كثيرون ممن زاروا بريطانيا سمعوا عن محطة قطار شهيرة هناك تسمى “واترلو” وربما استقلوا قطارها، سواء داخل مدن الدولة أم خارجها، تلك المحطة الواقعة في منطقة لامبيث الإدارية، في الضفة الجنوبية لنهر التايمز بلندن، تعد أحد أبرز المناطق الشهيرة في البلاد، ويعود إنشاؤها إلى يوليو/تموز 1848.
ورغم أن تلك المحطة ظلت لفترات طويلة نقطة انطلاق رئيسية لرحلات دولية لا سيما خلال الفترة من 1994 حتى عام 2007، فإن الكثير من روادها قد لا يعرفون لماذا سميت بهذا الاسم، في ظل ما تحتله من مكانة وشهرة كبيرة، لكنها في الحقيقة تجسد إحدى أشهر المعارك في تاريخ أوروبا، تلك المعركة التي أطاحت بأحلام الجنرال الفرنسي نابليون بونابرت (1769- 1821).
تمثل تلك المعركة (Battle of Waterloo) النقطة الفاصلة في مسار الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، من الانتصارات المتتالية التي شملت قطاعات كبيرة في أوروبا وإفريقيا إلى الهزيمة النكراء التي اضطر على إثرها القائد الفرنسي لاعتزال العرش ثم نفيه خارج البلاد.
لم يكن يتوقع أحد في هذا الوقت أن تكون تلك نهاية قائد بحجم وخبرات نابليون الذي كان يمثل كابوسًا لقوى أوروبا بلا استثناء، وعلى قدر مكانته جاء وقع الهزيمة، التي دفعت الإنجليز فيما بعد لوصف أي شخص يعاني من حظ سيئ جدًا بأنه صادف “واترلو”.. فماذا نعرف عن تلك المعركة؟
نابليون وزهو الانتصارات
في بداية القرن التاسع عشر نجح جيش نابليون في تحقيق العديد من الانتصارات العسكرية في شرق الأرض وغربها، حيث استطاع في وقت قصير أن يضم العديد من بلدان أوروبا وآسيا إلى الإمبراطورية الفرنسية التي كانت تحكم قبضتها على الساحة الدولية حينها.
لم يتوقع الجيش الفرنسي المنتشي بالنصر الكبير الذي حققه في المعسكر الشرقي أن يجد فيه طريق عودته كل تلك العثرات
وكان الجيش الروسي في هذا التوقيت أحد أقوى جيوش العالم ولا يقل في العتد والعتاد عن نظيره الفرنسي، الأمر الذي دفع غرور نابليون للإجهاز عليه، للتفرد بقيادة المشهد، وبالفعل في عام 1813 أعدت فرنسا جيشًا ضخمًا عتاده يتجاوز عشرات الآلاف للاستيلاء على روسيا.
خاض الجيشان معركة حامية الوطيس، سقط فيها من الطرفين الآلاف بين قتيل وجريح، إلا أن المواجهة في النهاية حسمت لصالح جيش نابليون الذي خرج من روسيا ونشوة النصر تداعب تحركاته كافة، إلا أنه في طريق العودة إلى باريس تعرض لموجات من الإنهاك الشديد بسبب المسافة الطويلة التي قطعها بجانب البرد القارس.
لم يتوقع الجيش الفرنسي المنتشي بالنصر الكبير الذي حققه في المعسكر الشرقي أن يجد فيه طريق عودته كل تلك العثرات، فالهالة التي رسمها نابليون حول نفسه دفعت قوى العالم وقتها للتفكير أكثر من مرة قبل الإقدام على مواجهته، غير أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن الفرنسية.. إذ كانت جيوش أوروبا في انتظار الجنرال.
معركة دريسدن
وجدت دول أوروبا في إنهاك الجيش الفرنسي بسبب المسافة والبرد فرصتهم السانحة للقضاء عليه وإسقاط الإمبراطورية النابليونية، حيث تحالفت جيوش بروسيا وبريطانيا والنمسا والسويد وإسبانيا والبرتغال فيما عرف بـ”التحالف السداسي” وأعلنوا الحرب ضد نابليون.
وبالقرب من منطقة دريسدن بألمانيا اندلعت المواجهات العسكرية بين الجيشين، واستمرت المعركة قرابة يومين كاملين، انتهت بهزيمة كبيرة لجيش نابليون الذي فوجئ بالحشود الضخمة غير المتوقعة لجيوش أوروبا، الأمر الذي عزز التفوق العسكري للأوروبيين.
لم يستسلم نابليون للهزيمة، وعاود المواجهة مرة أخرى مع جيوش التحالف السداسي التي تعززت قوتها خلال الساعات التالية لمعركة دريسدن، حيث نشبت معركة أخرى بين الطرفين، عرفت بـ”معركة الأمم” ليتلقى القائد الفرنسي الهزيمة الثانية رغم معارضة قادة جيشه للدخول في مواجهات أخرى مع التحالف.
استطاع نابليون الهرب من منفاه في 26 من فبراير/شباط 1815، وبدأ التواصل مجددًا مع بعض جنرالات الجيش الفرنسي في محاولة لاستعادة الأوضاع
وبعد عودته إلى باريس دُفع نابليون المكبل بخيبات الهزيمة للتنازل عن العرش، مجبرًا دون شرط أو قيد، وكان ذلك في 11 من أبريل/نيسان 1814، فيما صدر قرار رسمي بنفيه إلى جزيرة إلبا، ليتولى مكانه الملك لويس الثامن عشر حكم البلاد، وهو القرار الذي تمرد عليه الجنرال المهزوم.
