ترجمة وتحرير: نون بوست
بالنسبة للطبيبة النفسية ومدربة الحياة كارلا مطر فإن انفجار ميناء بيروت الذي ضرب العاصمة الشهر الماضي كان مختلفًا عن أي شيء شهدته من قبل. أخبرت مطر موقع “ميدل إيست آي” من الاستوديو الخاص بها في حي الأشرفية بالعاصمة: “في لبنان، بإمكاننا التعرف على أصوات الحرب. نحن قادرون على التعرف على صوت طائرة أو صاروخ لأننا اعتدنا عليها أثناء الحروب كما نعرف كيف نتكيف مع الوضع. لكن هذا الانفجار يختلف تماما عن أي شيء آخر”.
كانت مطر تشير إلى تفجير الـ 2750 طنًا من نترات الأمونيوم الذي نتج عنه انفجار هائل دمر ميناء بيروت وجميع المناطق المحيطة به في الرابع ما آب/ أغسطس. مات ما يقارب 200 شخص، وأصيب 6500 آخرون، وتشرد حوالي 300 ألف شخص.
قالت مطر: “كنت في المنزل عندما سمعت الانفجار الأول. ركضت إلى الحمام دون أن أفكر في ما إذا كان مكانًا آمنًا لي. بعد حوالي دقيقة واحدة، سمعت الانفجار الثاني، وأتمنى ألا يسمع أحد أبدا مثل هذا الصوت. كان الأمر أشبه بالزلزال، وسمعت صوت سقوط الزجاج من المباني. كانت تلك التجربة مفزعة”.
الصدمة الجماعية
في مدينة كان الناس فيها يعانون بالفعل من أزمة اقتصادية لم يسبق لها مثيل واضطراب سياسي، ترك الانفجار في ميناء بيروت العديد من الأشخاص في حالة من اليأس. لقد خلف الانفجار جروحًا نفسية غير مرئية لدى العديد من الأشخاص، مما دفع منظمات الصحة العقلية إلى اتخاذ إجراءات لدعم المتضررين.
في الأيام التي أعقبت الانفجار، فتحت المنظمات غير الحكومية خطوطًا ساخنة وعيادات خارجية لدعم الأشخاص الذين يعانون من الضيق النفسي والصدمات النفسية والقلق بسبب الانفجار. وحسب المعالجة النفسية ومخرجة الأفلام، زينة دكاش: “خلق الوضع الحالي في لبنان صدمة جماعية معقدة”.
تمثل دكاش مؤسسة “كاثارسيس” – وهو مركز لبناني للعلاج بالدراما – كما دخلت في شراكة مع منظمات تقدم جلسات مجانية عبر الإنترنت حول كيفية التعامل مع الانفجار. صرحت دكاش لموقع “ميدل إيست آي”: “تلقينا العديد من المكالمات الهاتفية من أشخاص كانوا في حالة صدمة. أراد الناس التحدث على الهاتف فقط لأنهم لا يملكون الطاقة لحضور الجلسات، ونصحناهم بقضاء بعض الوقت خارج بيروت أو الذهاب إلى الشاطئ وحضور بعض الدورات مع أشخاص آخرين. كما نصحناهم بعدم قراءة أو مشاهدة الكثير من الأخبار”.
عندما يمر الناس بمثل هذه الأحداث، فإنهم لا يستجيبون لهذه الصدمة الحالية فقط، بل يتذكرون جميع صدماتهم السابقة
أخبر الدكتور حسين نجم، الذي يعمل طبيبا نفسيا مع منظمة أطباء بلا حدود الدولية غير الحكومية، موقع “ميدل إيست آي” بأن الصدمة الجماعية لم تقتصر على أولئك الذين يعيشون في بيروت فقط، “نحن نمر بصدمة جماعية لا تقتصر فقط على سكان بيروت. فهناك الكثير من الأشخاص يأتون من مدن لبنانية أخرى لطلب الدعم. وأصبحنا جميعنا نعيش في حالة صدمة. وهناك من يعتقد أن ما لم يحدث خلال 15 سنة من الحرب الأهلية حدث في ثلاث ثوان”.
يقول أخصائيو الصحة العقلية إن اضطراب ما بعد الصدمة غالبًا ما يحدث بعد شهرين إلى ثلاثة أشهر من الصدمة، لكن أصبح الناس في لبنان يعانون من اضطرابات نفسية أخرى، مثل الأرق والاكتئاب والقلق. حتى إعادة إعمار المناطق المتضررة في بيروت أصبح مصدر ألم للكثيرين لأنهم ما زالوا يرون الحطام في الشوارع بعد مرور أكثر من شهر على الحادثة ويسمعون ضجيج إعادة الإعمار، وذلك حسب ما علمه نجم من مرضاه.
من جانبها، قالت الدكتورة سيلين أبي راشد، وهي أخصائية نفسية أخرى في منظمة أطباء بلا حدود: “عندما يمر الناس بمثل هذه الأحداث، فإنهم لا يستجيبون لهذه الصدمة الحالية فقط، بل يتذكرون جميع صدماتهم السابقة”.
