“هو الإمام العلامة المفسر، المحدّث الحافظ الفقيه، الدكتور نور الدين عتر الحسني نسبة، الحنفي مذهبًا، الحلبي مولدًا، نزيل دمشق، ذو السبق في علوم الحديث النبوي الشريف روايةً ودرايةً في مجالات التدريس والتحقيق والتأليف”، هكذا نعى طلاب العلم الشرعي والشيوخ السوريون العالم في الحديث النبوي، نور الدين عتر، الذي توفي اليوم الأربعاء في العاصمة السورية دمشق.
يُعرف الشيخ عتر بسيرة طيبة تكلم عنها كثيرون، وأبرز ما ميزّه هو اتباعه الأساليب العلمية ووضع مناهج حديثة في دراسة علم الحديث وأصول تحقيق الكتب، وهو ما سنتحدث عنه في تقريرنا هذا، الذي سنفرده للتفصيل في سيرة هذه الشخصية السورية واسعة الشهرة في دنيا العلوم الشرعية.
تربية علمية
عام 1937 وُلد الدكتور نور الدين عتر في محافظة حلب السوريّة، ووالده الشيخ محمد عتر الذي درس عند الشيخ محمد نجيب سراج الدين، وعمل الشيخ العتر الأب على تربية ابنه نور الدين تربيةً دينيةً ودفع به لدراسة العلوم الشرعية، ليكون هذا العالم ابن أسرة علمية اشتهرت بالتزامها، وفي بدايات الحياة الدراسية لنور الدين التحق بالثانوية الشرعية “الخسروية”، وحاز فيها على الرتبة الأولى عند تخرجه عام 1954.
ذهب نور الدين بعد إنهائه الثانوية إلى مصر، فالتحق بجامعة الأزهر ليحصل على الليسانس عام 1958 متفوقًا على زملائه مع فوزه بالمرتبة الأولى، ودرس هناك على يد الشيخ مصطفى مجاهد والشيخ محمد محمد السماحي والشيخ عبد الوهاب البحيري والشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، كما يعتبر الشيخ الكبير عبد الله سراج الدين أبرز من تلقى عنهم الشيخ عتر تعليمه.
عام 1964 حصل نور الدين على شهادة الدكتوراه في شعبة التفسير والحديث بتقدير ممتاز، وذلك عن رسالة عنوانها “طريقة الترمذي في جامعه، والموازنة بينه وبين الصَّحيحين”، وهي الدراسة التي أصبحت فيما بعد منهاجًا يسير عليه العديد من المهتمين بعلوم الحديث النبوي الشريف.
عاد الشيخ عتر إلى سوريا ليدرس في مدارسها الثانوية، إلا أنه سافر إلى المدينة المنورة ليدرس في جامعتها الإسلامية مادة الحديث النبوي لمدة سنتين، وفي عام 1967 وبعد عودته إلى دمشق عُين أستاذًا لمادتي الحديث والتفسير في كلية الشريعة بجامعة دمشق، كما درّس في العديد من الجامعات العربية والإسلامية.
بالإضافة إلى ذلك اشتغل الشيخ نور الدين خبيرًا لتقويم مناهج الدراسات الجامعية ومناهج الدراسات العليا في عدّة جامعات إسلامية، واشتهر بشدته وتدقيقه المحكم في الأطروحات التي تُقدّم له من طلاب الدكتوراه والماجستير.
عدا عن تفوقه العلمي والأكاديمي، عُرف الشيخ عتر بين معارفه ومريديه بأخلاقه الطيبة، فكان متواضعًا شديد الزهد وهو ما لم يجعله قريبًا من أضواء الشهرة رغم مؤلفاته الكبيرة التي تعتبر مصادر في العلم الشرعي والمنهج البحثي في الحديث. وبهذا الصدد يذكر الكاتب والباحث محمد خير موسى خلال حديثه عن الدكتور عتر “بينما كنّا في السّنة الأولى في كليّة الشّريعة كنّا نرقب الأساتذة الكبار وهم يسيرون في ممرّات الكليّة مسرعين لا يلتفتون يمنةً ولا يسرة ويتناثر حولهم الطلّاب يحثّون الخطى لينال أحدهم إجابةً عن سؤال سريعٍ أو يلتقط إجابةً عجلى من فم الأستاذ المستعجل”.