أجواء ما قبل المعركة
استطاع نابليون الهرب من منفاه في 26 من فبراير/شباط 1815، وبدأ التواصل مجددًا مع بعض جنرالات الجيش الفرنسي في محاولة لاستعادة الأوضاع مرة أخرى، وبالفعل وصل بسفنه إلى الساحل الشمالي حيث وجد في انتظاره فرقة عسكرية أعلنت دعمها له والزحف لمواجهة الجيوش الأوروبية في باريس لاستعادة أمجاد إمبراطوريته المفقودة.
وحين علم الحلفاء الأوروبيون بهروب نابليون في أثناء عقدهم مؤتمر فيينا في نفس العام، اضطروا لإنهائه على الفور، معلنين التفرغ التام للحرب ضد ما تبقى من الجيش الفرنسي، بعدما اعتبروا نابليون خارجًا على القانون وواجب محاربته، في محاولة لتحميله مسؤولية نتائج معركة واترلو الساخنة.
وما إن انفض المؤتمر حتى جهزت بريطانيا وبروسيا جيوشهما وتوجها إلى بلجيكا، فيما أعدت بقية دول الحلفاء الأربعة الآخرين جيوشهم حيث التقى الجميع جهة الراين، كان دوق ويلينغتون على رأس الجيش البريطاني بتعداد بلغ 68.000 جندي، والجنرال بلوخر على رأس الجيش البروسي بـ50.000 جندي، أما تعداد جيش بونابرت فكان 72.000 جندي.
بعد استشارة قادته اعتمد نابليون على خطة تهدف إلى كسر وحدة جيوش الحلفاء، خاصة أنهم كانوا أكثر عددًا، فكان المخطط أن يتم الفصل بينهم من أجل التقاء كل جيش على حدة في معركة منفصلة، وربما نجح الجيش الفرنسي بداية الأمر في تحقيق جزء كبير من هذه الخطة.
وكان نتاجًا لذلك أن اشتعلت بعض المعارك الفرعية قبل المعركة الكبرى، ومن أهمها معركة ليني وهي المعركة التي استطاع فيها نابليون هزيمة الجيش البروسي مما دفع بلوخر إلى الانسحاب والهرب، هذا بجانب معركة كواتر براس ومعارك أخرى حقق فيها الجيش الفرنسي انتصارات نسبية.
واترلو.. المعركة الفاصلة
أثارت الانتصارات التي حققها جيش بونابرت حفيظة جنرالات أوروبا، فعززت جيوش الدول الستة من عتادها، وبدأت في الحصول على الدعم اللازم من بعض الدول الأخرى، وأعاد قائد الجيش البريطاني ترتيب صفوفه من جديد، حيث لجأ إلى بعض التكتيكات العسكرية لتقوية موقفه وتنويع إستراتيجيات الهجوم على الفرنسيين.
بعد ساعات قليلة من مساء يوم المعركة شاهد نابليون جثث وأشلاء جنوده تتساقط على الأرض
الهجوم الأول في المعركة كان فرنسيًا، حيث حاول الجيش السيطرة على التبة التي يختبئ خلفها الجيش البريطاني، وهي المحاولات التي باءت بالفشل، ليصدر بونابرت أوامره للجيش باستهداف البريطانيين بالقذائف المدفعية، ما تسبب في وقوع العديد من الخسائر البشرية في صفوف جيش التحالف.
قاوم جيش ويلينغتون منذ صبيحة الـ18 من يونيو/حزيران 1815 نظيره الفرنسي، حتى قارب أن يفقد كل ما لديه من عتاد، إلى أن جاءه الدعم مساءً عن طريق جيش بلوخر البروسي الذي كان عتاده 50 ألف عسكري بجانب المعدات العسكرية الأخرى.
وانضم الجيش الإنجليزي إلى البروسي بجانب الدعم الذي وصل من الجيوش الأربع الأخرى، لتبدأ فعاليات المواجهة الرسمية بين الطرفين، غير أن تهور الجيش الفرنسي والتسرع في اتخاذ قرار الهجوم على المواقع الأوروبية كان السبب الأبرز وراء الخسائر التي لحقت بجيش الجنرال الفرنسي.
وبعد ساعات قليلة من مساء يوم المعركة شاهد نابليون جثث وأشلاء جنوده تتساقط على الأرض، الأمر الذي أثار حنقه ودفعه لمحاولة إلقاء نفسه وسط النيران المشتعلة، لولا تدخل بعض حراسه الذين منعوه ونحوه جانبًا، بعيدًا عن ساحة المعركة، ليغادر على جواده مطأطئ رأسه وهو يقول: خسرنا كل شيء.
العديد من الخسائر شهدتها تلك المعركة من الجانبين، إذ تحولت ساحة واترلو إلى بركة دماء كبيرة مكتظة بالجثث من هنا وهناك، حيث مني الجيش الفرنسي بأكثر من 40 ألف قتيل ومصاب، بجانب 7 آلاف أسير، أما جيش التحالف فمني هو الآخر رغم انتصاره في المعركة بقرابة 24 ألف بين قتيل وجريح.
وما إن عاد القائد الفرنسي الذي طالما قهر أوروبا بانتصاراته المدوية إلى بلاده حتى تنازل عن العرش تمامًا، وتم نفيه بعدها خارج البلاد، لكن هذه المرة إلى جزيرة سانت هيلينا، لتبقى معركة واترلو القشة التي قصمت ظهر الجنرال وهوت بإمبراطوريته من فوق قامات المجد إلى سراديب الهزيمة والخسارة.