ترجمة وتحرير: نون بوست
مما لا شك أن هذا الأمر يعد مثيرا للقلق حتى وإن كان حقيقة: تصور ما إذا كان بإمكان قطاع الصناعة الغذائية التخلي عن اعتماد معايير الشفافية. وتصور لو أن إدارة الغذاء والدواء لم تكن موجودة لمراقبة وتسمية الأغذية. فضلا عن ذلك، تخيل لو لم تكن هناك لوائح أساسية على غرار القانون الاتحادي للأغذية والعقاقير ومستحضرات التجميل وقانون تحديث سلامة الأغذية، وأن الجهود التي بذلها أليس لاكي وأبتون سنكلير ذهبت أدراج الرياح.
دون معايير شفافة وبعض التدخلات، سيتحمل المستهلكون تكلفة ذلك حيث ستصبح المصانع قذرة، وستصبح حالات التسمم الغذائي بمثابة خبز يومي، ناهيك عن تواصل تفشي الليستيريا، وحدوث أشياء أسوأ من ذلك. في الحقيقة، يعدّ هذا الأمر سخيفا بقدر ما هو مخيف نظرا لأن تحلّي الصناعات الغذائية بالشفافية لا يُعتبر أمرا اختياريا، وإنما إجباريا من أجل المصلحة العامة. في المقابل، تعد هذه العملية مفيدة عند النظر في وجوبية الشفافية أو عدمها – في صناعات أخرى مثل الإكترونيات الاستهلاكية.
الشفافية في المنصات الافتراضية
يمكن أن يكون لفيسبوك ويوتيوب والمنصات الأخرى تأثير كبير علينا أشبه بتأثير الطعام الذي نأكله على صحتنا. نحن نستخدم هذه المنصات لساعات بشكل يومي، ناهيك عن المعلومات التي تقدمها تشكل طريقة عيشنا في العالم: سواء فيما يتعلق بارتداء الأقنعة وتوجهات الإدلاء بأصواتنا وثقتنا في سلامة اللقاحات الحالية أو المستقبلية.
في المقابل، لا توجد شفافية إلزامية فيما يتعلق بكيفية عمل هذه المنصات المؤثرة. من جهتهم، يملك المنظمون والمراقبون الأساسيون مثل باحثي المجتمع المدني والصحفيين نظرة ثاقبة حول أسباب اقتراح مشاهدة فيديو معين على موقع يوتيوب دون سواه، أو البيانات السكانية التي تستهدفها الحملة الإعلانية على فيسبوك.
في الواقع، تكون هذه الشفافية غائبة عندما نكون في أشد الحاجة إليها. في ظل تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، تتراكم المعلومات المضللة الصحية والإعلانات السياسية الكاذبة في تغذيتنا. حتى تتمكن الجهات التنظيمية وغيرهم من هيئات الرقابة من فهم أفضل الاقتراحات المنصات وأنظمة الإعلانات علينا فهم طبيعة الذكاء الاصطناعي والثغرات التي تشوبه، ناهيك عن أنه علينا البدء في إيجاد حلول. ولكن لسائل أن يسأل هل يمكن تحقيق هذا النوع من الشفافية؟
ما يظهر على الفيسبوك من شأنه أن يؤثر على مليارات المستخدمين
من المحتمل أن يكون فيسبوك المنصة التي كافحت أكثر مع المعلومات المضللة وغيرها من المحتويات الضارة. ليس من المستغرب أن تصنف من بين المنصات أكثر غموضا، حيث أن ما يظهر على الفيسبوك من شأنه أن يؤثر على مليارات المستخدمين.
مع ذلك، يعد الأشخاص الوحيدين الذين يفهمون حقا كيمياء ملف الأخبار هم أنفسهم الذين يعملون في فيسبوك، بالتالي، لا يعدون مخولين للكشف عن معلومات مفيدة قد تشكك في مميزات الشركة وسياساتها.
هيئات الرقابة الإلكترونية
ينبغي أن تعتمد هيئات المراقبة على بيانات غير مكتملة أو أدوات غير دقيقة. وقد تبلورت هذه المشكلة مؤخرا عندما نشر كيفن روز، مراسل صحيفة نيويورك تايمز، تغريدة على تويتر حلل فيها المحتوى المتداول على فيسبوك.
في السياق ذاته، أجابه رئيس أخبار الفيسبوك من خلال معاقبة روز لاستخدامه بيانات غير مكتملة. في وقت لاحق، شارك روز ملخصًا دقيقًا للنزاع على التويتر قائلا إن: “رد الفعل الذي تلقيته منك وساعدني على فهم موقفك كان بوسعه أن يكون أكثر دقة إذا ما كان يتضمن بيانات سرية لا أملكها ولا أستطيع الحصول عليها”.
من جانب آخر، يعد موقع يوتيوب من المنصات التي تتطلب الشفافية ولكنها تفتقر إليها. ويعد محرك اقتراحات يوتيوب من بين تقنيات الذكاء الاصطناعي تأثيرا على هذا الكوكب: فهو مسؤول عن 70 بالمائة من إجمالي وقت المشاهدة على الموقع.
