بعد عامين تقريبًا من توقيع اتفاقية كامب ديفيد وخلال رحلته الأخيرة إلى واشنطن جمع الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات جموع الصحفيين المرافقين له على الطائرة وأخبرهم بأنه يريد القيام بحملة “تطهير” يتخلص فيها ممن أسماهم “مثيري الشغب” وذلك عقب عودته من أمريكا.
السادات لم يكتف بتسريب نيته في التخلص من المشاغبين له فقط، بل طالب الصحفيين بإعداد قائمة بكل من يرونه مثيرًا للشغب من الكتاب والمفكرين وقادة الرأي وتقديمها لوزير الداخلية لاتخاذ اللازم ضدهم، حسبما ذكر الصحفي المصري الراحل حسنين هيكل في كتابه “خريف الغضب“.
كان الرئيس المصري في هذا الوقت يعاني من مزاج متعكر معظم الوقت، فالشارع لم يعد معه كما كان في حرب العاشر من رمضان، حتى الإعلام ما عاد يدق له الطبول كالسابق، فالتغطية الفاترة التي شهدتها زيارته لأمريكا نغصت عليه حياته وأصابته بحالة ضيق كبيرة، فضلًا عن عدم الاحتفاء به أمريكيًا كما كان في أثناء توقيع معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني.
وخلال مؤتمر صحفي له في أمريكا سأله أحد الصحفيين عن المصاعب التي تواجه مصر لا سيما الفتنة الطائفية وقد شهد الشارع المصري وقتها بعض الأحداث من هذا القبيل، غير أن السادات الذي كان وقتها نجم الإعلام العربي الأول، لم يشأ أن تُصدر تلك الصورة عن بلاده، وأن يجد نفسه محل انتقاد من هنا أو هناك، فاستفزه السؤال جدًا، لكن سرعان ما تكشف الرجل الانهيار الكبير في صورته عقب خروج تظاهرتين للأقباط في أمريكا تنددان به، إحداهما أمام البيت الأبيض في أثناء اجتماعه مع ريجان، والثانية أمام متحف “المتروبوليان” الذي كان سيحضر فيه احتفالًا بإقامة قسم جديد للآثار المصرية.
عاد الرجل من واشنطن أواخر أغسطس 1981، والقلق يسيطر عليه، غاضبًا مما يتعرض له، في الداخل كان أو الخارج، ورغم ما يقدمه الرجل من مغازلة للغرب عبر الهجوم على الشيوعية، فإن ذلك لم يشفع له عند الأمريكان، فقرر أن ينتقم من كل الأصوات التي تعرضت له بالسوء، ومن هنا جاءت حملة التطهير المعروفة باسم “اعتقالات سبتمبر”.
3000 معتقل
عقد السادات لقاءات موسعة بداية سبتمبر/أيلول مع وزير الداخلية ورئيس المخابرات العامة، وهو ما أثار فضول وزير شؤون الجمهورية ووزير الإعلام آنذاك، منصور حسن، الذي أحس أن الرئيس يدبر لأمر ما، فحاول الرجل مقابلة الرئيس للاستفسار عما يدور بخياله وما يخطط له.
باءت محاولات الوزير بالفشل، فحين كان يطلب مقابلة السادات كانت مبررات الرفض جاهزة، وشيئًا فشيئًا بدأت الأمور تتضح، والخطة تم كشفها لجميع أعضاء الحكومة وقتها، وحين اعترض منصور على هذا الإجراء وتلك الحملة، غضب منه الرئيس وأخرجه من الوزارة ليعينه وكيلًا لمجلس الشعب.
وفي الساعات الأولى من فجر 3 من سبتمبر/أيلول، أي بعد أسبوع واحد فقط من عودة السادات من واشنطن، شنت قوات الأمن حملة اعتقالات واسعة، شملت 3000 شخصية (1536 منهم اعتقلوا في الأيام الثلاث الأولى) من مختلف التيارات السياسية والفكرية والدينية، حتى إنها طالت شباب الجامعات والنساء والمسيحين.
