في ديسمبر 2018 خرج مدير صندوق تطوير العشوائيات في مصر خالد صديق بتصريح قال فيه إن بلاده ستكون خالية من العشوائيات بصورة كاملة بنهاية عام 2019، لكن في حوار آخر له في فبراير 2019 قال إن مصر ستنتهي من هذا الملف بحلول 2030.. وحتى كتابة هذه السطور لا يعرف أحد سبب هذا البون الشاسع بين التاريخين.
العشوائيات في مصر.. ملف ربما يكون الأخطر على مدار عقود طويلة مضت، قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت، أرض خصبة لنمو مهددات الأمن القومي المصري، كما أنه الملف الأكثر لغمًا في التعامل معه، إذ يحتاج إلى إستراتيجية ذات طابع استثنائي لما يتمتع به من خصوصية تتطلب التعامل بحذر تجنبًا للتداعيات المتوقعة حال خروج الوضع عن السيطرة.
تأتي أهمية هذا الملف وخطورته من خلال الأعداد المهولة للسكان التي تقطن تلك المناطق، ففي آخر إحصاء عام 2008 وصل عدد قاطني العشوائيات في البلاد إلى 15 مليون نسمة بما يمثل 40% من سكان المدن، وهي النسبة التي تتأرجح صعودًا وهبوطًا بنسب متفاوتة خلال السنوات الماضية.
جولة سريعة داخل عشوائيات مدن القاهرة الكبرى (القاهرة والجيزة والقليوبية) تشعرك كأنك في دولة داخل الدولة، عالم مواز آخر، له أبجدياته الخاصة ونظام حكمه المستقل وإستراتيجياته الحياتية ذات الخصوصية المفرطة، وهو ما شكّل صداعًا مزمنًا في رأس كل الأنظمة السياسية التي حكمت مصر خلال الخمسين عامًا الأخيرة تحديدًا.
عكفت الحكومات المتعاقبة على إلقاء الكرة في هذا الملف بملعب الزيادة السكانية، محملة إياها المسؤولية الأولى والأخيرة في تفاقم هذه الأزمة، لكن التجربة أثبتت أن الزيادة وحدها بمعزل عن المشكلات الاقتصادية والأوضاع المعيشية الصعبة وسوء الإدارة وغياب التخطيط العمراني وتجاهل أوجاع الشعب لا يمكن أن تكون سببًا مقنعًا في تفسير تلك الوضعية الحرجة.
ومن الأخطاء الاعتقادية التي يقع فيها البعض تصور العشوائيات كونها غيتوهات من صفيح أو مجموعة عشش تفتقد لكل أبجديات الحياة، غير أن الوضع مغاير تمامًا لهذا التصور القاصر، فهناك العديد من المناطق باتت مدنًا كاملة المرافق، لديها مخزون بشري على قدر كبير من الثقافة والتعلم، ولهم حضور اقتصادي تأثيره عظيم في قاطرة التنمية الوطنية، وهو التصور الذي ربما يصعب من دراسة هذا الملف ويزيد تعقيداته.
ومع قدوم الرئيس الحاليّ عبد الفتاح السيسي أولى هذا الموضوع أهمية كبرى، مسخرًا له ميزانية مفتوحة من المليارات والدعم، واستطاع بالفعل تحقيق العديد من الإنجازات فيه على المستوى الميداني وفق الأرقام الرسمية التي تعلنها الحكومة المصرية بين الحين والآخر.
ورغم النجاح المحقق في هذا الملف حتى الآن فإنه من المبكر جدًا الحكم على تلك التجربة، خاصة أنها ليست بالجديدة، إذ سبقه فيها العديد من الحكام والحكومات، غير أن السيسي ربما يكون الوحيد الذي توافرت له الإمكانات المادية للقمع والعنف لإجبار سكان تلك المناطق على الإجلاء، وهو ما فشلت فيه الأنظمة السابقة، وإن كان العنف وحده ليس الإستراتيجية الوحيدة التي لجأت الحكومة إليها لتنفيذ مخططها، فهناك أدوات أخرى كالتفاوض والحوار ومحاولات الإقناع والتعويض.
ومع هرولة الدولة نحو الإنهاء المبكر لتلك المعضلة تجاهلت الاعتبارات الإنسانية والمجتمعية، بدعوى قوة إنفاذ القانون وفرضه على الجميع خشية الوقوع في مستنقع التمرد، وهو ما أودى بالمئات من سكان تلك المناطق إلى الشارع بلا مأوى، أو التعويض المتدني الذي لا يتناسب مع قيمة الوحدات التي كانوا يملكونها، هذا بخلاف انضمام الآلاف منهم لطابور البطالة بعدما فقدوا مصادر رزقهم ودخولهم بعد إجلائهم من الأماكن التي قضوا فيها معظم أعمارهم.
