الانتقال من موقف إلى آخر ومن أيديولوجية إلى أخرى إستراتيجية تحتاج إلى مستوى معين من الحنكة وقراءة المشهد بذكاء وتروي، تجنبًا للوقوع في مرمى سهام النقد والتوبيخ، فالتحول السريع في المواقف يقابله سقوط مدوي في منسوب ثقة محبي الكاتب ومؤيديه.
غير أن البعض قد اعتاد على هذا السقوط، وبات التنقل بين موجات المد والجزر عقيدة يمارس طقوسها بين الساعة والأخرى، وهي الحالة التي يجسدها بكامل تفاصيلها الأكاديمي الإماراتي “عبدالخالق عبدالله” مستشار ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد.
لو كانت هناك جوائز تمنح للمتقلبين سياسيًا ممن يغيرون مواقفهم بين الحين والأخر لكان مستشار بن زايد هو الأجدر بها، فالرجل لم يترك قضية محلية كانت أو إقليمية إلا وتراقص على أحبالها جميعًا، مرسخا بهذا النهج لاستراتيجية جديدة في علوم السياسة الأكاديمية مفادها أن الرقص على الأحبال أقصر طرق الوصول إلى المبتغى.
نجح الأكاديمي الإماراتي خلال الأيام الماضية في أن يكون حديث الساعة على منصات السوشيال ميديا، وذلك بعد القفزة الكبيرة في مواقفه بشأن التطبيع في أعقاب الاتفاق الموقع بين الإمارات و”إسرائيل”، حيث انتقل من أقصى يمين التوبيخ لكل خطوات التطبيع ووصم من يهرول نحوه بالخيانة، إلى التمجيد والتهليل بالقرار الإماراتي الذي وصفه بأنه “قرار مدهش”.
ورغم عمله بالحقل الأكاديمي لسنوات وحصوله على العديد من الجوائز إلا أن قبلته في التحرك الأيديولوجي والسياسي والفكري تمحورت في “إرضاء بن زايد” والسير في فلكه، حتى لو تعارض ذلك مع معقتداته الفكرية، ومرتكزات السياسة الوطنية التي طالما يتشدق بها، وهو ما حصره في هذه المنطقة الضيقة التي بات من الصعب الخروج منها دون خسائر.
وفي الوقت الذي نفى فيه عمله كـ “مستشار بن زايد” وذلك بعد نعته بهذا التوصيف قرابة 10 سنوات كاملة دون أي رد فعل منه، بحسب الحوار الذي أجراه معه موقع “إيلاف” السعودي والذي يرتبط بعلاقات قوية مع السلطات الإماراتية، في سبتمبر 2018، مشددًا على أنه لا مرجعية حكومية له، أكد ناشطون إماراتيون على هذا الدور الذي يتنصل منه مؤخرًا، وذلك بعد التهديدات التي تعرض لها من قبل إيران من جانب وتصريحاته الجدلية التي وضعت أبو ظبي في حرج أكثر من مرة من جانب أخر.
التطبيع.. الرقص على الأحبال
تزعم الأكاديمي الإماراتي حملة الترويج لاتفاق العار الموقع بين بلاده وتل أبيب، وبدلا من مناقشة دوافع هذه الخطوة المثيرة للجدل تساءل عبر تغريدة له “السؤال ليس كيف وصلت الإمارات للتطبيع، بل كيف تصالحت 82% من إجمالي دول العالم مع (إسرائيل) رغم ما تمثله من احتلال لا يمكن التصالح معه أخلاقيا؟”.
التغريدة لا تتعلق بتبرير الخطوة الإماراتية فحسب بل بتمجيد الدبلوماسية الإسرائيلية التي نجحت في التصالح مع هذه النسبة الكبيرة من دول العالم، مضيفًا في تغريدة أخرى أن “الإمارات أول دولة خليجية وثالثة دولة عربية وتاسع دولة إسلامية في مقدمتها تركيا والدولة 158 عالميًا من أصل 192 دولة تعترف بالعدو الاسرائيلي”.
