في وقت مبكر من صباح أحد أيام مايو 1987، عبرت الدبابات السوفيتية صحراء زيراي في منطقة خصبة من مقاطعة آرغنداب لشن الهجوم الكبير الأخير من الحرب السوفيتية الأفغانية. كانت القرى المحيطة بمدينة قندهار قد سقطت في أيدي المتمردين الإسلاميين في السنوات الأخيرة، وأكثر من 6000 جندي من قوة سوفيتية أفغانية كانوا قد حُشدوا لتطهير المنطقة. مؤلفة من الفرقة 70 الميكانيكية بجانب وحدات من الجيش الأفغاني تحت قيادة عصمت مسلم والجنرال عبدالرشيد دوستم. كانت القوات تتقارب بما يشبه الكماشة على قرية تشاركولبا. كانت مقر المجاهدين في الضفة الغربية لنهر أرغنداب.
عن طريق قتالهم من خنادق شبكات الري، كان المجاهدون قادرون على إبطاء الزحف السوفيتي، وتعثرت الدبابات الروسية في قلب بساتين الرمان والتفاح الكثيفة. وبينما يمر الأسبوع تلو الآخر، ازداد عدد قتلى الجيش السوفيتي الأفغاني. الدعم الجوي أمطر المنطقة بالقنابل، لكن المجاهدين تمكنوا من البقاء عن طريق البقاء لأيام في الأنفاق وخنادق الري والمخابئ. تراجعت الدبابات للصحراء المفتوحة لتشكل المؤخرة لقوات المشاه لجمهورية أفغانستان الديمقراطية، والذين تم دفعهم خلال البساتين على أقدامهم.
لم يكن أي من الطرفين قادر على إزاحة الآخر، ولم تحسم المعركة، وطال أمد ذلك الروتين الدموي. يقول أختر جان، قائد المجاهدين “العدو سيبدأ قصف الطائرات والمدفعية من الجنوب والجنوب الشرقي مع الصباح”، ويتاببع “عادة فإنهم يرسلون ثماني طائرات هليكوبتر لقصف المنطقة. ثم تبدأ هجمات المشاة. سيخرج المجاهدون من مخابئهم، سيتخذون مواقع القتال، وسينتظرون اقتراب المشاة” الخسائر كانت من الجانبين. تراجعت معنويات الجيش السوفيتي وتضاءلت إمدادات الغذاء للمجاهدين.
ثم قام السوفييت بخطأ تكتيكي. بدأوا في الدخول شمال غرب تشاركولبا، من خلال القرية المقدسة جيلاهور، والتي كانت قد أُفرغت من سكانها على مدار الحرب. ودُفعت مجموعة ثانية من الضفة المقابلة لنهر أرغنداب، من خلال قرية تشارباغ، التي كانت قاعدة لطلاب العلوم الدينية الفقراء الذين شكلوا وحدات خاصة بهم لمحاربة الروس. هؤلاء الطلاب، الذين يُسمون “طالبان” في لغة البشتو، كانوا من بين أوائل من حملوا السلاح ضد السوفييت، وكان أكبر أغا واحدا منهم.
احتدمت المعركة على جبهات متعددة، القوة السوفيتية الأفغانية ضغطت بالقرب من تشاركولبا، والمجاهدين كانوا يتسللون ليلا لتلغيم الطريق أمام تقدم السوفييت. أرعدت السماء بلا انقطاع، وتشار باغ كانت تحترق طوال الوقت. يوم 3 يونيو، وبعد ما يقرب من أسبوعين من القتال، قصف السوفييت معقل طالبان الرئيسي في القرية بقذائف الهاون، ما أسفر عن مقتل قائد طالبان الأسطوري، لالا مالانغ، وحينها كان يُعد الزعيم الأكثر أهمية للمجاهدين في كل قندهار.
دفعت الأخبار جنود طالبان من مناطق قندهار إلى أرغنداب، ما بدأ واحدة من أشرس المعارك التي اندلعت على مدار الاحتلال السوفيتي بأكمله. استمر الاقتال لأسابيع، وعندما انقشع الغبار، كان مئات المجاهدين قد استهشدوا، لكنهم لم يتنازلوا عن الأرض التي كسبوها. في مواجهة تلك المقاومة الصامدة، انشق عشرات المجندين من الجي الأفغاني أو ببساطة ألقوا أسلحتهم في الخنادق وهربوا. وبعد 34 يوما، وذات مساء في تموز، تخلت القوات السوفيتية عن أرغنداب إلى الأبد.
