يبدو أن الصراع بين قطبي السلطة في القصبة وقرطاج بتونس سيتحول إلى مسلسل مكسيكي لا نهاية له، فالأزمة بين الطرفين ما زالت متواصلة وتنبئ بتطورات كثيرة في القريب العاجل خاصة في ظل إصرار الرئيس قيس سعيد على تجاوز صلاحياته والمسك بكل السلطات حتى التي لا يخولها له الدستور. صراع ستكون له تداعيات سلبية كثيرة على الوضع العام في تونس.
سعيد “يهين” المشيشي
آخر حلقات الصراع بين الطرفين، اعتراض قيس سعيد على توجه رئيس الحكومة هشام المشيشي نحو تعيين مستشارين اقتصاديين، ونشر القسم الإعلامي التابع للرئاسة التونسية جزء من لقاء جرى منتصف هذا الأسبوع بين الطرفين، يظهر فيه سعيد كأنه يوبخ المشيشي ويلقي عليه الأوامر.
هذا الاعتراض فُهم منه تدخل رئاسة الجمهورية في اختيارات رئاسة الحكومة وتجاوز صلاحياته، فالدستور لا يخول له ذلك، ليس هذا فحسب بل أرادت الرئاسة بنشر ذلك الفيديو والبلاغ الذي تلاه حشر المشيشي في الزاوية واللعب على مشاعر الناس.
برر الرئيس قيس سعيد رفضه لهذه التعيينات المنتظرة بارتباط المعنيين بالأمر بالنظام السابق، ونسى أنه سبق له أن اقترح شخصيات لتقلد مناصب عليا في البلاد، ثبت فسادها قبل الثورة وبعدها وهي محل متابعة قضائية.
تجاوز رئيس الجمهورية صلاحياته الدستورية وفرض مجموعة من الوزراء المحسوبين عليه في حكومة المشيشي رغم تحفظ الأخير
لم تمر ساعات، حتى جاء الرد من رئاسة الحكومة، حيث كشفت تقارير إعلامية أن مصالحها أبلغت مصالح الإعلام والاتصال برئاسة الجمهورية استنكارها لطريقة إخراج لقاء رئيس الجمهورية قيس سعيد برئيس الحكومة هشام المشيشي الأخير.
نقلت إذاعة “موزاييك” المحلية في تونس عن مصادر في رئاسة الحكومة التونسية، قولها إن طريقة الإخراج التي تمت للقاء الرئيس قيس سعيد برئيس الحكومة المشيشة تضمنت إساءة لصورة الدولة وتتنافى مع نواميس التعامل بين مؤسسات الحكم، وأضاف ذات المصدر “حرصًا من رئيس الحكومة هشام المشيشي على علاقات وضوابط عمل طيبة بين مؤسستي الدولة، وعلى الاستجابة لكل دعوات رئيس الجمهورية للخوض في الوضع العام، ومعالجة المشاكل المتعلقة بالشعب التونسي، فإنه سيرفض مستقبلًا تصوير أي مقابلة سيتم توضيبها بطريقة مسيئة للدولة ولمؤسسات الحكم”.
صراع متواصل بعد “تمرد” المشيشي
لا تخلو أروقة الرئاسات الثلاثة في تونس، وفق الباحثة في علوم الإعلام عائشة الغربي، من صراعات داخلية لاحت للأفق، وبدأت نقاط التماس تظهر مجددًا لكن الآن بين قيس سعيد والوزير الذي كلفه بتشكيل الحكومة هشام المشيشي، الذي بدا في آخر ظهور له مع الرئيس صاغرًا.
هذه الحادثة لا تعتبر الأولى، فمنذ بداية شهر سبتمبر/أيلول الحاليّ تعرف العلاقة بين الطرفين توترًا كبيرًا رغم أن الرئيس قيس سعيد هو من اقترح هشام المشيشي لتولي رئاسة الحكومة خلفًا لإلياس فخفاخ الذي استقال نتيجة اتهامه بقضايا فساد.
وسبق أن حاول قيس سعيد الإطاحة بهشام المشيشي قبل نيل حكومته الثقة في البرلمان، فقد اجتمع سعيد على غير العادة، بممثلين عن الأحزاب الأربع التي كانت تدعم حكومة إلياس الفخفاخ المستقيلة، لحثهم على عدم منح الثقة لحكومة المشيشي مقابل التعهد لهم بعدم حل مجلس نواب الشعب.
ويرى المحلل السياسي التونسي سعيد عطية أن “قيس سعيد اختار هشام المشيشي رئيسًا للحكومة بعد عملية “كاستينغ” شملت شخصيات عديدة واختاره ليكون وزيرًا أولًا بالنظر لضعف تاريخه السياسي وفقدانه للحزام السياسي الداعم له”.
“لكن لم يكن المشيشي مثلما توقعه رئيس الجمهورية”، وفق قول عطية، حيث بادر منذ البداية بربط الصلة مع الأحزاب علنًا وسرًا، علمًا بأن العروض الحقيقية للأحزاب قدمت من طرف شخصيات مقربة منه وليس من طرف المشيشي نفسه”.
يقول عطية في حديثه لنون بوست: “لم يكن الأمر خافيًا على أحد أن المشيشي تمرد أو لنقل شرع في التمرد على ولي نعمته، لذلك بادر الرئيس بإهانته أيام قبل نيل الثقة في علاقة بموضوع وزير الثقافة وليدي الزيدي”.
