كثير منا من سمع عن أقلية الإيغور المسلمة واحتجاز السلطات الصينية نحو مليون شخص منهم في معسكرات وصفتها بمراكز للتدريب المهني وإعادة التأهيل تهدف إلى التخفيف من حدة الفقر ومكافحة تهديدات الإرهاب، ومعاناتهم المستمرة جراء الانتهاكات المتواصلة في حقهم.
في هذا التقرير لـ”نون بوست” الذي سنفتتح به ملف “حكايا شعوب” سنطرق أبوابًا أخرى نتحدث من خلالها عن هوية هذه الأقلية المنتهك حقوقها، بالإضافة إلى المقامات الاثنتا عشر – أم موسيقى الإيغور- التي تحكي تاريخهم وعاداتهم الممتدة لآلاف السنين، واهتمامهم الشديد بمهرجانات المزارات وموسيقى “السنام” الرائعة.
من الإيغور؟
يعني لفظ “الإيغور”، الاتحاد والتضامن باللغة الإيغورية، وهم عبارة عن أقلية عرقية تركية تنتمي عرقيًا وثقافيًا إلى المنطقة العامة لوسط وشرق آسيا، يقيم أغلبهم حاليًّا في إقليم “شينغيانغ” الصيني الذي يعني باللغة الصينية “الحدود الجديدة”، بعد أن غيرته الصين من “تركستان الشرقية” وتعني “تركستان” أرض الأتراك.
اعتُمد مصطلح “الإيغور” للدلالة على هذه الأقلية مطلع القرن التاسع عشر، حيث كان يطلق عليهم أسماء عديدة، فغالبًا ما تُعرف هذه المجموعات من الناس نفسها بواحة منشأها بدلًا من أصلها العرقي، على سبيل المثال: قد يشير من هم من كاشغار إلى أنفسهم باسم كاشغارليك أو كاشغاري، بينما من هم من خوتان يصفون أنفسهم بـ”خوتاني”، فيما يصف الأتراك أنفسهم “مسلمان” أي مسلم، أما الروس فكانوا يطلقون عليهم أسماء “سارت” و”ترك” أو “تركي”، أما الصينيون فيطلقون عليهم لفظ “شانتو”.
يدين الإيغور المعاصرون بدين الإسلام الحنيف في المقام الأول، وهم ثاني أكبر عرق مسلم في الصين بعد الهوي
تقدر الصين عددهم بـ15 مليونًا، لكن التقديرات المستقلة لأعداد الإيغور تقدر عددهم بنحو 35 مليون نسمة، تُعتبر هذه الأقلية واحدة من بين 55 أقلية عرقية معترف بها رسميًا في الصين، إلا أن الصين ترفض فكرة اعتبارهم من السكان الأصليين، ولا تعترف إلا بكونهم أقلية إقليمية داخل دولة متعددة الثقافات رغم أنهم يعيشون هناك منذ قديم الزمان.
فضلًا عن الصين، توجد مجتمعات كبيرة من الإيغور في الشتات ببلدان آسيا الوسطى مثل كازاخستان وقيرغيزستان وأوزباكستان، كما تعيش بعض المجتمعات الأيغورية الصغيرة في كندا وألمانيا وبلجيكا والنرويج والسويد وروسيا والمملكة العربية السعودية وتركيا وأفغانستان وأستراليا والولايات المتحدة وهولندا.
يدين الإيغور المعاصرون بدين الإسلام الحنيف في المقام الأول، وهم ثاني أكبر عرق مسلم في الصين بعد الهوي، فالإسلام – الذي وصلهم بالكلمة الطيبة والدعوة الحسنة – جزء من هويتهم، يحافظون عليه رغم الحملة الشرسة التي تُمارسها السلطات الصينية ضدهم لردهم عن الإسلام.
اعتنقوا الدين الإسلامي على مراحل عدة، وكانت البداية خلال القرن العاشر، ولم يكتمل تحويل شعب الإيغور إلى الإسلام حتى القرن السابع عشر، وبذلك طُردت البوذية من هناك بعد أن كانت مذهب أغلب السكان.