العديد من الإجراءات التي قام بها السادات أججت مشاعر الغضب، على رأسها اتفاقية السلام مع “إسرائيل”، تلك الخطوة التي زادت من الاحتقان الشعبي والعربي ضده وساهمت في عزل البلاد عن محطيها الإقليمي
وفي وصف تلك الحملة يقول هيكل في كتابه : “لم أستطع أن أتبين حجم عملية الاعتقالات ومداها الحقيقي، إلا عندما وصلت إلى السجن ضمن المعتقلين، فانا أواجه في ساحة الاستقبال الخارجية أكبر تجمع سياسي كان يخطر على البال.. وجدت أمامي مجموعة من مشاهير السياسيين أمثال فؤاد سراج الدين وعبد الفتاح حسن وفتحي رضوان وعبد العظيم أبو العطا وطلعت إبراهيم ومحمد عبد السلام الزيات ومحمد فائق وحلمي مراد وحامد زيدان ومحمد أبو الفضل الجيزاوي وإسماعيل صبري عبد الله وفؤاد مرسي وفريد عبد الكريم وعبد العظيم المغربي وعادل عيد وكمال أحمد ومحمد فهيم ومحمد عيد وعبد العزيز الشوربجي وميلاد حنا وعبد المحسن حمودة وعصمت سيف الدولة وصلاح عيسى وحسين عبد الرازق وحمدين صباحي وكمال أبو عيطة والشيخ المحلاوي وعمر التلمساني والشيخ كشك.. “.
لم تكن النساء بمعزل عن حملة التطهير تلك، حيث طالت يد الأمن بعض القيادات النسائية الرائدة في ذلك الوقت وعلى رأسها الدكتورة نوال السعداوي والدكتورة لطيفة الزيات والصحفية صافيناز كاظم، وغيرهن، حيث تم الزج بهن في سجن طرة للنساء.
تأييد إعلامي
فتحت سجون مصر بلا استثناء أبوابها أمام مختلف تيارات الطيف السياسي، فكانت الرموز والقيادات السياسية والدينية والفكرية جنبًا إلى جنب إلى جوار الطلاب والعمال وغيرهم، الكل على قدر المساواة لا يفصل بينهم إلا سنتميترات بسيطة بين الفرد والآخر.
المشاهد التي تم تصويرها لعمليات اعتقال القيادات من منازلهم كانت أشبه بالعمليات العسكرية الكبرى، حيث جيوش السيارات والمدرعات المدججة بالسلاح من أجل القبض على شخصية هنا أو هناك، فيما أطلق عليهم “زوار الفجر” وهو المسمى الذي ظل باقيًا حتى اليوم.
ورغم حالة الغليان التي كان عليها الشارع المصري بسبب تلك الإجراءات، فإن الصحف القومية بلا استثناء خرجت صبيحة 6 من سبتمبر/أيلول بمانشيتات مستفزة على شاكلة “ثورة العمل الداخلي” كما أطلقت عليها “الأهرام” أو “قرارات ضرب الفتنة” وفق صياغة “الأخبار” فيما اتفقت كل الصحف الحكومية الأخرى على أن تلك الحملة حدث تاريخي أشبه بثورة التصحيح التي قادها السادات عام 1971.
وفيما كان ينتظر البعض الرأي الآخر الخاص بالصحف الحزبية أو المعارضة، فإن الانتظار لم يؤت ثماره، حيث وقعت تلك الصحف أسيرة الغلق أو التعطيل بأوامر من السلطات الحاكمة في هذا الوقت، ليقاد المشهد بصوت واحد فقط، صوت الحاكم والحكومة، حيث الدعم المطلق والتأييد الأعمى.
السادات يفقد توازنه
العديد من الإجراءات التي قام بها السادات أججت مشاعر الغضب ضده، على رأسها اتفاقية السلام مع “إسرائيل”، تلك الخطوة التي زادت من الاحتقان الشعبي والعربي ضده، وساهمت في عزل البلاد عن محطيها الإقليمي، هذا بخلاف الارتماء في أحضان الأمريكان رغم صورتهم المشوهة لدى المصريين كونهم الراعي الرسمي والأب الشرعي لدولة الاحتلال.
ساعد على ذلك المستوى المعيشي المتدني، الذي ألقى بالكثير من المصريين في آتون الفقر والعوز، في مقابل تفشي الفساد وتضخم أمعاء الفاسدين بأموال الفقراء ومحدودي الدخل من عامة الشعب، ما تسبب في إحداث شروخات عميقة في جسد المجتمع المهلهل.
وأمام تلك الوضعية المشتعلة كان السادات يحيا عصر الانتشاء والتطاوس، متوهمًا أن الغرب الراضي عنه إبان توقيع الاتفاقية سيظل داعمًا له، وأنه البديل الآمن والأقوى عن الشرق والعمق العربي، وهو الوهم الذي بدأ يتلاشى عامًا تلو الآخر حتى رحلته الأخيرة سالفة الذكر التي اكتشف فيها أنه يأتي في مرتبة متراجعة بعد “إسرائيل” والسعودية.