39% من الكتلة العمرانية عشوائيات
في البداية وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) فإن تعريف المناطق العشوائية ينسحب على “المناطق التى أقيمت بالجهود الذاتية سواء على أراضى حائزيها أم على أراضي الدولة دون تراخيص رسمية، ولذا تفتقر إلى الخدمات والمرافق الأساسية التي قد تمتنع الجهات الرسمية عن توفيرها، نظرًا لعدم قانونية هذه الوحدات”.
ووفق هذا التعريف فإن مساحة العشوائيات في البلاد تبلغ قرابة 160.8 ألف فدان، تمثل 39% من إجمالي الكتلة العمرانية للجمهورية وتنتشر في قرابة 226 مدينة في مختلف أنحاء الدولة، تحتل محافظات سوهاج والشرقية وبني سويف المراكز الأولى في نسبة تلك المناطق لإجمالي المساحة العمرانية، حيث تبلغ 71.1% و69.5% وو65.3% على التوالي.
تنتشر العشوائيات تقريبًا في محافظات البلاد كافة، إذ تخلو 8 مدن فقط من تلك المناطق، مدينتان بمحافظة السويس، ومثلهم بالشرقية، و3 مدن بكفر الشيخ، ومدينة واحدة بمحافظة الجيزة، فيما تحتل الإسكندرية المركز الأول في انتشار المناطق العشوائية بها بـ20.1 ألف فدان تليها القاهرة بـ19.4 ألف فدان ثم الجيزة بـ15.5 ألف فدن.
قُسمت العشوائيات إلى مستويات عدة من حيث درجة الخطورة، مناطق ذات خطورة أولى وتبلغ نسبتها 11.7% من إجمالي المناطق في مصر، تليها المناطق ذات الخطورة من المرتبة الثانية وتبلغ قرابة 251 منطقة، وصولًا إلى المناطق الأقل خطورة التي تقترب من تصاميم المدن جغرافيًا وسكانيًا وتبلغ نسبتها 11%.
خطة المواجهة
في 2008 تعرضت منطقة الدويقة بوسط القاهرة لحادثة مروعة، حين سقطت كتلة صخرية صلبة من أعلى جبل المقطم، أودت بحياة 130 مصريًا، بجانب العشرات من المصابين، الأمر الذي دفع الحكومة المصرية وقتها لوضع هذا الملف تحت مجهر الاهتمام فأنشأت هيئة مستقلة لمواجهة أزمة العشوائيات وكل ما يتعلّق بها.
استبشر الشارع حينها خيرًا، لكن مع مرور الوقت ظلت الأوضاع كما هي، بل تعمقت الأزمة مع اتساع رقعة العشوائيات في ظل حالة من التجهيل والصمت الرسمي من نظام مبارك الذي كان مشغولًا وقتها بتعبيد الطريق نحو توريث الحكم لنجل الرئيس.
وبعد عامين من قدوم الرئيس الحاليّ عبد الفتاح السيسي، أعاد هذا الملف حضوره الرسمي مرة أخرى، حيث أطلق في 2016 خطة تفصيلية للقضاء على العشوائيات، لكنها اعتمدت في المقام الأول على الشق الذي يتعلق بالدولة فقط وهو الإخلاء دون النظر إلى المسائل الأخرى.
البداية كانت في أكتوبر 2018 حين أعلن محافظ القاهرة خالد عبد العال، قرب الانتهاء من المشروعات السكنية (5 مشروعات)، لنقل سكان المناطق العشوائية الخطرة من الدرجتين الأولى والثانية، وتضم تلك المشروعات قرابة 14152 وحدةً سكنيةً منها المرحلة الثالثة من الأسمرات، هذا بجانب مشروعات أخرى مثل مشروع “أهالينا” بمدينة السلام أيضًا، الذي يضم 1180 وحدةً سكنيةً، مع 816 وحدةً سكنيةً بروضة السيدة زينب.
