“أيها الأجانب.. ها هو ذا، إنه وطني، هنا ولدت وهنا تعيش أحلامي”. بابلو نيرودا – عودة
تفتتح الكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي روايتها “سفينة نيرودا – بتلة بحر طويلة” بهذا المقتطف من شعر بابلو نيرودا، وعبر هذه الرواية التي ترجمها السوري الراحل صالح علماني تغوص الليندي كعادتها في الحديث عن المنفى والهروب والبدء من جديد والحنين إلى الوطن، وعلى غرار رواياتها السابقة “بيت الأرواح” و”ابنة الحظ” تتعلق الليندي بحيوات البشر العاديين وتفاصيلها الصغيرة ثم تقوم بتضفيرها مع أحداث التاريخ.
تنتشل الليندي ما هو مهمل من قاع النسيان لتصنع منه عملًا ملحميًا، ثم تضيف إليه البعد الإنساني الذي يحوله إلى صرخة احتجاج ضد القهر والاستبداد والظلم والتمييز العرقي.
قصة الرواية: البداية من الحرب الأهلية الإسبانية
“بعد وقت متأخر جدًا، سیستخلص العالم الحسابات المفروضة، لقد مات قرابة خمسة عشر ألف شخص في مخيمات الجوع والحرمان وسوء المعاملة والأمراض الفرنسية، تسعة من كل عشرة أطفال ماتوا”.
تدور أحداث رواية “سفينة نيرودا” في فترة زمنية طويلة تمتد من عام 1938 وحتى عام 1994 وفي أكثر من بلد، إذ تأخذنا الليندي وتطوف بنا على إسبانيا وفرنسا وتشيلي وفنزويلا، وتبدأ الأحداث من منطقة كتالونيا عام 1838 حين كانت الحرب الأهلية الإسبانية في ذروتها، وتحكي لنا الليندي حكايتها من خلال عائلة البروفيسور دالماو وزوجته كارمي والابنين وليام وفيكتور.
التحق فيكتور الابن الأكبر لعائلة دالماو بالقوات الجمهورية في مدريد بعد أن درس الطب، أما روزر فقد انضمت لعائلة دالماو قبل ذلك بسنوات طويلة كزوجة للابن الأصغر وليام، عاشت روزر قبل انضمامها للعائلة حياة صعبة، إذ كانت تعمل راعية غنم ثم انتشلها أستاذ التاريخ سانتياغو غوثمان بعد أن لاحظ أذنها الموسيقية ليعهد إليها بعد ذلك إلى البروفيسور مارسيل لويس دالماو مؤسس أوركسترا برشلونة السيمفونية الشبابية من أجل مساعدتها على تعلم العزف على البيانو، وقتذاك كانت كارمي تعلم المتطوعين بمشيليات الجمهوريين القراءة والكتابة، فيما ذهب وليام لمقاتلة فرانكو وحلفائه الألمان والطليان لكنه قُتل تاركًا روزر حاملًا بطفله.
الجنرال فرانكو ينقلب على الجمهورية ويستولي على السلطة
تنتهي الحرب بانتصار فرانكو وانقلابه على الجمهوريين ومن ثم استيلائه على السلطة ومطاردة المعارضين، ومنهم عائلة دالماو، ولأن دالماو الأب مات فور وصول فرانكو للسلطة فيما فضلت كارمي المكوث في أرض الوطن، فلم يجد فيكتور وروزر بدًا من النزوح صوب الحدود الفرنسية عبر الطرق الجبلية الوعرة ليصلا إلى بر الأمان، لكنهما يصطدمان بواقع مخيمات اللاجئين الفرنسية غير الإنسانية.
يحمل الجزء الذي تحكي فيه الليندي عن مأساة اللاجئين الإسبان في المخيمات الفرنسية وجعًا كبيرًا وحملًا سياسيًا ثقيلًا، وما يزيد من وطأة الأمر أن الرواية ترتكز في حبكتها على أحداث حقيقية وشهود ما زالوا يحملون عبء هذا الحدث في ذاكرتهم، وهو الأمر الذي أكدته الكاتبة في أكثر من لقاء صحفي، وعلى خلفية معاناة اللاجئين تأتي أحداث جسام مثل الحرب الأهلية الإسبانية ومن بعدها اندلاع الحرب العالمية الثانية ثم وقوع زلزال تشيلي المروع في يناير 1939 الذي تسبب في مقتل أكثر من 20 ألف شخص وهدم عدة مدن.