يضيف موسى: “كان أستاذنا الدّكتور نور الدّين عتر يسيرُ على مهَلٍ وقد كساه الوقار وعلَته الهيبةُ ولا يمرّ على مجموعةٍ من الطلّاب واقفة على جنبات الممرّات إلّا كان المبادرَ لهم بالتّحيّة وإلقاء السلام؛ الأمر الذي كان لا يلتفتُ له كثيرٌ غيرُه من أساتذة الكليّة وأشياخِها.ولستُ أنسى حين كنّتُ في بدايات السّنة الأولى من الكليّة واقفًا مع ثلاثةٍ من الأصحاب الجدد في بهو الكليّة حين انثنى إلينا مسلّمًا ومصافحًا ومبادرًا بالسّؤال عنّا!! سألنا عن أسمائنا وعن السّنة الدراسيّة التي نحن فيها وعن المدن التي قدمنا منها وحين علم حداثة عهدنا بالكليّة بالغ في السّؤال عن أحوالنا وعن تأمين أماكن السّكن الجديد ثم أوصانا بإشفاق على عباداتنا وأوقاتنا وكان يحدّثنا ببالغ الحبّ ونحن في أعمارِ أحفاده ثم طلب منّا الدّعاء له ومضى وما ازداد في قلوبنا إلّا حبًّا وفي أنفسنا إلّا مهابة.ما يزال هذا الموقف من أستاذنا العلّامة نور الدين عتر يحفرُ في نفسي من الأثر ما يفوق مئات المحاضرات العلميّة والدّعويّة والتربويّة”.
مؤلفاته
صنف الشيخ نور الدين عتر ما يزيد على 50 كتابًا، بين تأليف وتحقيق، وتنقسم كتبه إلى عدّة مجالات منها ما هو في القرآن وتفسيره وعلومه، ومؤلفات في الحديث وعلومه، بالإضافة إلى كتب فقهية، كما كتب في الأمور الاجتماعية والثقافية.
أما مؤلفاته في القرآن وعلومه فأبرزها كتاب “علوم القرآن” الذي يتحدث به في فصول متعددة عن تعاريف القرآن والوحي، كما يُبين بهذا الكتاب حقوق القرآن على الإنسان والمسؤولية الملقاة على المسلمين تجاه كتاب ربهم، وبالإضافة إلى هذا المؤلف خطّ الشيخ عتر كتابًا بعنوان “القرآن الكريم والدراسات الأدبية”، يتحدث به عن الصورة الأدبية في كلام الله وهذا الكتاب من مقررات كلية الشريعة في جامعة دمشق.
ويبرز كتاب “منهج النقد في علوم الحديث” كأشهر كتب الشيخ نور الدين، وهو عبارة عن مؤلف في مصطلح الحديث، ويقدم فيه ترتيبًا جديدًا للتمييز بين العلوم المتعلقة بالمتن والسند، وهو ما يصوغ به الشيخ علم الحديث على شكل نظرية متكاملة بعد أن كان هذا العلم يُدرس على أبواب متفرقة.
فقهيًا، يوجد لنور الدين عتر عدّة مؤلفات أشهرها “المعاملات المصرفية والربوية وعلاجها في الإسلام” و”أبغض الحلال”، كما أفرد كتبًا ثلاث عن الحج، وكتابًا عن “هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخاصة”.
تحدث الشيخ في أحد كتبه وهو “ماذا عن المرأة”، عن المرأة في الإسلام وأحكامها في الشريعة، ردًا على الشبهات التي تُثار تجاه هذه الأحكام، كما تكلم عن المرأة وتربيتها وتعليمها عند غير المسلمين، وأضاف بحوثًا عن الزواج وأسسه في الدين، كما وضع كتابه بعنوان فكر المسلم وتحديات الألف الثالثة وهو عبارة عن 5 أقسام.
للشيخ منهجٌ خاصٌ بالتأليف اعتمد فيه على عدة أمور خلال سنوات إنتاجه العلمي، فقد أولى نور الدين التقسيم والترتيب والتبويب أهمية كبيرة، وذلك لأن هذا الطريق لها أثر في سهولة الفهم وحسن الاستيعاب، كما اعتمد الشيخ على نقل من سبقه من العلماء بطريقة نقدية ممحصة معتمدًا على النقل من المصادر الأصيلة، ويُضاف لمميزات العتر أنه يعرف بالمصطلحات التي ترد في مؤلفاته، كما أنه يستشهد بالأمثلة التي تُبين الحكم للقارئ وتوضحه، وله أسلوب لغوي تميّز بالوضوح والبساطة مبتعدًا عن الغموض والإبهام.
موقفه من الثورة السورية
تواصلنا في “نون بوست” مع الصحفي السوري ومقدم البرامج محمد سرحيل الذي حضر دروسًا للشيخ نور الدين عتر، فيذكر سرحيل عن الشيخ أنه كان منذ السنوات التي سبقت الثورة محذرًا وبشكل كبير من “التمدد الشيعي” كما أنه كان رافضًا للوجود الشيعي في مدينته حلب.
والجدير بالذكر أن نظام الأسد عمل على فتح الأبواب أمام حركة التشيع وسهل حركتها بالإضافة إلى قمع كل من يحاول الاعتراض على ذلك، إلا أن الشيخ عتر لم يهتم لبطش النظام وظل عند موقفه من هذا الأمر.