حالة من الرضا النسبي سادت بين المراقبين حيال مثل تلك التحركات التي تستهدف أحد أبرز الملفات الملغمة في البلاد، غير أنه في الوقت ذاته رافقتها موجة تساؤلات أخرى ما زالت تبحث عن إجابة حتى اليوم في مقدمتها: ما مصير السكان بعد تركهم منازلهم؟ من أين سيحصلون على الدخول اللازمة لحياتهم ومتطلباتها في ظل الارتفاع الجنوني في أسعار السلع والخدمات؟ ما الأعمال المفترض الالتحاق بها بعد تركهم لأعمالهم في أماكنهم القديمة؟
لماذا يهتم السيسي بهذا الملف؟
العديد من الدوافع وراء عناية النظام الحاليّ بهذا الملف على وجه التحديد، فبجانب مساعي التطوير والتنمية والتخلص من تلك البؤر التي يمثل بعضها خطرًا كبيرًا على أمن واستقرار الدولة نظرًا لما تحتضنه من كيانات إجرامية ذات حضور قوي على الساحة المصرية يستشعر خطورتها المقيمون في مناطق قريبة منها، هناك دوافع وأهداف أخرى.
القارئ الجيد لخريطة تلك العشوائيات لا سيما في القاهرة الكبرى يجد أنها تقع في أماكن إستراتيجية ومهمة، تمثل قيمًا عقاريةً كبيرةً للغاية، وتعد ثروةً عقاريةً يمكن استثمارها بشكل يدر الكثير من الأموال على أصحابها، لذا كانت محط أنظار العديد من رجال الأعمال والمستثمرين منذ أيام مبارك وحتى اليوم.
وعليه كان الاهتمام بهذه المناطق والسيطرة عليها في محاولة لتوظيفها من أجهزة الدولة استثماريًا خلال المرحلة المقبلة، حتى لو كان المقابل وحدات عقارية في مدن ومناطق جديدة، لكن شتان شتان بين القيمة السوقية للوحدة في تلك العشوائيات ونظيرتها في المناطق الجديدة.
بعد أمني وسياسي آخر في مسار الإسراع لإنهاء تلك المعضلة في أقرب وقت، حيث الرغبة الملحة والسريعة في إحكام القبضة والسيطرة على الحيز العمراني لتلك المناطق خاصة في القاهرة والجيزة، في ظل هاجس تكرار “ثورة يناير” مرة أخرى، التي كان محدودو الدخل وسكان العشوائيات وقودها الأبرز.
كذلك هناك بعد اقتصادي بحت لا سيما فيما يتعلق بقانون التصالح الممرر مؤخرًا، الذي يفرض مبالغ مالية على أصحاب الوحدات السكنية غير المرخصة نظير عدم هدمها، وهو ما أثار موجة جدل كبيرة في الشارع، لا سيما أن هناك أكثر من 3 ملايين عقار مخالف، ما يعني أن الملايين من المواطنين سيقعون في هذا الفخ.
الحالة المعيشية المتردية لمعظم المواطنين جراء السياسات الاقتصادية القاسية من جانب وتداعيات فيروس كورونا المستجد من جانب آخر عمقت من وقع الأزمة، حيث بات المواطن بين مطرقة الاستدانة لسداد مبلغ التصالح وسندان إزالة منزله حال التخلف عن السداد.
وقد بلغ إجمالي المتحصل من قيمة التصالح في مخالفات البناء 7.6 مليار جنيه حتى 18 من سبتمبر/أيلول الحاليّ، جراء تقديم قرابة مليون ومئتي ألف مواطن على طلبات تقنين الأوضاع، بحسب تصريحات المتحدث باسم وزارة التنمية المحلية، خالد قاسم.
غياب البعد الإنساني
بينما كانت هراوات السيسي تزيل العقارات المخالفة والمبنية في المناطق العشوائية بدعوى التمدن الحضاري والقضاء على الفساد كانت صرخات المواطنين المزالة منازلهم تزلزل السماء، بكاء وعويل من النساء، ترافقه دموع الأطفال التي لم تتوقف، وفي المقابل حالة من الحسرة والألم تعصف برب البيت الذي كاد أن يقتله القهر.
“في أي دين وأي عقيدة ألقى أنا وبناتي في الشارع”.. بدموع الألم ونظرات اليأس تصرخ “أم محمد” بعد أن نفذت الأجهزة التنفيذية مدعومة بقوات الأمن منزلها المبني منذ عدة سنوات تنفيذًا لقرار هدم صدر بحقه قبل فترة، لافتة إلى أنها لم تجد مأوى حتى اليوم وتسكن مؤقتًا عند جارة لها.
وتوضح المرأة المكلومة أنها منذ عامين بنت عقارًا لها في منطقة شبرا بمحافظة القليوبية (إحدى محافظات القاهرة الكبرى) لكنها لم تحصل على ترخيص، كبقية المنازل في هذه المنطقة، غير أن إدارة الحي كانت على علم بذلك وأدخلت لها المرافق (مياه وكهرباء).