المقامات
تاريخهم الحافل مكنهم من تطوير العديد من الفنون على رأسها الموسيقى، حتى إن البعض يحلو له تسمية إقليم “شينغيانغ” موطن الإيغور بـ”موطن الغناء والرقص”، حيث يحترف أبناء الإيغور الغناء والرقص، وتعكس أغانيهم ورقصاتهم التاريخ العريق والحياة المعاصرة للمجتمع.
تعددت الفنون هناك، لكن أبرزها على الإطلاق فن “المقام”، وهو النمط الموسيقي الكلاسيكي للإيغوريين، حيثما يوجد الإيغور، يكون هناك مقام، ويمتاز هذا الفن بشموليته الموسيقية من خلال ألحانه الرائعة وقصائده الجميلة ورقصاته المبهرة.
تدل كلمة مقام في اللغة الإيغورية على عدة معان منها: “مجموعة قواعد” و”مجموعة ألحان” و”مجموعة موسيقية كبيرة”، لكنها في الأصل لفظة عربية مدلولها الاصطلاحي هو أسلوب من أساليب الأدب العربي يتضمن قصة قصيرة مسجوعة، ثم تحولت إلى اصطلاح موسيقي يمثل 12 سلمًا أساسيًا من الموسيقى العربية الإسلامية.
تمثل المقامات الإيغورية مجموعات تقليدية من الألحان التي تجمع بين “لحن الغناء” و”لحن الرقص” و”لحن الجواب”
طُور نظام المقامات بين الإيغور في شمال غرب الصين وآسيا الوسطى على مدار الـ1500 عامًا الماضية تقريبًا من نظام المقامات الشرطي العربي الذي أدى إلى العديد من الأنواع الموسيقية بين شعوب أوراسيا وشمال إفريقيا، حيث شهد تطورًا متكررًا خلال فترات تاريخية طويلة.
يمتلك الإيغور أنظمة مقام محلية سميت باسم مدن الواحات في شينجيانغ، مثل دولان وإيلي وكومول وتوربان، وقد استخلصت النابغة في الشعر والموسيقى أماني ساهان في منتصف القرن السادس عشر الميلادي، 12 مقامًا، المعروفة بالاثني عشر مقامًا.
بينما “المقام” شكل فني انتشر في المناطق الإسلامية في العديد من أنحاء العالم، تتسم المقامات الاثنا عشر بصفات إيغورية مميزة، ومنذ انتشارها بين أبناء الإيغور، لعب “الاثنى عشر مقامًا” دورًا لا غنى عنه في حياة الناس، فهم يرقصون بمصاحبتها ويغنون على ألحانها، حتى إنها أصبحت إحدى ملاحم الإيغور.
كل واحد من المقامات الاثنا عشر، الذي يتبع بصرامة التقويم الفلكي، مقسم إلى ثلاثة أجزاء هي: الألحان وإيقاع الآلات والقصائد الروائية والرقصات، لكل منها 25- 30 لحنًا فرعيًا، وتتكون المجموعة الكاملة للمقامات من 360 لحنًا مختلفًا ويستغرق عزفها جميعًا عشرين ساعة، وتعرف باسم “أم الموسيقى الإيغورية” وتلقب بـ”لؤلؤة الموسيقى الشرقية”.
وتمثل المقامات الإيغورية مجموعات تقليدية من الألحان التي تجمع بين “لحن الغناء” و”لحن الرقص” و”لحن الجواب”، وتمثل جميعها روائع فنية نادرة، لذلك يمكن أن تعتبر رمزًا حقيقيًا لقومية الإيغور على مر السنين.
مهرجانات المزارات
فضلًا عن المقامات، يُعرف الإيغور أيضًا بمهرجانات “المزارات” (أضرحة) التي تنتشر في جميع أنحاء الصحاري والواحات والمدن في شينغيانغ، لترسم مناظر طبيعية مقدسة يعبر الفلاحون مساراتها سنويًا في رحلة حجهم حولها، فهم يعتقدون أن لتلك المزارات قوة خارقة لتحقيق مطالبهم.
من تلك المزارات نجد مثلًا مزار ضريح السلطان ستوق بغراخان الذي يعود إلى القرن الحادي عشر، ويعد ستوق بغراخان من أوائل الإيغوريين الذين اعتنقوا الإسلام، وكان انتشار الإسلام حينها في تلك المناطق بطيئًا.
