهة الرئيسية للصادرات التركية.
عملية انضمام تركيا للبنية التحتية الذكية
بوتيرة متسارعة جدًا باتت تركيا تعتمد على الإنتاج المحلي في جزء كبير ومهم من متطلباتها في الصناعات التكنولوجية المدنية والعسكرية، بعد أن كانت تعتمد على الخارج بشكل شبه كامل، حيث أنجزت في السنوات القليلة الماضية عددًا من المشاريع الضخمة التي مكنتها من تطوير قطاع التكنولوجيا بصورة كبيرة.
على سبيل المثال ارتفع عدد مراكز “تكنوبارك” – التي تضم شركات التقنية التركية – من مركزين عام 2001 إلى 84 مركزًا عام 2019 موزعة على 56 مدينة تركية.
كما استغلت الكثير من الأنظمة التقنية المطورة لحل مشاكل كانت تؤرق المواطنين لعقود في السابق، منها مشاكل انقطاع المياه، التي اعتبرتها تركيا من أولويات البلديات التركية، واستخدمت أنظمة حوسبية كنظام “SCADA” لتحديد فاقد المياه وأعطال الشبكة.
وبغية التأسيس للمدن الذكية كان لا بد من تطوير نظام النقل والمواصلات، لتسهيل التنقل بين المدن والقصبات، فأنشأت جسر “ياووز سليم” المعلق عام 2016 الذي تعبره 135 ألف سيارة يوميًا، وفي العام ذاته جرى افتتاح نفق “أوراسيا” بطول يمتد إلى 14.6 كيلومتر، ليقلص زمن انتقال السيارات بين الشطرين الآسيوي والأوروبي لإسطنبول في ساعات الذروة من مئة دقيقة إلى 15 دقيقة فقط.
ويمثل مطار إسطنبول الذي افتتح أواخر عام 2018 واحدًا من المصادر الجديدة للدخل الهائل في تركيا، فمنذ أن بدأ العمل بطاقته الكاملة في أبريل/نيسان 2019 استخدمه 52.5 مليون مسافر، وهم نصف عدد مستخدمي مطارات تركيا في 2019 البالغ نحو 104.2 مليون مسافر، هذا ولم تنجز منه إلا المرحلة الأولى من أصل أربع مراحل!
كما تعتزم تركيا إطلاق قمرها الصناعي المحلي للاتصالات “توركسات 6 أي” في 2022، ويمتاز القمر الصناعي الجديد بأن الطاقم المشرف على صناعته من الأتراك، ويتم تجهيزه بإمكانات محلية خالصة.
وخلال العقد الأخير، نمت الجامعات التركية بشكل كبير، فقد ارتفع عددها من 76 جامعة عام 2002 إلى 202 جامعة حاليًّا، يضاف إليها 15 جامعة أخرى تحت التأسيس.
أدت استثمارات البنية التحتية للألياف الضوئية إلى تسريع الانترنت وزيادة المستخدمين، مع توسع مساحة تغطية شركة Telekom التركية بـ256000 كيلومتر، مما أدى إلى زيادة نسبة مستخدمي الإنترنت إلى 89.6% نهاية عام 2019، كما أن هناك 52 مليون مستخدم نشط لوسائل التواصل الاجتماعي في تركيا.
تقود مؤسسة (MinEnv) تطبيقات المدن الذكية في تركيا، بتكليف من وزارة البيئة وبرامج نظم المعلومات وبرامج تطوير نماذج البيانات ثلاثية الأبعاد، وستستخدمهم جميع البلديات ومؤسسات الحكومة المركزية.
تعتزم الحكومة التركية استبدال 30% من إنارة الشوارع بأنظمة إضاءة LED ذكية بحلول عام 2023، ويتم تركيب أنظمة النقل الذكية (ITS) في العديد من المدن التركية.