تشكل معركة أرغنداب جزءا أساسيا من فكر قندهار، لكنك لن تسمع بذلك من معظم من يتحدثون عن طالبان. فوفقا للقصة المتداولة، نشأت حركة طالبان في المدارس الدينية المتطرفة في باكستان، ثم انتشرت في أفغانستان التي أنهكتها الحرب في غضون سنوات قصيرة، وفرضت دولة دينية غريبة على السكان لا تشبه شيئا مما عرفه العالم من قبل. كانت طالبان ظاهرة لم يسبق لها مثيل في التاريخ الأفغاني، وتؤكد الرواية، أنها كانت بسبب “أقلمة الصراع”. جاءت الجذور الأيديولوجية لطالبان من مدارس باكستان الدينية، واستوردت مذهبا متشددا من الإسلام يُدعى الديوبندية. (المحرر: الديوبندية هي مدرسة فكرية أسسها مجموعة من علماء الهند ونمت حتى أصبحت أكبر المعاهد الدينية العربية للأحناف في الهند. ومن أعلامها المعاصرين الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي.)
في قندهار، رغم ذلك، ستسمع التاريخ بشكل مختلف تماما. أصول طالبان، وربما شكل المجتمع الأفغاني بأكمله ، يكمن في معركة أرغنداب. تكمن الأصول في الذكريات المشتركة من المعاناة والشجاعة والصداقة التي تشكلت في الخنادق والاضطرابات التي تشهدها أفغانستان حتى اليوم.
في السنوات الأخيرة، ظهرت محاولات ضئيلة من المقربين ومن أعضاء طالبان لاسترجاع ذلك التاريخ، والطعن عن طريق ذلك في القصة السائدة حول أصل الحركة. أهم الأعمال التي قُدمت في هذا الإطار كان كتاب “حياتي في طالبان”، للملا عبدالسلام ضعيف. “أنا أكبر أغا” يأتي في نفس هذا الإطار، ويقدم وقائع مفصلة عن بدايات حركة طالبان، بالإضافة إلى وجهة نظر فريدة من شخص كان ينحاز أيديولوجيا للحركة، لكنه بقي مبتعدا عنها طوال سنواتها في السلطة. في الكتاب نجد النظرة الأكثر شمولا حتى الآن لجبهات طالبان المختلفة، ومجموعاتها المستقلة من طلبة المدارس الدينية الذين قاتلوا بجانب المجاهدين في المحافظات الجنوبية في قندهار وهلمند وزابول. ما يقوله أكبر أغا يبين أن حركة طالبان هي ظاهرة محلية، جذورها تمتد إلى الثمانينات وتعود لقرون مضت. وإذا كنا سنبدأ من هنا، فالكثير من التاريخ الأفغاني على مدار العقود القليلة الماضية سيظهر بشكل مختلف تماما، أكثر تماسكا!
سيد محمد أكبر أغا وُلد في 1961 في قرية جيلاهور من أرغنداب، موطن قبيلة السيد، وهي قبيلة يعتقد الأفغان أنها تمتد لآل البيت. هذا جعل من جيلاهور مقرا علميا ودينيا، وكانت واحدة من أبرز مراكز التعليم الديني في جنوب أفغانستان. وباعتباره طالبا شابا، أخذ أكبر أغا الدروس على يدي عدد من علماء القرية. وخلافا لمعظم قادة أفغانستان، أكمل أغا تعليمه في باكستان، وعاد إلى أفغانستان مع اندلاع الجهاد ضد الغزو الروسي. الخبرة التي تحصل عليها أغا في الخارج تظهر في نظرته الأقل محافظة من شخصيات طالبان الأخرى، وكثير منهم لم يكن قد غادر قندهار على الإطلاق حتى استيلائهم على السلطة في 1990.
مشابها للنموذج الأفغاني في رواية القصص، يروي أكبر أغا التاريخ هنا عن طريق سرد مزيج من المواقف المتوترة، ولحظات الهروب الجريئة ومعجزات المعارك. هناك محاولة للسرد بشكل خطي، مما توضح الطريقة التي سارت بها الحرب والتي يتم تذكرها اليوم. قد يكون من المفيد أولا تتبع الخطوط العريضة للجهاد في قندهار:
بدأ أول نشاط مناهض للحكومة بعد الانقلاب الشيوعي في عام 1978، كان ذلك بسبب الاعتقالات وتعذيب النخب المحلية والدينية. في السنوات الأولى، كان هناك ثمانية أحزاب للمجاهدين في قندهار: سبعة منظمات كانت معاقبة من الحكومة الباكستانية، وفدائيو الإسلام تحت قيادة عصمت مسلم.