وتتساءل الأم الخمسينية: كيف أدخل الحي لي هذه المرافق إن كان البناء مخالفًا؟ وكيف تركوني أضع أموالي كلها، معاش زوجي وميراثي، في هذا البيت دون أن يخبرني أحد أنني مخالفة؟ العجيب أن بعضًا من موظفي الحي الذين كانوا يتقاضون رشاوى من المواطنين لتمرير عمليات البناء كانوا ضمن لجنة الهدم بدعوى القضاء على الفساد.. هكذا أشارت السيدة المصرية.
وها هو (خالد. ع) صحفي مصري، يقول إنه فوجئ بقرار إجلاء من شقته بسبب توسعة الطريق الذي يعبر العقار الذي يسكن فيه، في البداية توقع أن الأمر ليس سوى ضغوط تمارسها الحكومة للحصول على مبالغ التصالح رغم أن العقار مبني من أكثر من 15 عامًا ومكتمل المرافق والخدمات والأوراق الثبوتية.
لكن مع الوقت تبين أن الوضع جدي، وحين سأل قيل له إن المحافظة تنتوي توسعة هذا الطريق وسيتم إزالة عدد من الأبراج السكنية التي تعترض المشروع، وحين سأل عن المقابل لهذا الإجراء غير الدستوري، كانت الإجابة: سنعطي كل ساكن وحدة عقارية في مدينة الأسمرات أو غيرها بمساحة لا تتجاوز 60 مترًا.
حالة من الصدمة خيمت على الصحفي المصري وعشرات المتضررين من هذا القرار، كيف لي أن أترك شقة قضيت بها معظم سنوات عمري وتربى فيها أولادي وتساوي اليوم ما يزيد على نصف مليون جنيه ومساحة تقدر بـ150 مترًا وأسكن في منطقة نائية في مساحة 60 مترًا؟ هكذا تساءل خالد.
توجه الصحفي رفقة عدد من المتضررين من القرار وبينهم صحفيون أيضًا، إلى أحد أعضاء مجلس النواب المصري (البرلمان) للتوسط لدى رئيس الحكومة، مصطفى مدبولي، لإثناء المحافظة عن هذا القرار، وبعد محاولات عدة، وتناول إعلامي مكثف لتلك الأزمة، لم يتحرك أحد، وبالفعل صدر قرار الإخلاء، وجار التنفيذ.
ورغم تراجع الحكومة خطوات قليلة للوراء فيما يتعلق بالإصرار على الهدم والإزالة وإخراج الناس من مساكنهم، فإن ما حدث وما زال أحدث شرخًا كبيرًا في نفوس الملايين من الشعب المصري الذي استقر في يقينه أن همه ومصالحه آخر أولويات النظام الذي لم يتحرك لتنفيذ القانون إلا على الفقراء والغلابة أما حيتان العقارات من رجال الأعمال فلم يقترب منهم أحد.
تحذيرات عدة أطلقها سياسيون وخبراء اجتماع سياسي بشأن تبعات التعامل مع ملف العشوائيات بهذا الصلف والعناد واستعداء الشعب، الأمر الذي حول العلاقة بين الدولة والمواطنين إلى أشبه ما تكون علاقة بين مالك ومستأجر، وهو ما يمكن أن يقود في نهاية الأمر إلى غضبة مجتمعية لا يمكن السيطرة عليها مهما كان خطاب التهديد والوعيد.
لا ينكر أحد أن التعامل مع هذا الملف واجب وضروري لما يمثله من خطورة كبيرة على المجتمع المصري، غير أن مراعاة البعد الإنساني والاجتماعي في التعامل معه ضرورة لا تقل أهمية عن التعامل الجدي، فالرقعة السكانية الهائلة والآثار الوخيمة المترتبة على هذا التعامل القهري برميل بارود قابل للاشتعال في أي وقت.
الملايين من محدودي الدخل في انتظار ما ستسفر عنه الأيام القادمة، حيث انتهاء المهلة المحددة للتصالح في البنايات المخالفة التي حددتها الدولة في الـ30 من سبتمبر/أيلول الحاليّ، ومع عدم تجاوب النسبة الأكبر من المنضوين تحت هذا القانون وهم قرابة مليوني مواطن، نظرًا لغياب القدرة المالية لديهم، فإن تعامل الحكومة معهم عقب انتهاء المدة هو ما سيحدد طبيعة المشهد خلال الفترة القادمة.