وبإدارة النفايات وإعادة التدوير، تتوافق تركيا مع معايير الاتحاد الأوروبي في إنشاء بنية تحتية بيئية وسوق تكنولوجيات تبلغ قيمتها 96 مليار دولار وتكتمل بحلول عام 2024، ويتم تنفيذ أنظمة تحويل النفايات إلى طاقة، كما استفادت الشركات الأمريكية مثل Pfizer من هذه البنية التحتية التكنولوجية لإنشاء مكاتب ومراكز بحثية موسعة في تركيا.
صرح نائب وزير الصناعة والتكنولوجيا التركي، بأن صادرات تركيا من المنتجات عالية التقنية بلغت قرابة 5 مليارات دولار في عام 2019، كما صرحت إدارة التجارة الدولية بوزارة التجارة الأمريكية بأن تركيا العاشرة في سوق صادرات التكنولوجيا البيئية الأمريكية.
مؤشرات التكنولوجيا الدفاعية التركية الكبيرة
وفقًا لتقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، زادت صادرات تركيا من الأسلحة بنسبة 170% في السنوات الأربع الماضية عما كانت عليه في الفترة بين 2009-2013، وهو رقم قياسي في العالم من حيث تصدير الأسلحة.
تعمل تركيا على تطوير تقنياتها وقدراتها العسكرية، في إطار خطة التنمية الوطنية التي تسميها رؤية 2023.
أنتجت البلاد في السنوات الأخيرة البنادق الدفاعية والمركبات المدرعة ومدافع الليزر والطائرات دون طيار (UAV) والمعدات العسكرية والمروحية متعددة الأدوار Gokbey ودبابات محلية وطائرات مقاتلة وأنظمة دفاع وطائرات دون طيار (درون)، كما يجري العمل على صناعة حاملة طائرات ضخمة ومقاتلة حربية وأنظمة للدفاع الصاروخي.
وأعلنت Defense News ومقرها الولايات المتحدة أن خمس شركات دفاع تركية كانت من بين أكبر 100 شركة دفاعية في العالم.
تحلق طائرات “بيرقدار” المسيرة (درون) على قمة تكنولوجيا الصناعات العسكرية التركية التي باتت تفرض نفسها بديلًا عن التكنولوجيا المتطورة لدى الولايات المتحدة و”إسرائيل”، وتم تصديرها إلى قطر وأوكرانيا وإندونيسيا وتونس.
وخلال السنوات العشرة الأخيرة، نمت صناعة الطائرات من دون طيار المحلية الصنع بشقيها الاستكشافي “IHA” والمسلح “SIHA”، لتحتل تركيا موقعًا بين أول أربع دول في العالم في هذا المجال.
ووفقًا لتقارير غربية، باتت تركيا تزاحم حلف شمال الأطلسي (ناتو) في صناعة وتصدير الطائرات المسيرة بعدما نجحت طائراتها عام 2018 في تنفيذ غارات موجهة بالأقمار الصناعية، وهي تحلق بمحرك منتج محليًا، قبل أن تتطور في العام ذاته لتتمكن من التحليق المتواصل لأكثر 24 ساعة.
كما احتفلت تركيا بعيد النصر الوطني هذا العام بعرض ضوئي نفذته 300 طائرة مُسيرة (درون) فوق المجمع الرئاسي بالعاصمة أنقرة، ضمن عرض شيق سيطرت عليه خوارزميات الذكاء الاصطناعي.
أحيت تركيا ذكرى عيد النصر الوطني بعرض ضوئي نفذته 300 طائرة مُسيرة فوق المجمع الرئاسي بالعاصمة أنقرة?? pic.twitter.com/4KYG0UOiXJ
— AKAR HAKAN ?? آكار هاكان (@akarh90) August 31, 2020
وتقول التقارير إن قطاع الصناعات الدفاعية يتطلع لزيادة حجم مبيعاته إلى 26.9 مليار دولار وصادراته إلى 10.2 مليار دولار، كما يهدف لزيادة معدل الإنتاج المحلي إلى 75%، كما ستبلغ صادراتها الدفاعية والفضائية 25 مليارًا في السنة بحلول عام 2023.
