تنص قاعدة “التاريخ يكتبه المنتصرون” على أن تعيد الجهة المنتصرة صياغة التاريخ على هواها لتغذي الأجيال القادمة بمعلومات تلمع صورتها وتبرئ ذمتها، أما في لبنان، فقد تعدد المنتصرون وتعددت الروايات. لعل أكثر الأجوبة شيوعًا عند سؤال الطالب اللبناني عما يتذكره من حصص التاريخ في سنوات الدراسة الابتدائية والثانوية هي: أسباب الحرب العالمية الأولى والجراد والاستقلال وقلعة راشيا.
يقف الزمن في كتب التاريخ اللبنانية عند هذا الحد، فلا يأتي على ذكر أحداث ما بعد عام 1943، ورغم تبني الدستور اللبناني والبيانات الوزارية المتعاقبة بند “تحديث وتوحيد المناهج الدراسية لمواكبة العصر” (البيان الوزاري لحكومة حسان دياب 2020)، فإن تعنت الطاقم السياسي وإصراره على طمس حقيقة ما جرى حال دون ذلك ولا يزال.
بغض النظر عن الحجج التي تلجأ إليها السلطة لتبرير فشلها في إنجاز هذه الخطوة مرارًا وتكرارًا، التي تتراوح بين حرص السلطة الحاكمة المزيف على صون السلم الأهلي إلى تمسك كل طرف بسيناريو الأحداث والنتائج الملائم له، تبرز اليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى، ضرورة ملحة للمضي قدمًا وجديًا في هذا المسعى، فيقف لبنان حاليًّا أمام مفترق طرق مصيري، إذ تسنح له فرصة ذهبية، ولو كانت وعرة، للعبور إلى نموذج الدولة الحضارية الحديثة.
سردية واحدة
يستوجب العبور إلى العقد السياسي الجديد الكثير من الجهد أهمه على الصعيد التثقيفي التوعوي، يجب أن يبدأ العمل على تنقيح نوعية المعلومات التاريخية المنقولة إلى الطلاب التي غالبًا ما تحدد طبيعة فهمهم للمجتمع والسياسة وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.
وبما أن النظام المنشود هو الدولة المدنية التي تعامل الجميع سواسية تحت القانون بمعزل عن الانتماء الطائفي والعقائدي، لا بد من عرض الحقائق التاريخية وخاصة الحديث منها كما هي دون أي تحوير أو غربلة بغية التعلم من أحداث الماضي الطائفية لتفاديها في المستقبل، كما لا يمكن بأي شكل القبول بالبقاء على مناهج تُقارب التاريخ اللبناني من زاوية طائفة معينة، ناسفة بذلك مبدأ الانتماء إلى الوطن واحترام المواطن.
كانت الأحزاب اللبنانية، الطائفية بمعظمها، قد استمدت تاريخيًا قدرتها على ضمان الولاء الأعمى لها إما من خلال حجب الحقائق الموضوعية عن أنصارها (وهنا تندرج عدم الرغبة بتحديث كتب التاريخ والمناهج التربوية) وإما عبر حشو أدمغتهم بما يرثونه عن أهلهم وبيئتهم التي ما هي إلا معلومات منحازة مفصلة على قياس الطائفة والزعيم.
ينعكس هذا الواقع في نتيجة المسح الذي أُجري على 3.000 ولد بعمر الـ14 في 2007، حيث أظهرت النتائج أن الأكثرية تذكر الشخصية التاريخية المنحدرة من طائفتهم. تعلق الدكتورة مها يحيى، باحثة مستقلة والمشرفة على الإحصاء، أن الأولاد يتشربون القيم السياسية مباشرة من الأهل وليس المدرسة. وهنا تأتي أهمية ثورة 2019 التي تُعتبر محطة محورية من عمر لبنان الحديث حيث تمكن خلالها جزء كبير من الشعب اللبناني ولأول مرة أن يتمرد على الطائفية ويخلع عباءة الزعامة، فقد أصبحت الأجيال الجديدة متعطشة لمعرفة حقيقة ما جرى كي تكون بنفسها شخصية مستقلة وهوية سياسية اجتماعية تعكس طموحاتها ومتحررة من جميع القيود، لذلك يجب أن يتصدر هذا المطلب سلم أولويات أي حكومة أو نظام دولة قادم.
كسر حالة التوريث
للأحداث السياسية والأمنية حضور دائم وثقيل في وجدان لبنان، وقد شهدت تفاقمًا ووتيرة تصاعدية منذ العام 1975 إبان اندلاع الحرب الأهلية ولم تخمد مع انتهائها عام 1990 وصولًا إلى اغتيال الشهيد رفيق الحريري الذي دول الصراع أكثر من ذي قبل وزاد بفضله حدة الانقسام والصراع الطائفي والمذهبي.
وقد حددت هذه الأحداث الأخيرة معالم وجه لبنان السياسي نظرًا لتداخلها مع صراعات المنطقة والعالم، ما جعل تسليط الضوء عليها في المناهج التربوية أمرًا حتميًا وضروريًا كي ينشأ جيل قادر على تقييم الأحداث على أسس منطقية وتحليلية، وبالتالي كسر حلقة التوريث السياسي والتبعية العمياء لأحزاب الطوائف.
تمت آخر مراجعة لمنهج تعليم التاريخ بين عامي 1968 و1971، ومع انتهاء الحرب الأهلية، تشكلت العديد من اللجان للعمل على إنجاز هذه المهمة تطبيقًا لاتفاق الطائف لكن دون جدوى. يقول أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية عصام خليفة في إحدى مقابلاته: “اليوم يتم تعليم التاريخ حسب خط المدرسة السياسي والطائفي، للأسف لا توجد إرادة سياسية حقيقية لحل هذه المشكلة”.
يظهر الانقسام حتى ضمن المؤرخين أنفسهم، حيث يرى المؤرخ حبيب مالك أن “من الضروري ذكر الروايات المتعددة لكن في كتاب واحد وبجرأة”، فعليًا، الحل يكمن في استبدال هذه المنظومة وما تمثله بطبقة من المستقلين ذوي الكفاءة القادرين على الاتفاق على سرد موحد وموضوعي للتاريخ يُعاد تحديثه كل 25 سنة كحد أقصى لتبقى الأجيال مثقفة وواعية وقادرة على تكوين هويتها باستقلالية.