تنظم سنويًا العديد من المهرجانات التي يحضرها الآلاف، حيث يأتي “الحُجاج” للاحتفال والتبرك بالأولياء، فيما يأتي كبار السن من الرجال للرقص والشباب للقاء بعضهم البعض، أما النساء فيأتين للصلاة هناك في المزارات لطلب بعض الأماني.
تصدح الموسيقى في هذه المهرجانات عن الأبطال المحليين أو العشاق المشهورين بمصاحبة طبل يقرع بعصي، فيما تنتشر حلقات الذكر الصوفية في أرجاء المزارات، وهي عناصر أساسية في هذه المهرجانات، وتستخدم للترفيه وللطقوس المعنوية.
يعتبر “مهرجان أوردام” أحد أكبر مهرجانات المزار في شينغيانغ، ويقام هذا المهرجان على ضريح “علي أرسلان خان” من إمبراطورية “قاراخان”، أول إمبراطورية إسلامية في المنطقة، الذي توفي خلال حرب السنوات الخمسين ضد المملكة البوذية المجاورة خوتان.
في بداية الحفل، يتلو شيخ كبير آيات من القرآن الكريم، بعدها يبدأ أحد الشباب في عزف الراواب – يرتدي عادة قبعة مسطحة – بمرافقة عدد من الرجال الذين يعزفون على الطبل بالعصي وعلى آلة الدف، فيبدأ الجمع في الانتشاء.
تحكي هذه الفنون قصة شعب الإيغور الذي يعاني من اضطهاد الصين لتشبثه بدينه وحضارته وتاريخه الغني بالملاحم الكبرى
يغني عازف الراواب قسمًا افتتاحيًا خاليًا من الإيقاع بصوت خام مليء بالعاطفة، ويتناغم الإيقاع مع صرخات طويلة في نهاية كل مقطع يغنيه مع حركات مسرحية إلى أن يصبح الإيقاع أكثر عمقًا، فيما يبقى الجمهور الكبير يتابع في هدوء فنصبح أمام مشهد متناقض، حماس الموسيقيين مع هدوء الحاضرين.
في زاوية أخرى، تُشاهد جمعًا آخر يصلي كي يبارك الله في المهرجان، فيما يتحرك جمع غفير باتجاه ضريح علي أرسلان خان وهم يحملون أعلامًا كبيرة ملونة – الأعلام زهرية، زرقاء، حمراء وبيضاء مع خطوط ذات هوامش من الفراء الأسود، تذكرنا بأعلام الصلاة التبتية – وطبول يدقون عليها ويقودهم عازف يعزف إيقاعًا باستمرار لإحياء روح المهرجان.
رقصة “سنام”
نرجع إلى مجموعة العزف، ففجأة يقفز أحد المتابعين ويبدأ في الرقص ببطء ثم يزداد حماسه بشكل تدريجي، حيث تصبح الرقصة أكثر حيوية، خاصة في النهاية، يحرك ساقيه وذراعيه بأشكال غريبة ويصرخ باكيًا “الله”، والجميع يشاركونه الصراخ، كأنهم يتضرعون للمولى تعالى.
إننا أمام مشهد حماسي، قل مثيله، لرقصة “سنام” المشهورة، التي تشمل حركات الراقصين، الحركات المميزة للرقبة وحركات المرفقين والعينين والأصابع، ويمكن للراقصين أيضًا الارتجال بعد إيقاع الموسيقى.
حركات رشيقة وأنيقة ومتنوعة تحددها الموسيقى والإيقاع، والميزة الأساسية هي تنسيق حركات أجزاء مختلفة من الجسم – الرأس والكتفين والمعصمين والخصر والساقين -، على سبيل المثال، تتضمن حركات الرأس قلب الرقبة والاهتزاز ويدور الرسغان ويتقاطعان ويؤديان حركات تشبه الموجة، فيما تعد حركات الساق أكثر تنوعًا، بما في ذلك توجيه إصبع القدم والركل للخلف والختم والدوران.
تعبر رقصات سنام على وجه الخصوص عن مشاعر وشخصية الإيغور، كما أنها تحكي إلى جانب المقامات الاثنا عشر ومهرجانات المزارات قصة هذا الشعب الذي يعاني من اضطهاد الصين لتشبثه بدينه وحضارته وتاريخه الغني بالملاحم الكبرى.