في هذا الوقت بدأ طلاب العلم الشرعي في إقليم زابول بتشكيل مجموعات مستقلة، وانتشرت هذه الظاهرة بسرعة في قندهار وهلمند. في كثير من الأحيان، ارتبطت المجموعات بمناطق معينة، اصطلح على تسميتها جبهات، فمثلا: جبهة نيجيهان، جبهة تور طاق، وجبهة باشمول، وهكذا. هناك أيضا جبهات سُميت باسم أفراد أو حتى مؤسسات. وكان يمكن للطالب المجاهد أن يبدل الجبهات، وبالفعل، هذا حدث في كثير من الأحيان، وبهذا خلقت شبكة طالبان. كانت جبهات طالبان تنضم إلى مجموعة من الثمانية مجموعات للمجاهدين، خاصة مجموعة فدائيي الإسلام، حتى انضم قائدها عصمت مسلم إلى الشيوعيين في 1984.
ورغم أن جبهات طالبان كانت محل تقدير واحترام المجتمع الأفغاني في قندهار، إلا أنها لم تكن قوة عسكرية كبيرة في ساحة المعركة إذ كان الجزء الأكبر من التمويل والأسلحة يُوجه إلى الجبهات الرسمية. في شهادة أكبر أغا، يتحدث بالكامل تقريبا من خلال منظور الجبهات فقط، ونادرا ما يذكر المجاهدين من غير طالبان، وهو ما يعطي شعورا بمدى انعزالية “الطالب” عن العالم.
في سنوات الجهاد الأولى، وصل القتال إلى طريق مسدود، لكن تدفق الأموال والأسلحة الأمريكية بعد عام 1984 ساهم في تحويل دفة الأمور.
كانت أرغنداب تحتوي على كل ما يؤهلها لتكون معقلا للثوار: وفرت بساتين الرمان الكثيفة غطاء واسعا للكمائن ولحرب العصابات، قربها من المدينة التي تسيطر عليها حكومة قندهار سمح بالغارات المتكررة، وكاريزمية قادة المجاهدين سهلت عملية ضم المجاهدين الجدد.
قاتل أكبر أغا في سلسلة من جبهات طالبان حول أرغنداب وغرب قندهار وفي قرى مثل الباشمول. العديد من الأفراد الذين وصف قتاله معهم جنبا إلى جنب سيصبحون قيادات بارزين وأعضاء في حكومة طالبان المناهضة للولايات المتحدة. عندما ظهرت حركة طالبان عام 1994 لتكتسح الجنوب الأغاني، طل أكبر أغا على الهامش، له معرفة وثيقة بالقيادة، لكنه تموضع خارج الحركة، وهو ما يجعله فريدا للغاية، كما أنه يقدم انتقادات لنظام طالبان في التسعينات.
في عام 2004، أطلق أكبر أغا جماعة سماها جيش المسلمين، كانت جماعة تناهض الولايات المتحدة وتدعو لقطع العلاقة مع الحرس القديم لطالبان. اختطفت المجموعة ثلاثة عمال أجانب من الأمم المتحدة، وطالبت بفدية وإطلاق سراح سجناء طالبان. بعد مفاوضات، عاد الثلاثة سالمين، وتم القبض على أكبر أغا بسرعة من باكستان، وتم تسليمه للأمن الأفغاني. الآن يدعي أكبر أغا في كتابه أن أعضاء جماعته قد تصرفوا بدون موافقته، بينما تزعم الحكومة الأفغانية أنه العقل المدبر وراء العملية بأكملها.
في عام 2008، زرت أكبر أغا في السجن عدة مرات. لم أقترب أبدا من حقيقة الأمر، لكن ما أدهشني كيف أنه لم يزل على اتصال مع زعماء طالبان. أُطلق سراح الرجل في 2010، وتشكلت مجموعة جديدة تحت إمرته تُسمى “مسار الخلاص” -خالصون لار- تهدف لتعزيز محادثات السلام بين طالبان والحكومة.
سوف تحتاج عملية السلام والمصالحة في نهاية المطاف لمساعدة الأفغان على التوصل إلى تفاهم مع الرواية الواردة في هذه الصفحات. تفتيت أفغانستان على مدى العقود الثلاثة الماضية يعني تفتيت الذكريات أيضا. هناك بعض الروايات السائدة حول مسار هذه الحروب، لكن هناك أخرى، لا تقل أهمية، قصص تستحق أن تُحكى، عن جهاد قندهار، وعن الحرب الأهلية الوحشية في كابول، وعن معاناة المجتمعات الشمالية على يد طالبان، وعن استمرار معاناة الجنوبيين من قبل جميع الأطراف. كتاب أكبر أغا هو خطوة هامة في هذه الاتجاه.