وقبل هاتين التغريدتين كان قد نشر مقالا بعنوان: “حتميّة التطبيع والتصالح مع “إسرائيل” إماراتيًا وخليجيًا وعربيًا“، وصف من خلاله قرار التطبيع بأنه “قرار مدهش”، مستعرضًا الأسباب التي دفعت بن زايد للإقدام على هذه الخطوة قائلًا إن الظروف تجعل من “التصالح مع إسرائيل حتمية تاريخية، وتفرض التطبيع فرضًا على الدول العربية جميعها”.
وأضاف مسوقا لهذه الخطوة: “يأتي قرار الإمارات ضمن هذا السياق التاريخي، الذي جعل التصالح والتطبيع حتمية تاريخية كالساعة لا ريب فيها، ولا راد لها، بعد سبعين سنة من الصراع العربي – الإسرائيلي” مدعيًا أنه “من غير الوارد هزيمة “إسرائيل” ومن غير الوارد تحرير فلسطين مهما ادعى المدعون غير ذلك”.
انا من جيل تربى على أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا أنتركهم يغصبون فلسطين مجد العروبة والسؤدد لذلك انا ضدد التودد للكيان الصهيوني وضد أي شكل من أشكال التطبيع مع العدو الاسرائيلي.
— Abdulkhaleq Abdulla (@Abdulkhaleq_UAE) December 22, 2019
اللافت للنظر أن الانقلاب في مواقف مستشار بن زايد تجاوز فكرة تبرير خطوة التطبيع إلى استفزاز مشاعر المسلمين جميعا، وذلك حين كتب تغريدة في مارس الماضي قال فيها “إنه وخلال 100 عام من عمر جائزة نوبل، لم يحصل المسلمون سوى على 12 جائزة منها، فيما حصل اليهود على مئة 180 مرة، في تلميح خبيث منه لتفوق وتقدم اليهود عن المسلمين” وهي التغريدة التي اعتبرها البعض تقليلًا من شأن المسلمين لحساب اليهود.
كان مستشار ولي عهد أبو ظبي من أشد المعارضين للتطبيع، ولطالما شن هجومه اللاذع على خطوات التقارب مع دولة الاحتلال، فهو الذي انتقد وبشدة زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” لسلطنة عمان، العام الماضي، كما أنه صاحب الحملة الإلكترونية الحادة على المروجين للتطبيع.
حتى بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن قرب توقيع الاتفاق منتصف أغسطس الماضي، كان عبدالله أحد الرافضين لهذا التحرك، وهاجم في تغريدة له، استغلال أبوظبي للأطفال للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، حيث أرفقها بصورة لأطفال يرتدون تي شيرتات بيضاء عليها العلمان الإماراتي والإسرائيلي معلقا: “الرجاء عدم الزج بالأطفال فيما لا يعنيهم، ولا يغنيهم، هذا استغلال للطفولة والبراءة في غير محله، وقد يكون مخالفًا لقانون سنة 2016، الذي يعاقب إهمال واستغلال الأطفال”، وذلك قبل أن يتراجع ويحذف تغريدته.
أن يتراجع عبد الخالق عبد الله @Abdulkhaleq_UAE عن موقفه الرافض للتطبيع فذاك أمر يحتمل أكثر من تفسير، وقد يكون الرجل مغلوباً على أمره، لكن ما بسيء لصفته كأستاذ علوم سياسية هو عجزه عن قراءة مؤشرات الهاوية التي تردت اليها بلاده، بإطلاقه منذ شهور تغريدات يتمنى اليوم لو أنه لم يطلقها pic.twitter.com/taJCK6hj6S
— ماجد عبد الهادي Majed Abdulhadi (@majedabdulhadi) September 17, 2020
وفي ديسمبر 2019 كان قد أعلن أنه ضد ما وصفه بـ”التودد” للجانب الإسرائيلي، وأنه ضد التطبيع معه بأي شكل من الأشكال، وكتب يقول “أنا من جيل تربى على أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا. أنتركهم يغصبون فلسطين مجد العروبة والسؤدد؟ لذلك أنا ضدد التودد للكيان الصهيوني، وضد أي شكل من أشكال التطبيع مع العدو الإسرائيلي”.
