استمدت هضبة الأناضول أهميتها السياسية والاقتصادية من طبيعة موقعها الجغرافي الذي شكل حلقة وصل مرت من خلالها أهم الطرق التي ربطت حواضر العالم القديم الممتدة من الإمبراطورية الصينية مرورًا بالإمبراطورية الفارسية والعربية وليس انتهاءً بالممالك الاوروبية.
اكتسب بحر مرمرة أهمية خاصة في معادلة الموقع الإستراتيجي للأناضول، فمن خلاله ارتبطت الحواضر المدنية في البحر الأسود مع البحر الأبيض المتوسط قلب العالم القديم، كما أقيمت على شواطئه أهم المدن التاريخية بدءًا من القسطنطينية مرورًا بمدينة بورصة عاصمة العثمانيين سابقًا.
ومع بداية القرن الماضي وبالتوازي مع انحسار مساحة حكم الدولة العثمانية، استقبلت منطقة مرمرة موجات متتابعة من الهجرات القادمة من البلقان، الأمر الذي ترك أثره على طبيعة التركيبة السكانية للمنطقة التي تحولت إلى عصب العملية التنموية للجمهورية التركية لاحقًا.
إقليم مرمرة: تقسيماته ومدنه
شهدت أربعينيات القرن الماضي تزايدًا في حضور الدولة وأجهزتها الإدارية في عمليات التخطيط الاقتصادي والإداري على خلفية ما تعرض له العالم من تدمير في الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى انتشار أفكار المدرسة الكينزية الداعية إلى دور أكبر للدولة في المجالات المتعلقة بالاقتصاد والإدارة، ولتحقيق أكبر قدر ممكن من استغلال الموارد درجت العادة لدى هذه الدول على تقسيم البلاد وفقًا لخصائصها الاقتصادية بالدرجة الأساسية.
وفي ظل هذا النقاش انعقد المؤتمر الجغرافي الأول في مدينة أنقرة عام 1941 بحضور مختصين في الجغرافيا والإدارة والاقتصاد من مختلف مناطق الجمهورية التركية، واضعًا نصب عينيه الوصول إلى تقسيم إداري جديد للجمهورية التركية.
تضمنت مخرجات المؤتمر التوصية بتقسيم الجمهورية التركية إلى 7 أقاليم أساسية (إقليم مرمرة، إقليم إيجه، إقليم البحر الأسود، إقليم الأناضول الداخلي، إقليم البحر المتوسط، إقليم شرق الأناضول، إقليم جنوب شرق الأناضول)، على أن تقسم الأقاليم إلى مناطق يختلف عددها وفقًا لطبيعة الإقليم، ولاحقًا اعتمدت الدولة التركية مخرجات المؤتمر.
قسم إقليم مرمرة لاحقًا الى أربع مناطق ضمت كل منها عددًا من المدن، بدءًا من منطقة إيرغيني (Ergene) التي تضم مدينة أدرنة ومدينة تيكيرداغ، أما المنطقة الثانية فهي منطقة جبال يلدز التي تضم مدينة كيركالي، والمنطقة الثالثة هي منطقة تشاتلجا وكوجالي ومن أهم مدنها إسطنبول وسكاريا وإزميت، وأخيرًا منطقة جنوب مرمرة وتضم عددًا من المدن كبورصة وتشاناك قلعة وبالكاسير.
منطقة مرمرة: الطرف والمركز في آن واحد
لسنوات طويلة شكلت المدن الواقعة في نطاق منطقة مرمرة مركزًا وسيطًا بين مدن الأناضول والبلقان، الأمر الذي مكنها من بسط سيطرتها على تفاعلات السياسة والاقتصاد في هذا المجال الممتد من حدود إيران شرقًا إلى البلقان غربًا، ومع تقلص مساحة الدولة العثمانية إلى حدود تركيا الحاليّة، أصبحت منطقة مرمرة على طرف حدود تركيا الجمهورية بعد أن كانت في قلب الإمبراطورية العثمانية، لكن هذا التموضع الجديد لا يعكس بصورة كبيرة المكانة الحقيقية للمنطقة التي تشكل 8.5% من مساحة تركيا الحاليّة.
فعلى صعيد التوزيع السكاني يأتي إقليم مرمرة في المرتبة الأولى بفارق يصل إلى الضعف عن الإقليم الذي يليه، حيث وصل إلى ما يقرب من 24.5 مليون نسمة، كما يأتي في المرتبة الأولى من حيث نسبة الشباب لعدد السكان بعدد وصل إلى ما يقارب 6 ملايين شاب.
وتستحوذ منطقة مرمرة على 60% من الإنتاج الصناعي في تركيا، كما تحتل المرتبة الأولى في معدل الدخل السنوي للأفراد، بالإضافة إلى ذلك تمتلك المنطقة أهم شبكة نقل ومواصلات على مستوى الجمهورية التركية، هذه العوامل وغيرها تجعل إقليم مرمرة من أهم الأقاليم على المستوى الاقتصادي والسياسي في تركيا.
