تركت الحضارة الإسلامية في الأندلس تراثًا عظيمًا ومكتبةً ثريّة بالعلوم والمعارف، فقد نشط العلماء الأندلسيون في دراسة العلوم الدينية تفقهًا وبحثًا وتحديثًا وتفسيرًا وتدبرًا، كما اعتنوا بالنواحي الشكلية والجمالية للمصحف من حيث الخط والتجليد والتذهيب، والمثير للاهتمام أن النساء لعبن دورًا فارقًا في هذا الحقل.
الخط في الأندلس
إضافةً إلى ما حمله الفاتحون المسلمون إلى الأندلس من تعاليم الدين الإسلامي، جلبوا معهم نوعين من أنواع الخط التي كانوا يستخدمونها في كتابتهم، وهما الخط الحجازي والخط الكوفي، كما أخذوا معهم المصاحف المخطوطة بالشكل الحجازي.
وقبل فتح الأندلس كان المسلمون قد استقروا في القيروان بتونس التي غدت أحد العواصم المسلمة الشهيرة وحاضرةً من حواضر الإسلام. ونظرًا لذلك انتقل الخط العربي وفنّه من مدينة القيروان إلى بلاد الأندلس بعد فتحها، وفي هذا الوقت بدأ الخط المغربي بالظهور ليصبح هويةً خاصة بالمسلمين المغاربة، وقد كوّن المغاربة خطًا بعيدًا عن النمط الشرقي الذي كان معتمدًا في الحجاز والشام.
ومع تطور هذا النوع من الخطوط فقد نُسب إلى نشأته في القيروان ليغدو باسم “الخط القيرواني”، وعلى الرغم من أن القيروان كانت بوابة الأندلس إلى الشرق وهي موئل طلاب العلم من شتّى البلدان في أفريقيا والأندلس إلا أن تطور الخط والكتابة المغاربية بعد دخولها الأندلس أصبحت تنسب إلى الأندلسيين بسبب المكوث الطويل للمسلمين في تلك المناطق.
مع مرور الوقت ظهر في الأندلس خط مطور عن الخط القيرواني سُمي بالأندلسي يتسم بالليونة في رسم الحروف، ويمتاز عن سابقه بالاستدارات وتداخل الكلمات وإطالة أواخر الحروف، كما عُني بتنسيق الكتابة، وبهذا الصدد كتب عالم الاجتماع ابن خلدون “وتميز مُلك الأندلس بالأمويين، فتميزوا بـأحوالهم مـن الحضارة والصنائع والخطوط، فتميز صنف خطهم الأندلسي كما هو معروف الرسم لهذا العهد”.
أصبح للخط الأندلسي هوية مستقلة تميزه عما سواه بجماليته، كما أصبح خطًا معتمدًا في بلاد المغرب، وأصبح يوجد نوعين من الخطوط وهما الخط الكوفي الأندلسي وتغلب عليه الزوايا والتأثر بالخط الكوفي، بالإضافة إلى الخط القرطبي ويعتبر رشيقًا متقاربًا من الخطوط المشابهة له، فيه استطالات وانحناءات، وبالخط القرطبي نُسخت المصاحف والكتب وهو الخط الذي ساد في المغرب العربي حتى نهاية حكم الموحدين.
مع موجات المهاجرين الأندلسيين إلى إفريقيا، أخذوا معهم الخط الأندلسي ونشروه بين مختلف البلدان حتى انقرض الخط القيرواني، وهو ما ذكره ابن خلدون: “وأما أهل الأندلس فانتشروا في الأقطار فغلب خطهم على الخط الإفريقي وعفا عليه ونُسي خط القيروان والمهدية، وصارت خطوط أهل إفريقيا كلها على الرسم الأندلسي وما إليها”.
الزخرفة والتذهيب والتجليد
يذكر أن الخليفة المستنصر بالله كان يجمع في بلاطه في قرطبة خيرة النساخين والعمال المهرة في التجليد، وكانت الكتب لها قيمتها في قصره، واشتهر عن الوراقين في الأندلس أنهم من المهرة أصحاب السبق في هذه المهنة، وخاصةً في موضع الاهتمام بالقرآن الكريم، وبالإضافة للمجلدين والنساخين والوراقين كانت مهنة التذهيب أيضًا ذات شأن عال، وهذه المهنة قائمة على تذهيب الرسوم التي تكون في الحواشي والفراغات من الكتب.