الشاعر بابلو نيرودا: بطل الرواية الحقيقي
قبل أكثر من أربعين عامًا سمعت الكاتبة إيزابيل الليندي حكاية سفينة وينيبنغ التي جهزها الشاعر التشيلي بابلو نيرودا من أجل اللاجئين الإسبان، وفي وقت ما قررت أن تكتب روايتها عن تلك الحكاية، إذ تكشف لنا الليندي الوجه الإنساني لنيرودا الذي تحدث مع الرئيس التشيلي آنذاك بيدروا سيردا وحصل منه على تصريح بدخول اللاجئين الإسبان، لكن كانت هناك عقبة وحيدة في طريق نيرودا وهي الحصول على التمويل اللازم لشراء السفينة واستقدام اللاجئين ولأن تشيلي كانت تمر بأزمة اقتصادية وقتها فقد تعذر الحصول على التمويل اللازم.
بعد ذلك قرر نيرودا أن يشتري السفينة من ماله الخاص لينقل أكثر من 2000 لاجئ إسباني إلى الأراضي التشيلية حتى يبدأوا حياة جديدة، وهنا دعونا نعود للرواية مرة أخرى، نحن الآن في مدينة بوردو الفرنسية وتحديدًا في الـ4 من أغسطس عام 1939 وهو اليوم الذي سيظل محفورًا للأبد في ذاكرة فيكتور وروزر، إذ تم اختيارهما ليكونا ضمن اللاجئين الذين سينطلقون إلى تشيلي، وبعد مرور أكثر من خمسين عامًا على هذا اليوم سنرى فيكتور دالماو وقد أصبح واحدًا من أشهر جراحي القلب في تشيلي.
شبح الاستبداد يخيم على الأجواء مرة أخرى
في أثناء قراءتك لرواية “سفينة نيرودا” سيلح عليك سؤال وحيد: لماذا لم تنه الليندي أحداث روايتها مع دخول فيكتور وروزر إلى الأراضي التشيلية؟ ولماذا عمدت إلى مد الأحداث حتى عام 1994؟ والإجابة ستأتيك عزيزي القارئ في الفصول الأخيرة حين يكون فيكتور شاهدًا على انقلاب عسكري دموي آخر في تشيلي قام به العسكريون بقيادة بينوشيه وبتحريض أمريكي ضد سلفادور الليندي.
وهنا يجد فيكتور نفسه في السجن بسبب علاقته بالرئيس المقتول، لكنه يخرج بعد ذلك ليخوض رحلة هروب أخرى مع روزر إلى فنزويلا ثم يقرران بعد ذلك الرجوع إلى إسبانيا، لكنهما يكتشفان أن لا مكان لهما في بلدهما، ففرانكو أحكم قبضته الحديدية على جميع أرجاء البلاد وهنا يقرر فيكتور وروزر العودة إلى تشيلي مرة أخرى التي تجسد بالنسبة لهما الوطن والمنفى.
الحقيقة أن الليندي استطاعت ببراعة شديدة أن تنقل لنا ألم المنفى والحنين للوطن وارتباك المشاعر بينهما، ورغم أن الرواية تحمل في طياتها الكثير من الأحداث السياسية المكثفة كما تتطرق لشخصيات عاصرت فترة زمنية طويلة في ملحمة تجاوزت الستين عامًا، فإن القارئ تمكن من التقاط الخيط الرفيع الذي يغوص في ثنايا الشخصيات وصراعها الداخلي ومقاومتها من أجل البقاء في ظل حالة عدم الاستقرار التي ظلوا يعانون منها بداية من إسبانيا وحتى أمريكا الجنوبية.
وما يميز شخصيات الليندي أنهم ورغم معاناتهم من التشرد والتهجير والمعاناة، فإن تلك الأحدث لم تتمكن منهم، وربما يتجسد جمال رواية “سفينة نيرودا” في تماسك شخصيات الرواية دون السقوط في هوة السرد التاريخي، فنحن طوال الوقت مهمومون بمصير فيكتور ومعاناته ومقاومته المستمرة في معترك الحياة.
في الختام، يمكن القول إن رواية “سفينة نيرودا” عمل فني عن الوطن واللجوء، عن الحرب والحب، عن شبح الديكتاتورية والاستبداد الذي يدمر الأوطان أينما حل وارتحل، عن الشاعر الكبير بابلو نيرودا الذي استحضرته الليندي بقوة في كل فصول الرواية، إذ لم تكتف بوضع مقطع من قصائده في مستهل كل فصل من روايتها، بل وضعت اسمه أيضًا في عنوان الرواية، كأن الكاتبة التي ترهف السمع لتاريخ شعبها تخبرنا أن التاريخ الحافل لتشيلي لا يمكن أن يكتمل دون حضور شاعرها الأعظم نيرودا.