وقد أدى هذا التناقض الواضح في الموقف بشأن التطبيع، والانقلاب على المعتقدات لإرضاء توجهات محمد بن زايد، إلى موجة انتقادات وسخرية قوبل بها الأكاديمي الإماراتي الذي حاول بشتى السبل الدفاع عن نفسه من خلال تبريرات زادت من وتيرة سخرية رواد مواقع التواصل الاجتماعي.
ينكب علماء وأطباء في 5 دول لتطوير لقاح ضد فيروس #كورونا معظمهم من قوم عيسى وموسى وبوذا وعندما يجدون العلاج سيعم العالم فرح كوني.
— Abdulkhaleq Abdulla (@Abdulkhaleq_UAE) March 30, 2020
الهجوم المستمر على تركيا وقطر
على نفس خطى سياسات بن زايد سار مستشاره، حيث الهجوم المستمر على تركيا وقطر، فالرجل لا يترك موقفا يتعلق بأي من الدولتين إلا وكان حاضرًا وبقوة لدعم مواقف وتوجهات سيده، ولعل أحدث صيحات الهجوم التي قادها الإعلان صراجحة عن دعم اليونان في نزاعها مع تركيا.
وطالب كذلك بمؤازرة أوروبا ودول المنطقة لأثنيا في مواجهة ما أسماه “أطماع تركيا الاستعمارية في شرق المتوسط” وهو الموقف الذي تعرض بسببه لهجوم شرس من المغردين الذين طالبوه بتوجيه النصيحة لولي عهد أبو ظبي بتحرير الجزيرتين المحتلتين إيرانيًا قبل أن يبحث عن حقوق دولة أخرى لا تمت بصلة للإمارات.
كما اعتاد الرجل على التطاول المستمر على السلطات التركية، رئيسًا وحكومة، مستندًا إلى الموقف الرسمي لبلاده التي ترى في أنقرة العقبة الأبرز نحو توسيع دائرة نفوذ أبناء زايد في المنطقة، الأمر الذي دفعه إلى توبيخ حلفاء تركيا في المنطقة وفي المقدمة قطر.
ففي تصريحات سابقة له حرّض بشكل مباشر على قطر بسبب قرارها دعم تركيا في مواجهة الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي أحلت بها، حيث كتب على حسابه على “تويتر” يقول: “أمير قطر يعلن من أنقرة أن بلاده ستستثمر 15 مليار دولار بشكل مباشر في تركيا”، وتابع: “ورسالة قطر لأمريكا واضحة وبسيطة: أن الشريك التركي أهم من الشريك الأمريكي، وأنها تراهن على أردوغان ولا تراهن على ترامب”، مطالبًا ترامب الرد على ما أسماه “انحياز قطر لأردوغان”.
تصريحات مستفزة
لم تتوقف تصريحاته المستفزة عند حاجز الدول التي بينها وبين بلاده خصومة سياسية فقط، بل تجاوز الأمر إلى توجيه سهام نقده يمينًا ويسارًا، دون أي مراعاة لتداعيات مثل تلك التصريحات على مستقبل العلاقات بين بلاده والدول العربية التي أثار حفيظتها.
ومن أبرز تلك التصريحات ما أثاره خلال جلسة “منطقة الخليج.. القدرات والاحتمالات”، ضمن ملتقى أبوظبي الاستراتيجي السادس في 11 نوفمبر 2019 بشأن تولي دول الخليج مسؤولية الحفاظ على أمن 16 دولة عربية أخرى وصف حالها بـ “يرثي لها”.
ودفعت تلك الكلمات أمين عام الجامعة العربية الأسبق، عمرو موسى، إلى التعليق بأن تلك التصريحات بعيدة تمامًا عن التحيليل الواقعي، بل تصل إلى حد الخطورة كونها تؤدي إلى قرارات خاطئة، موجها عدة تساؤلات للأكاديمي الإماراتي أبرزها ماذا تقصد بأن منطقة الخليج هي الأساس في الحفاظ على الأمن العربي؟ وما هو الدور الخليجي بالضبط فيما عدا شراء الأسلحة؟
وفي 26 أغسطس الماضي شن هجومًا ضد الأمير علي بن الحسين، ابن الملك حسين وشقيق العاهل الأردني عبد الله الثاني، بسبب تغريدته التي انتقد فيها الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، مذيلًا إياها بـ “التطبيع خيانة”، ليرد عليه مستشار بن زايد “عيب ياسمو الأمير” ما أثار الجدل وقتها على منصات السوشيال ميديا.