قدّم هذا الذكاء الاصطناعي للمستخدمين اقتراحات تعنى بالمحتوى المتطرف والعنيف والمليء بالكراهية. وأبلغت العديد من مواقع التواصل عن تاريخ الاقتراحات التي يقّدمها محرك البحث والتي تدفع بالمستخدمين نحو اتخاذ مواقف خطيرة. كما كشفت شركة موزيلا، التي أعمل فيها، عن أمثلة شبيهة خلال البحث الذي أجريناه سنة 2019.
من جهة أخرى، يدّعي موقع يوتيوب أنه يعالج هذه المشكلة، ولكن نظرا لأن بيانات الاقتراح التي يقدّمها الموقع محميّة، لا تستطيع هيئات المراقبة تأكيد ما إذا كانت الأمور تتحسن بالفعل أم أنه ينبغي عليها تقديم اقتراحات لتسريع وتيرة التحسينات. وعموما، ينطبق الأمر ذاته ينطبق على فيسبوك، حيث يجب أن تعتمد الجهات الرقابية إما على البيانات المنقوصة أو تصمّم أدواتها الخاصة، وهو حلّ غير فعّال بتاتا لمثل هذه المشكلة الخطيرة.
كيف نستطيع تحقيق ذلك؟
في الحقيقة، لن تشارك منصات الإنترنت طواعيّة بياناتها بشكل منتظم وشامل. لذلك، تضلّ المنصات غامضة لسبب ما: ففي حين أن المزيد من الشفافية يخدم المصلحة العامة، إلا أنه قد يؤدي أيضا إلى تعطيل أرباح الشركة. كنتيجة لذلك، نحن بحاجة إلى تركيز مجهودات مساءلة الشركات فيما يتعلق بموضوع الشفافية مباشرة.
في الولايات المتحدة، ستفرض الأفكار الناشئة مثل “الصفقة الرقميّة الجديدة” التابع لصندوق مارشال الألماني مبدأ مشاركة البيانات على المنصات وقواعد السلوك التي يجب إتباعها. كما تفرض “الصفقة الرقميّة الجديدة” رقابة على انتشار المحتوى على المنصات من خلال آليات تُوقف انتشار أي محتوى حتى يتمّ فحصها بحثا عن الأكاذيب أو خطابات الكراهية.
يحتاج المستهلكون إلى التعبير بصخب عن توقّعاتهم بالنسبة للمنصات
أوضحت مديرة الصندوق والزميلة السابقة في موزيلا، كارين كورنبلوه، لموقع ماركتبلايس قائلة: “يمكن التعامل مع جزء كبير من المعلومات المضللة بشفافية، وهو أمر سهل للغاية ويندرج ضمن حرية التعبير”. وعلى نحو مماثل، سيوفر قانون الإعلانات الصادقة المقترح للمنصات التقنية بعض الشفافية التي نتوقعها لدى وسائل الإعلام التقليدية، مثل الإفصاح عن الإعلانات السياسية.
هناك نقاط إيجابيّة في أماكن أخرى من العالم. ففي أوروبا، على سبيل المثال، تحث مدونة قواعد الممارسات على المعلومات المضلّلة التي تم تطويرها مؤخرا في الاتحاد الأوروبي على مزيد من الشفافية، حيث تضمّ المدوّنة الكلمات التالية: “يتطلب الفحص الأكثر فعالية لمواضيع الإعلانات على الخدمات الأساسية للمنصات مزيد الأبحاث”.
وتطلب مدن مثل أمستردام وهلسنكي من المفوضية الأوروبية اعتماد سياسات شراء صارمة للذكاء الاصطناعي، وبعبارة أخرى، الحرص على العمل فقط مع الشركات والخدمات التي تتسم بالشفافية بشكل كبير. في هذا الإطار، يقول كبير المسؤولين الرقميين في هلسنكي، ميكو روساما: “عندما تغيب الشفافية تغيب الثقة، ودون الثقة لن يكون هناك حاجة للذكاء الاصطناعي”.
بالإضافة إلى التنظيم الهادف على مستوى الصناعة، يمكن للمستهلكين دعم التغيير من خلال الدعوة إلى إتباع هذه السياسات، كما يحتاج المستهلكون إلى التعبير بصخب عن توقّعاتهم بالنسبة للمنصات. وفي حال كانت خاصيّة “المواضيع الشائعة” على التويتر تنشر معلومات مضللة، فيجدر بالمستهلكين، الذين سبق وأن تفاعلو بهذا الخصوص، مطالبة الشركة بإيقاف هذه الخاصيّة في انتظار إخضاعها لفحص مستقل. وإذا ما بدا أن إحدى المنصات أكثر شفافية من منافسيها، كما هو الحال بالنسبة لتيك توك التي تثبت ذلك عبر مركز الشفافية الخاص بها، يمكن للمستهلكين الاشتراك في تلك المنصة عوضا عن غيرها.
على نطاق واسع، يحوّل هذا الوضع الشفافية إلى توجّه سائد، لتتحوّل لاحقا إلى ميزة تنافسية. وعلى الرغم من أن الشفافية لا تمثل حلا سحريا، إلا أنها تعد خطوة أولى متكاملة نحو فهم أخطاء المنصات التقنية، ومن ثم اقتراح حلول مناسبة لها. وما إن يتمكن كلّ من المنظمين والجهات الرقابية المستقلة والمستهلكين من التدقيق بشكل أفضل في كيفية عمل هذه المنصات، سيتحسن دور الذكاء الاصطناعي الخاص بالمنصات.
المصدر: فاست كومباني