وتُظهر تقارير الصادرات العسكرية التركية أن الولايات المتحدة الأمريكية أكبر المستوردين للسلاح من تركيا بقيمة 748 مليون دولار، ثم ألمانيا بقيمة 242.21 مليون دولار، وحلت سلطنة عمان ثالثًا، تلتها قطر ثم الإمارات العربية المتحدة وبعدها هولندا وبريطانيا والهند وبولندا وفرنسا أخيرًا.
كما نجحت الحكومة التركية في إنجاز أول قمر صناعي محلي للمراقبة والرصد “إيمجا”، وسيتم إرساله إلى الفضاء العام المقبل، كما صرح رئيس الاستخبارات العسكرية السابق في وزارة الدفاع التركية إسماعيل حقي بأن “هذا القمر الصناعي مهم جدًا لتركيا، حيث يمكن له التقاط صور عالية الدقة من مسافة عالية وبعيدة، ولديه أيضًا إمكانية التقاط صور مباشرة”، وسيكون مهمًا في مكافحة الإرهاب والقضايا الاستخباراتية، كما تطمح تركيا إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي والاعتماد كليًا على الإنتاج المحلي بحلول عام 2023.
السيارة الكهربائية TOGG
كشف الرئيس أردوغان نموذجًا أوليًا لأول مركبة تركية محلية الصنع، إذ تم كشف نموذجين محليين للسيارات الكهربائية، سيارة دفع رباعي كهربائية وسيدان، ومن المتوقع أن يبدأ الإنتاج عام 2022، ومن المقرر أن تبلغ تكلفة المشروع المدعوم من الحكومة أكثر من 3 مليارات يورو، مع خطط لإنتاج خمسة طرازات في غضون 15 عامًا.
السيارة مشروع مشترك بين خمس شركات قابضة واتحاد أعمال، سيصنع 175000 وحدة من سيارات الدفع الرباعي وسيارات السيدان سنويًا بحلول عام 2022.
قال جوركان كاراكاس الرئيس التنفيذي لمجموعة المشاريع المشتركة للسيارات (TOGG) في تركيا: “(TOGG) سيكون لديها نطاق بطارية كافٍ للتنافس مع البدائل التي تعمل بالبنزين، فقد تم تطوير هندسة البطارية ووحدة الطاقة الإلكترونية وتصميم البطارية بتقنية عالية، التي ستوفر مدى يتراوح بين 300 إلى 500 كيلومتر، وحاصلة على براءة اختراع وتتمتع بالكفاءة والراحة والمتانة والسلامة”.
وأوضح أن المصنع سينتج مليون سيارة من خمسة طرازات مختلفة حتى عام 2030، مبينًا أن 93% من مصادر التوريد لـTOGG اكتملت بنسبة 78% من تركيا و22% من الدول الأوروبية والآسيوية.
سيشهد مشروع TOGG استثمارًا ثابتًا يزيد على 22 مليار ليرة تركية (3.21 مليار دولار)، كما سيوظف المصنع 4323 موظفًا، من بينهم 300 فرد مؤهل تقنيًا.
كما اختير مؤخرًا “وادي تكنولوجيا المعلومات” في ولاية كوجالي موقعًا لمقر إنتاج (TOGG).
تتميز كوجالي بقربها من مقرات عدد كبير من الشركات التي يتوقع أن تتعاقد مع مشروع تصنيع السيارة المحلية للمشاركة في عملية الإنتاج، وهي قريبة من ولاية بورصة قلب صناعة السيارات التركية، ويربط بينهما جسر عثمان غازي.
بالمحصلة، وبالرغم من أن بعض العواصف تضرب سواحل الاقتصاد التركي وتذبذب الليرة التركية بين الفينة والأخرى، إلا أن لدى أنقرة خطة اقتصادية رصينة تمضي وفقها، قلّ أن يمر شهر دون أن نشهد أحد ثمار نتائجها.