عقب انطلاق الثورة السورية عام 2011، وفي شهر يوليو/تموز، وقع علماءٌ حلبيون بيانًا استنكروا فيه بطش النظام كما حملوه مسؤولية “سفك للدماء البريئة، وانتهاك الأعراض الحصينة”، وكما يروي الصحفي سرحيل فإن هذا البيان تم توقيعه بين يدي الشيخ نور الدين عتر الذي بدوره قال: “لن نترك الشيخ إبراهيم سلقيني وحيدًا”، وهو مفتي حلب الذي وقف بصف الثورة مناهضًا لبشار الأسد وقواته.
بدوره يقول الباحث والكاتب السوري مطيع البطين: “يسألون: ما موقف الدكتور نور الدين عتر من الظلم الواقع في بلدنا؟ هو باختصار: لم يمالئ الظّالم على الرغم من صعوبة هذا على عالمٍ بوزنه، في وقتٍ وظرفٍ حرجٍ شديدٍ. لم يظفر منه الظلمةُ في محافلهم بصورة تؤيدهم فضلًا عن أن يظفروا منه بتصريح أو موقف، لقد صان العلم فصانه، هو ومواقفه باختصار شديدٍ أجلُّ كثيرًا ممّا ذكرْتُ، فلمثل قامته تنحني هام الأعلام والأقلام”.
ويضيف البطين “إن السؤال الواجب الحق في مثل هذه الحال: ما موقف الأحرار والشرفاء والأوفياء من رجلٍ عالمٍ نزيهٍ صان علمه في واقعٍ خطير مزلزل مهول؟”.
نعيه
بعد وفاته، سارعت شخصيات إسلامية كبيرة لنعي الشيخ ذاكرين مناقبه ومؤلفاته. يقول الشيخ يوسف القرضاوي في حديثه عن الشيخ عتر: “رحم الله الدكتور نور الدين عتر أستاذ الحديث الشريف وصاحب المصنفات الحديثية القيمة، والتحقيقات العلمية النافعة، التي تتلمذ عليها العديد من طلاب الحديث في العالم. اللهم اغفر له وارحمه، وأكرم نزله، وتقبله في الصالحين، واخلفه في عقبه بخير”.
بدوره قال عضو الهيئة الوطنية للتربية والثقافة والشباب والرياضة وعضو المجموعة التركية في الاتحاد البرلماني لمنظمة التعاون الإسلامي أحمد أوزديمير: “وصلني نبأ عن انتقال شيخنا نور الدين عتر إلى رحمة الله ومغفرته صباح هذا اليوم. ولقد استفدنا منه علمًا وخلقًا في دمشق وفي إسطنبول، حينما قام بزيارة علمية في فصل الصيف بمدة قصيرة جدًا درّس فيها أصول الحديث من نخبة الفكر و من شرح البيقونية”.
وفي حديثه عن الشيخ عتر يقول الشيخ السوري محمد وائل الحنبلي “توفي بدمشق صبيحة اليوم 6 صفر 1442هـ، 23 أيلول 2020م: العلامة المفسر والمحدث الفقيه المربي الدكتور نور الدين عتر الحلبي، كان يُعامل طلابه كأبنائه، ويَحثهم على الأخذ من الشيوخ والاجتماع بالصالحين، ويُربِّيهم على الأدب مع المُصنفين، له كثير من المؤلفات في علوم الحديث والجرح والتعديل”.
كما نعى الأمين العام للاتحاد العالمي للعلماء المسلمين الدكتور علي القره داغي، الشيخ عتر قائلًا: “الشيخ الجليل والعالم الفقيه المحدث والمفسر نور الدين عتر وافته المنية اليوم رحمه الله تعالى، كانت تجمعني بالراحل علاقات طيبة وزيارات وإجازات علمية، وقد رأيته رجلًا زاهدًا يقوم منهجه على هضم النفس والتواضع، وقد منحه الله الوقار والهيبة التي يختص بها أهل الصدق والاستقامة”.
كما أصدرت العديد من الهيئات والمنظمات الإسلامية بيانات لنعي الشيخ نور الدين عتر، إذ نشر المجلس الإسلامي السوري بيانًا عزى فيه الشعب السوري بوفاة الدكتور عتر، وكذلك نعى الأزهر الشريف في مصر الشيخ قائلًا: “الأزهر إذ ينعى العلّامة الشامي نور الدين عِتْر؛ فإنه يتقدم بخالص العزاء إلى أسرته وذويه ومحبيه وكل علماء الأزهر وباحثيه وطلابه، ويسأل الله أن يتقبل الشيخ الراحل في الصالحين ويسكنه فسيح جناته”، بدورها نعت هيئة علماء المسلمين في العراق الشيخ ذاكرةً فضائله وموروثه من الكتب والمؤلفات.
كما رثى الكثير من السوريين والمسلمين من الطلاب الشيخ نور الدين، وامتلأت صفحاتهم بصوره وقصصه، لتطوى بذلك قصة حياة لشخصية سورية ألهمت محبيها وعملت لخدمة الأمة والدين، كما أنه لم يرضَ بالخنوع للطغاة والتذلل لهم رغم المضايقات التي تعتري من يعيش في مناطق قبضة النظام السوري.