كما تعرض لهجوم كاسح من الجزائريين بعد تغريدته التي كتبها في 11 مارس 2019 حين وصف موقف الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بعدم الترشح لولاية خامسة بأنه “قرار شجاع من مجاهد شجاع أدى دوره وخدم وطنه وأعطى وأجزل في العطاء”، الأمر الذي أغضب الشارع الجزائري الذي اعتبره تدخلا في شؤون البلاد الداخلية.
هذا بخلاف مواقفه الجدلية في الشأن اليمني، ففي 28 يوليو 2019 أثارت تغريدة له غضب يمنيين وعرب، وأشعلت موجة انتقادات في مواقع التواصل، حين قال “إن اليمن لن يكون واحدًا ولا موحدًا بعد اليوم” ما دفع مستشار وزير الإعلام اليمني، مختار الرحبي، للرد عليه قائلاً: “لا يحق لك ولا لغيرك تقرير مصير الشعب اليمني”.
قرر ان لا يترشح لعهدة خامسة استجابة لمطالب شعب الجزائر الابي وحفاظا على استقرار الجزائر. قرار شجاع من مجاهد شجاع أدى دوره وخدمه وطنه واعطى وأجزل في العطاء. pic.twitter.com/3kH3L1O2lj
— Abdulkhaleq Abdulla (@Abdulkhaleq_UAE) March 11, 2019
حتى الحلفاء لم يسلمو
التصريحات الجدلية لمستشار بن زايد طالت حلفاء بلاده كذلك، أبرزها حين زعم في تغريدة له أن دول المنطقة تابعة للإمارات: “مجرد تذكير؛ أينما تذهب الإمارات تذهب بقية دول المنطقة”، وألحقها بتغريدة ثانية تؤكدها كان نصها “الإمارات والبحرين سباقون والبقية لاحقون”، وهو ما أثار ردود الأفعال بين الخليجيين بما فيهم إماراتيين.
كذلك ما قاله في 26 يناير 2020 حين ألمح إلى تدخل الجيش المصري عسكريًا في ليبيا لدعم ميليشيات اللواء متقاعد خليفة حفتر، حيث كتب يقول “إذا لم يتمكن الجيش الوطني الليبي من حسم معركة طرابلس قريبا فالجيش المصري وحده قادر خلال 24 ساعة من حسم معركة طرابلس وإنهاء معاناة سكانها وتحريرهم من سيطرة مليشيات مسلحة وأخرى إرهابية تسيطر على قرار حكومة الوفاق الفاقدة لأي شرعية”، وهي التصريحات التي أثارت غضب الشارع المصري الذي اعتبرها محاولة لتوريط الجيش المصري خارجيًا.
اذا لم يتمكن #الجيش_الوطني_الليبي من حسم معركة طرابلس قريبا فالجيش المصري وحده قادر خلال 24 ساعة من حسم معركة طرابلس وانهاء معاناة سكانها وتحريرهم من سيطرة مليشيات مسلحة واخرى ارهابية تسيطر على قرار حكومة الوفاق الفاقدة لاي شرعية.
— Abdulkhaleq Abdulla (@Abdulkhaleq_UAE) January 26, 2020
العقلية الجدلية لهذا الرجل بلغ مداها إلى توريط بلاده كذلك، وذلك حين أعلن في تغريدة له مسؤولية الإمارات عن القصف الذي استهدف قاعدة الوطية الجوية غربي طرابلس الليبية، مدعيًا أنها بذلك لقنت تركيا درسا قويًا، وهي التغريدة التي أثارت عاصفة من الجدل قبل أن يقوم بحذفها.
ورغم هرولة الرجل نحو إرضاء سيده بشتى السبل، متقلبًا على موجات مد أفكاره وجذرها، إلا أنه تعرض للاعتقال في يناير/ كانون الثاني 2017، بسبب تغريداته الجدلية التي أثرت في الوقت نفسه على علاقات بلاده بأشقائها، إذ مُنع من دخول عمان والبحرين قبل ذلك بدعوى أنه شخص “غير مرغوب فيه” تارة أو “غير مرحب به” تارة أخرى.