وصلت التوترات في شرق البحر الأبيض المتوسط إلى ذروتها عدة مرات، وتفاقمت حدتها خلال الأشهر الأخيرة الماضية نتيجة للنزاعات التي لم تُحل بين تركيا ومجموعة من دول المتوسط، أبرزها اليونان وقبرص (الرومية)، واليوم، تزداد المنطقة احتقانًا وتعقيدًا، فمن المقرر أن يوقع أعضاء منتدى غاز شرق المتوسط، على الميثاق الذي سيؤسس رسميًا للمنتدى ويحوله من منصة للنقاشات إلى منظمة دولية.
يأتي هذا الإعلان ضمن شكوك سياسية تطرح مجموعة من التساؤلات عن الأطراف المستفيدة والأهداف المقصودة من وراء هذه التكتلات الجديدة التي تدفعها المخاوف الإستراتيجية لتشكيل تحالف جديد في شرق المتوسط.
الأهداف غير المعلنة.. من المستفيد؟
العام الماضي في يناير/كانون الثاني، استضافت العاصمة المصرية القاهرة اجتماعًا دوليًا، أعلن فيه عن توافق لإنشاء “منتدى غاز شرق المتوسط” (EMGF)، بمشاركة 7 دول (مصر والأردن و”إسرائيل” وقبرص (الرومية) واليونان وإيطاليا وفلسطين)، إلى جانب وزير الطاقة الأمريكي وممثل المفوضية الأوروبية لشؤون الطاقة وممثل للبنك الدولي.
ترى واشنطن أن إدماج الكيان الإسرائيلي في اتفاقات الغاز الطبيعي يعد الآن أكثر جدوى بكثير من مبادرات السلام
في المقابل استثنى المنتدى دولًا أخرى من عضويته رغم أنها تطل على حوض شرق البحر المتوسط ولها مصالح وحقوق في المنطقة المتنازع عليها، مثل تركيا وقبرص التركية ولبنان وسوريا.
وحينها ذكر بيان صادر عن وزارة البترول والثروة المعدنية المصرية أن الاجتماع يهدف إلى تأسيس “منظمة دولية تحترم حقوق الأعضاء بشأن مواردها الطبيعية بما يتفق ومبادئ القانون الدولي”، وأضاف إلى ذلك أيضًا “إنشاء سوق إقليمية للغاز، وترشيد تكلفة البنية التحتية، وتقديم أسعار تنافسية”، كما جاء في عقد التأسيس هدف آخر يتمثل في “تأمين احتياجات الأعضاء من الطاقة لصالح رفاهية شعوبهم”.
المنتدى يمنح “إسرائيل” مركزًا تجاريًا وإقليميًا وإستراتيجيًا في المنطقة من خلال توقيع اتفاقيات تجارية وتفعيل حركة الاستيراد والتصدير بينها وبين الدول العربية
لكن المنتدى الذي ضم دولًا لا تطل على حوض المتوسط بينما استبعد دولًا ذات سيادة عليه لديه مساع أخرى، فقد نقلت تقارير عن مسؤول إسرائيلي في قطاع الطاقة قوله: “المنتدى سيساعد في إحلال تطبيع مرحب به في العلاقات بالمنطقة، الذي سيساعد بدوره في تعزيز وتطوير قطاع الغاز في “إسرائيل”، وصادرات الغاز من “إسرائيل” لجيرانها وأوروبا ومناطق أخرى”.
يلغي هذا التصريح وجهة النظر التي ترى أن المنتدى يعطي مصر دورًا محوريًا في المنطقة وسوق الطاقة، لأن استضافة مصر للمنتدى ليست سوى إنجاز معنوي أو شكلي، وما هي إلا جسر أو وسيط للتطبيع الإسرائيلي مع اقتصادات المنطقة، الأمر الذي يمنح “إسرائيل” مركزًا تجاريًا وإقليميًا وإستراتيجيًا في المنطقة من خلال توقيع اتفاقيات تجارية وتفعيل حركة الاستيراد والتصدير بينها وبين الدول العربية بحجج الانضمام إلى المنتدى أو بمبررات اقتصادية فارغة.