كان المصحف هو أول المخطوطات التي عُمل بها خطًا وتجليدًا وتوريقًا وتذهيبًا، مع العناية الفائقة التي لاقتها تلك النسخ منه، ويروي المؤرخون أن المصحف الأندلسي، “له حسن فائق ورونق وبهاء يأسر الألباب وترتيب يشهد لمن كتبها بقوة الصبر والجلد والإتقان”.
كانت المهن المتعلقة في الكتب تتعاون جميعها لإخراج الكتاب بأبهى حلة وأحسن وصف، حيث ازدهرت مهنة التجليد، وكان المجلد يعمل على زخرفة غلاف الكتاب وتزيينه إضافة إلى إظهار فنونه في الغلاف الداخلي فلم يقتصر عمله على الخارج بل على باطن الغلاف أيضًا.
وكان للأندلسيين باعًا بتجليد المصاحف والاهتمام بها وصيانتها وترميمها وحفظها في المحافظ الجلدية، وتكريمًا للمصحف كانت تصنع له صناديق خشبية جميلة، وفي بعض الأحيان كان يُكسى بالحرير. وعُرف من المجلدين الأندلسيين بعصر الموحدين عمر بن مرجي الأشبيلي الذي كان يعمل على ترصيع جلود المصاحف بالجواهر
اعتنى الخطاطون الأندلسيون بالخط عنايةً فائقة لم يسبق لها مثيل، ومن الذين اشتهروا بخطهم للمصحف الشريف سليمان بن محمد وكان يلقب “ابن الشيخ القرطبي”، فقد كان بديع الخط وعمل على رسم القرآن مرات متعددة وكثيرة. وإضافةً له اُشتهر الخطاط أحمد بن عمر الشعري الذي كان يتنافس الناس على النسخ التي يكتبها من القرآن الكريم لضبطها المتقن وخطها الجميل.
محمد بن اسماعيل أو حبيش القرطبي هو خطاط ماهرٌ سريع الكتابة فقد كان في أسبوعين يُنهي نسخة من المصحف، وإضافةً له أبو عبد الله بن غطوس، وهو أشهر خطاطي الأندلس، وكان فريد عصره بكتابة القرآن وخطه، ويُذكر أنه “خطّ بيده أكثر من ألف مصحف، تنافس عليها الملوك وكبار الناس”، ولم يعمل أبو عبد الله بمهنته هذه إلا من أجل القرآن فقط، ولم يشتغل بغيره.
امتاز محمد بن محمد بن يحيى بكتابة المصاحف التي لم يدانيه أحد فيها بجود الخط وإتقان الرسم، كما عُرف ابن مفصل الذي خط 70 مصحفًا في حياته ولم يكن يرض أن يخط غير القرآن.
الخطاطات
تفوقت النساء الأندلسيات في ميدان الخط والنسخ، كما أنهن ساهمن بنسخ المصاحف بخط بديع جميل ويذكر المؤرخون أنه في منطقة من مناطق قرطبة كان يوجد أكثر من 170 إمرأة تجيد الخط وتعمل به، فكيف كان حال الأندلس كلها!، حتى أن بعض النساء أصبحن كاتبات لدى الخلفاء والملوك، كالكاتبة “مزنة” التي وصفت بحسن الخط واتخذها الخليفة عبد الرحمن الناصر في قصره، وكذا كان الخليفة المستنصر له كاتبة تدعى “لبنى” التي قبل فيها “لم يكن في قصرهم أنبل منها وكانت عروضية خطاطةً جدًا”.
برعت عائشة بنت أحمد القرطبي بالشعر إلى جانب الخط وهي من قال فيها ابن حيان في المقتبس “لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعدلها علمًا وفقهًا وأدبًا وشعرًا وفصاحة، تمدح الملوك وتخاطبهم بما يعرض لها من حاجة، وكانت حسنة الخط”، كما اشتهرت فاطمة بنت زكريا بن عبد الله الشبلاري بحسن الخط والضبط فيما تنسخ، وكذا كانت الأديبة صفية بنت عبد الله الريي.
كان التطور الذي شهدته الأندلس بشتى مناحي الحياة ملفتًا للنظر، ولم يكن التطور بالخط والنسخ والتجليد والتذهيب هو آخر ما وصلوا إليه، إلا أنهم ضربوا بهذا الأمر مثالًا رائعًا بخدمة القرآن الكريم والعناية به كتابةً وضبطًا ورسمًا على يد الرجال والنساء وحتى الملوك الذين كان منهم من يقتطع من وقت عمله ويشتغل نساخًا أو خطاطًا كالذي خطّه وزيّنه محمد المهدي بن تومرت رئيس دولة الموحدين وغيره من الأمراء.