منطقة مرمرة: فسيفساء الأناضول في أبهى صورها
تعد ظاهرة الهجرة من أهم الظواهر الاجتماعية التي تركت أثرًا على التركيبة الاجتماعية والسياسية في تركيا خلال القرن الماضي، وتعد منطقة مرمرة من المناطق التي استقبلت موجات متعددة من المهاجرين من مختلف المناطق، بدءًا من الهجرات البلقانية التي ترافقت مع تقلص مساحات الدولة العثمانية في منطقة البلقان وأوروبا الشرقية، الأمر الذي دفع مئات آلاف المسلمين إلى الهجرة لحدود تركيا الحاليّة، فاستقبلت مدن منطقة مرمرة هؤلاء اللاجئين، ما يفسر سبب تركز تجمعات عرقية كالبوشناق والألبان وأتراك بلغاريا واليونان في هذه المنطقة.
ومع انتهاء الحرب الأهلية الروسية 1923 استقبلت مدينة إسطنبول وبعض المدن المحيطة بها مئات آلاف الروس النازحين من بطش البلاشفة الذين استطاعوا الانتصار على قوات الروس البيض المناصرة للقيصر والمدعومة من الغرب.
ومع بداية موجات التصنيع في عهد الجمهورية التركية تحولت مدن منطقة مرمرة إلى مركز مهم للاقتصاد التركي الناشئ وتحديدًا مدينة إسطنبول التي تحولت إلى المستقبل الأول للمهاجرين القادمين من مدن الأناضول المختلفة، ما جعل من مدينة إسطنبول تركيا المصغرة، فإذا نظرنا إلى التركيبة السكانية، فسنجد في المدينة سكان أهل البحر الأسود الذين اشتغلوا في المهن المرتبطة بالصيد والتجارة والمقاولات، فيما استطاع أهل المناطق الجنوبية الشرقية تطوير علامات تجارية لعدد من المطاعم التي نالت شهرة واسعة واستطاعت نشر أكلات هذه المناطق على مستوى تركيا والعالم.
ولعبت مدينة إسطنبول دورًا مهمًا كبوابة للتنمية والتطوير والحداثة، فاستطاعت الفئات القادمة من ريف الأناضول بناء وتطوير ذاتها الأمر الذي انعكس على المناطق التي جاءوا منها وحافظوا على تواصل معها.
منطقة مرمرة والسياحة
بسبب إطلالة المنطقة على عدد من البحار والمسطحات المائية ووفرة الأماكن التاريخية والأثرية أصبحت منطقة مرمرة لسنوات طويلة مقصدًا للسياح الأتراك والزوار الأجانب، فبدءًا من مدينة أدرنة العاصمة الثانية للدولة العثمانية والواقعة اليوم على الحدود التركية اليونانية التي تضم مسجد السليمية أهم الآثار التاريخية الذي بناه المعماري العثماني الشهير سنان باشا، بالإضافة إلى سوقها الشهير الذي كان مركزًا تجاريًا مهمًا لمنطقة البلقان.
ومن مدينة أدرنة من الممكن الاتجاه نحو مدينة إسطنبول عاصمة السياحة في تركيا، التي تجمع بين سحر الموقع الجغرافي وسحر التاريخ، ولطالما شكلت مناطقها مركزًا سياحيًا داخليًا وخارجيًا.
ومن مدينة إسطنبول يمكن التوجه لاحقًا إلى مدينة سكاريا خضراء التي تحتوي على بحيرة سبانجا أهم البحيرات المائية في تركيا والمحاطة بعدد من المنشآت السياحية، كما تطل المدينة على شاطئ البحر الأسود.
ومن سكاريا يمكن الانطلاق تجاه عاصمة العثمانيين الأولى مدينة بورصة بما فيها من منشآت سياحية ومواقع أثرية بناها العثمانيون، كما تشتهر المدينة بجبل الأولداغ ومنشآت التزلج المقامة عليه، وعلى الجهة المقابلة من مدينة بورصة تقع مدينة جناق قلعة التي شهدت أهم معارك الحرب العالمية الأولى، بالإضافة إلى المواقع الإغريقية التاريخية كبقايا مدينة طروادة.
ختامًا، تكثر العوامل التي تجعل من منطقة مرمرة أهم مناطق الجمهورية التركية، بدءًا من احتوائها على مدينة إسطنبول كبرى مدن الجمهورية وعاصمة الإمبراطورية العثمانية لسنوات طويلة، بالإضافة إلى احتواء المنطقة على أهم المنشآت السياحية والاقتصادية والتجارية.
ولا تقتصر مميزات المنطقة على موقعها الجغرافي ومكانتها الاقتصادية، بل تتعداها إلى طبيعة البنية التحتية المتقدمة التي تضمها، حيث تحتوي على مطارين دوليين وشبكة سكة حديد تسير عليها قطارات سريعة وعادية، كما ترتبط مدنها بشبكة من الطرق السريعة وأخيرًا تزدهر في المنطقة الخطوط البحرية التي تربط مدنها بعضها ببعض.