تتفق واشنطن مع هذه الرؤية، إذ ترى بدورها أن إدماج الكيان الإسرائيلي في اتفاقات الغاز الطبيعي يعد الآن أكثر جدوى بكثير من مبادرات السلام التي تتصدر العناوين لأسابيع، وربما لشهور وتنتهي للاشيء، عدا عن تشجيعها لهذه الخطوة سعيًا إلى تقليل اعتمادها على الغاز الروسي.
شكوك سياسية
منذ سنوات عديدة، وجدت أنقرة نفسها معزولة في شرق البحر المتوسط ودون حلفاء، رغم أنها تمتلك أحد أطول السواحل في شرق البحر المتوسط، إلا أن محاولات حبسها داخل منطقة ضيقة من حيث الجرف القاري، أعطاها أسبابًا لانتقاد هذه التكتلات الجديدة والتشكيك في أهدافها.
هذه المبادرة دليل على أن البلدان التي تجاهلت دعوات تركيا للحوار والتعاون
فحين عقد ممثلو الدول المشاركة ثاني اجتماع في يناير/كانون الثاني 2020 قال المتحدث باسم الخارجية التركية حامي أقصوي، إن تحويل المنتدى إلى منظمة دولية، بعيد عن الواقع، كما رأى أن دوافع تأسيسه جاءت لإخراج تركيا من معادلة الطاقة في شرق المتوسط، لأنه لو كان الهدف الحقيقي من المنتدى هو التعاون، لتمت دعوة تركيا وجمهورية شمال قبرص.
وأكد أن إنشاء مثل هذه التكتلات ضد تركيا وقبرص التركية، لن يساهم في تحقيق السلام والتعاون في المنطقة، كما ذكر أن أي مبادرة تتم في شرق المتوسط دون وجود تركيا وقبرص التركية فيها، لن يكتب لها النجاح، لافتًا إلى أن “هذه المبادرة دليل على أن البلدان التي تجاهلت دعوات تركيا للحوار والتعاون، لا تزال تسعى لتحقيق أحلام فارغة”، ومؤكدًا إصرار أنقرة على حماية حقوقها ومصالحها المشروعة في البحر المتوسط، إضافة لحقوق ومصالح القبارصة الأتراك.
محاولات عزل أنقرة
بالإضافة إلى النادي الجديد، وجدت تركيا نفسها أمام تركيبات دولية أخرى، لم ينجح بعضها إلا أن هدفها كان استبعاد أنقرة وتجاهل حقوقها المدفونة في شرق المتوسط، ففي الـ5 من ديسمبر/كانون الأول 2017، التقى وزراء الطاقة من أربع دول: إيطاليا وقبرص واليونان و”إسرائيل” لدراسة اقتراح لمشروع بناء خط أنابيب عبر قاع البحر الأبيض المتوسط تقارب تكلفته 7.4 مليارات دولار، ويستغرق بناؤه أكثر من ست سنوات، لكن الخطة لم تنجح آنذاك.
وبعد عام واحد، استضافت جزيرة كريت اليونانية في أكتوبر/تشرين الأول أعمال القمة الثلاثية السادسة بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس القبرصي نيكوس أَناستاسيادِس ورئيس وزراء اليونان أليكسيس تسيبراس، ثم تبعها توقيع مصر واليونان وقبرص مذكرات تفاهم لترسيم الحدود البحرية، وهو ما اعتبرته تركيا مشاريع غير ناجحة ما دامت تركيا وجمهورية شمال قبرص التركية لا يشاركا بها.
وللأسباب السابقة، أدخلت تركيا معطى جديدة على خريطة الصراعات في شرق المتوسط، ووقعت اتفاقية ترسيم حدود مناطق السيادة البحرية مع حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دوليًا، في محاولة لكسر استراتيجية تطويقها ومواجهة سلسلة المواقف أحادية الجوانب، خاصة من اليونان وإدارة قبرص الرومية، ضدها.
ورغم تلك الضغوطات والتضييقات، ظلت تركيا ثابتة على موقفين، الأول الدعوة إلى الجلوس على طاولة الحوار لحل الخلافات وإفساح المجال أمام الدبلوماسية، والثاني حماية حقوقها في البحر المتوسط وعدم التنازل عن مصالحها وثرواتها هناك.