وفي خطابه أمام مجلس الشعب في 5 من سبتمبر/أيلول بعد حملة الاعتقالات التي قادها، بدا الرئيس فاقدًا للتوازن، عصبيًا إلى درجة لم يعهدها المقربون منه، لغة الخطاب كانت حادة إلى درجة أثارت حفيظة الداعمين له قبل المعارضين، مبررًا حملة التطهير بالاستناد إلى المادة (74) من الدستور التي تمنح الرئيس عند قيام طوارئ مفاجئة أو خطر يهدد أمن البلاد أن يعطل كل الضمانات الدستورية، واتخاذ أي إجراءات يراها مناسبة لمواجهة تلك الأخطار.
ويعد هذا الخطاب أحد أبرز الخطابات المثيرة للجدل بعد خطاب الذهاب إلى الكنيست، حيث تطرق فيه إلى الحديث عن الفتنة الطائفية في البلاد، تحديدًا أحداث الزاوية الحمراء التي حدثت في يونيو/حزيران 1981، التي أدت إلى مقتل 17 و112 مصابًا بينهم ضابطان وثلاثة جنود بسبب شجار بين أسرة مسلمة وأخرى مسيحية بسبب سقوط مياه غسيل قذرة من شرفة إحداهما على الأخرى، وهي الجملة الشهيرة التي تتناقلها وسائل الإعلام حتى اليوم.
وبعد الانتهاء من إلقاء الخطاب عقد السادات مؤتمرًا صحفيًا في منزله، حضره عدد من الصحفيين الأجانب، وجاءت الأسئلة على عكس هوى الرئيس فأثارت استفزازه وغضبه مرة أخرى، فالسؤال الأول تطرق إلى حبس هيكل، أما السؤال الثاني فكان لمندوب محطة “أي. بي. سي” الأمريكية، وجاء فيه: “سيادة الرئيس كنت في الولايات المتحدة قبل أقل من أسبوع، فهل أخطرت الرئيس ريجان بما تنوي عمله؟”، ففقد السادات أعصابه ورد على الصحفي قائلًا: “لو لم تكن في بلد حر لكنت أخرجت مسدسي وضربتك بالنار”.
لم يكمل السادات بعد لقائه التليفزيوني المثير أكثر من 21 يومًا حتى أغتيل على أيدي مجموعة من ضباط الجيش المصري، في واقعة المنصة الشهيرة، وهي الحادثة التي تفرق دمها بين قبائل الأسباب والدوافع
المشهد كان غريبًا، حتى على المقربين من الرئيس، فخرجت ابنته الصغرى من المؤتمر وهي تبكي، فيما تبادل المقربون منه النظرات التعجبية لما يقوله السادات، فكيف بالرجل المعروف عنه توازنه أن يفقد أعصابه بهذه السرعة أمام تساؤلات صحفيين، الأمر الذي دفع بعض الكتاب وقتها إلى الاستشعار بأن خريف الرئيس قد بدأ.
وبعد أقل من أسبوعين على هذا المؤتمر شن السادات هجومًا حادًا على بعض الشخصيات والقيادات الدينية، ففي حديث متلفز له في 15 من سبتمبر/أيلول تحدث عن السياسي المخضرم فؤاد سراج الدين، مؤسس حزب الوفد الجديد، قائلًا “هذا الباشا الإقطاعي الذي ولد وفي فمه ملعقة من ذهب، وعاش حياته كلها غارقًا في الترف”، ثم انتقل منه إلى هيكل وبعده اتجه إلى الجامعات الدينية، مركزًا هجومه على الشيخ المحلاوي، ثم وصل إلى قمة العصبية حين قال: “والآن هذا الرجل – يقصد المحلاوي – ملقى في السجن كالكلب”.
لم يكمل السادات بعد لقائه التليفزيوني المثير أكثر من 21 يومًا حتى أغتيل على أيدي مجموعة من ضباط الجيش المصري، في واقعة المنصة الشهيرة، وهي الحادثة التي تفرق دمها بين قبائل الأسباب والدوافع، فمنافذ الاستعداء التي فتحها الرجل حيال كل التيارات السياسية والدينية والفكرية كانت كفيلة أن تقود إلى هذه النهاية التي لم تكن مفاجئة بالنسبة لكثير من المتابعين.