وكان قيس سعيد قد استقبل وزير الشؤون الثقافية في قصر الرئاسة، مشددًا على ضرورة تمكينه من حقيبة وزارة الثقافة، سويعات قليلة بعد أن قرر المشيشي سحب اسمه من التشكيلة الحكومية، وأيضًا إرسال الرئاسة قائمة بالوزراء المقترحين إلى مكتب البرلمان تضم اسم وزير لم يقترحه المشيشي.
ليس هذا فقط، فقد تجاوز رئيس الجمهورية صلاحياته الدستورية، وفرض مجموعة من الوزراء المحسوبين عليه في حكومة المشيشي رغم تحفظ الأخير ورفضه بعضًا منهم، كما “واصل قيس سعيد استقبال الوزراء المحسوبين عليه مثل وزراء أملاك الدولة والعدل والداخلية دون تنسيق مع رئيس الحكومة ثم جاء الهجوم العلني الذي شنه الرئيس على من يتخيله وزيره الأول في علاقة بتعيينات المستشارين صفرة والنابلي”، يقول سعيد عطية.
إعادة لصراع الباجي – الشاهد
الواضح الآن، وفق سعيد عطية “أننا إزاء إعادة لصراع الشاهد/الباجي بطريقة مختلفة وكلنا يعلم ماذا كلف ذلك الصراع البلد والمواطنين”، وعرفت تونس مطلع السنة الماضية صراعًا بين الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة حينها يوسف الشاهد بعد أن تمرد الشاهد على الباجي وقرر الاضطلاع بمهامه الدستورية والقانونية كاملة دون تدخل من الرئيس أو حاشيته.
ويسعى قيس سعيد من خلال إهانته المستمرة لهشام المشيشي إلى إضعاف رئيس الحكومة وإظهاره في ثوب الضعيف غير القادر على القيام بأي شيء إلا الإنصات للتوبيخات المتكررة وتنفيذ أوامر رئاسة الجمهورية.
من شأن ما تشهده تونس اليوم من أزمة على مستوى أعلى هرم السلطة، أن يرجع البلاد إلى نقطة الصفر في حال أصر طرفا الأزمة على المكابرة
يسعى سعيد أيضًا، للإمساك بزمام السلطة التنفيذية، حتى يحدد توجهاتها ويرسم أولوياتها في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد، ويظهر أنه الفاعل الأصلي، رغم أن الدستور لا يمنحه الحق في ذلك، فأغلب الصلاحيات تسند لرئيس الحكومة، فيما منصب رئيس الجمهورية يبقى رمزيًا.
ويشعر سعيد بنوع من الخذلان من رئيس الحكومة هشام المشيشي الذي اختاره بنفسه لهذا المنصب، فقد كان يريد منه أن يكون تابعًا له وأن يكون بمثابة وزير أول وليس رئيس حكومة كما ينص عليه النظام السياسي للبلاد.
تفاقم أزمة البلاد
الصراع بين جناحي السلطة التنفيذية، وفق عائشة الغربي، بدا جليًا منذ مشاورات تشكيل الحكومة ولا يزال متواصلًا ولن ينتهي بسهولة أمام رغبة رئاسية بالتحكم في القصبة عبر تعيينات فرضت ضمن الخيارات الوزارية وأخرى مرفوضة وغير مسموح بها.
تكريس الرئيس قيس سعيد من خلال خطاباته ولقاءاته، منطق الهيمنة وتقزيم باقي مؤسسات الدولة السيادية، من شأنه أن يؤثر سلبًا على الوضع العام للبلاد، خاصة في هذه الظرفية الحرجة التي تمر بها تونس في الفترة الأخيرة.
وتعيش تونس أزمة سياسية حادة بين الرئاسات الثلاثة (الرئاسة والحكومة والبرلمان)، ساهمت في تدهور الاقتصاد التونسي الذي يعيش على وقع أزمة حادة متواصلة منذ سنوات عدة، زادت حدتها بعد تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد الذي فرض الإغلاق التام في البلاد.
إلى جانب ذلك، تعيش البلاد، أزمة اجتماعية، حيث ارتفعت نسبة الفقر وانخفضت القدرة الشرائية للتونسيين إلى 7%، كما تنامت الاحتجاجات الاجتماعية في العديد من المناطق في البلاد، للمطالبة بالعمل، وأيضًا للمطالبة بالماء الصالح للشراب وكذلك فتح التيار الكهربائي بعد أن سجلت قراهم ومدنهم اضطرابًا في مسألة توزيع المياه والكهرباء.
وترى الغربي في حديثها لنون بوست، أن اختيار قيس سعيد لهشام المشيشي كان من البداية على أساس الولاء له، لكن “تمرد” المشيشي على خيارات الرئيس، صدع العلاقة التي من شأنها إرباك المشهد السياسي في البلاد، الهش بطبعه، خاصة أن الأحزاب السياسية النافذة في البرلمان، ستستغل هذا الشرخ لصالحها وتحاول استمالة رئيس الحكومة الذي سيخضع لضغوط من الجانبين وسيعود المشهد إلى ما قبل عهدته.
تضيف محدثتنا “قطبية ثنائية ستؤدي حتمًا إلى أزمة سياسية عميقة وانسداد للأفق، قد يدفع إلى خيارات قاسية على الشعب التونسي في ظل عدم الاستقرار الحكومي والظرف الاقتصادي والاجتماعي الصعب”.
من شأن ما تشهده تونس اليوم من أزمة على مستوى أعلى هرم السلطة، أن يرجع البلاد إلى نقطة الصفر في حال أصر طرفا الأزمة على المكابرة وتغليب مصالحهما الشخصية على مصلحة البلاد العليا.