إن تأثير الانفجار على الصحة النفسية أدى إلى زيادة الطلب على الدعم النفسي. وبعد يوم واحد على الانفجار، وضع معهد التنمية والبحوث والمناصرة والرعاية التطبيقية خطا ساخنا وعيادة مجانية على ذمّة أي شخص متضرر. وقام المعهد أيضًا بتدريب 25 طبيبا نفسيا عملوا سابقا في منظمات غير حكومية مختلفة على كيفية تقديم الإسعافات الأولية النفسية.
يقدم رئيس الشؤون الخارجية وفرع المسنين بالمركز الدكتور جورج كرم الرعاية لما بين 15 إلى 18 شخصا يوميا بعد الانفجار. أما الآن، يقدر متوسط عدد المرضى في اليوم بثمانية أشخاص. وأفاد كرم بأن “معظم الأشخاص الذين تلقوا الرعاية عانوا في أول أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع بعد الانفجار من اضطراب الضغط النفسي الحاد. لكن انخفضت حالات الاضطراب النفسي الحاد، وزارنا المزيد من الأشخاص ذوي الدخل المنخفض لأنهم كانوا يعلمون أننا نقدم دعما مجانيا”.
إن انفجار الرابع من آب/ أغسطس لا يُعتبر العامل الوحيد المتسبب في ظهور مشاكل الصحة النفسية التي يعاني منها الكثيرون في لبنان. فالأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد وعدم الاستقرار السياسي كلاهما أثّرا على الصحة العقلية لأغلب المواطنين، الذين باتوا يشعرون بعدم الأمان والاكتئاب والقلق.
يقول كرم إن “السكان يزدادون فقرا في لبنان بسبب الأزمة الاقتصادية. علاوة على ذلك، إن الأشخاص الذين عانوا من مشاكل قبل الانفجار مصابون باضطراب ما بعد الصدمة. أما إذا كان شخص ما يعاني من صدمة من قبل، فإن الانفجار أدى إلى تفاقم حالته”.
يواجه الأطفال عواقب نفسية لسلسلة الكوارث اللامتناهية في لبنان
أضاف كرم قائلا: “قدمت الرعاية مؤخرًا لسيدة تبلغ من العمر 79 سنة كانت تعاني من مشاكل في الصحة العقلية لفترة طويلة، ولم تكن ترغب في التحدث مع أي طبيب نفسي. ولكن عندما دُمر منزلها بسبب الانفجار، أقنعت نفسها بضرورة زيارة الطبيب لأنها كانت ستقتل نفسها لو لم تفعل ذلك. وأصبح اليأس يخيم على الجميع إثر وقوع هذا الإنفجار”.
أطفال في حالة صدمة
تماما مثل البالغين، يواجه الأطفال عواقب نفسية لسلسلة الكوارث اللامتناهية في لبنان. تعمل كل من أخصائية علم النفس ساشا موغبغا، والأخصائية الاجتماعية سالي رزق، في منظمة “حماية” اللبنانية غير الحكومية لحماية الطفل، وقد أخبرتا موقع “ميدل إيست آي” بأن العديد من الأطفال قد تُركوا خائفين من تكرار الانفجار، وأصبحوا مذعورين من الأصوات العالية التي تذكرهم بما حدث في الرابع من آب/ أغسطس.
في هذا الصدد، تقول موغبغا: “في المرحلة الأولى من الصدمة، نساعد الأطفال على التعاطف والتفهّم ونتركهم يتحدثون عن مشاعرهم. نساعدهم على تبرير بعض الأحداث التي حدثت على الرغم من أننا لا نستطيع السيطرة عليها. ثم نخبر الآباء بكيفية التعامل مع سلوك الأطفال وكيفية إدارته”. عرّضت الأحداث الأخرى التي أعقبت الانفجار الصحة العقلية للعديد من الأشخاص الذين يعانون بالفعل من الصدمات للخطر.
تزامنت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبيروت في مطلع أيلول/ سبتمبر مع الذكرى المئوية لإعلان قيام دولة لبنان الكبير في سنة 1920. واحتفلت دورية الاستعراض الجوي الفرنسي بهذه المناسبة بعرض جوي فوق بيروت. لكن الناس أعربوا عن مخاوفهم لأن ضجيج الطائرات الفرنسية أثار فزعهم في أعقاب الانفجار.
الطلب المتزايد على الدعم النفسي يجلب ضغوطا إضافية على علماء النفس وأخصائيي الصحة العقلية والأخصائيين الاجتماعيين
في نفس الوقت تقريبا، أدى البحث المؤثر عن ناجين محتملين في حي الجميزة بعد شهر من الانفجار، والحرائق التي اندلعت في ميناء بيروت يومي 8 و10 أيلول/ سبتمبر، وحريق آخر اندلع في مركز تسوق في بيروت في 15 أيلول/ سبتمبر إلى تفاقم آلام الناس. وحسب كرم، فإن جميع هذه الأحداث سيكون لها تأثير طويل المدى على الصحة النفسية. ويتوقع كرم أن يعاني الناس من الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة في غضون بضعة أشهر، وستزداد هذه الاضطرابات سوء إذا لم يتغير الوضع.
يحتاج الأطباء إلى الدعم أيضا
من المفارقات أن الطلب المتزايد على الدعم النفسي يجلب ضغوطا إضافية على علماء النفس وأخصائيي الصحة العقلية والأخصائيين الاجتماعيين. وإلى جانب مواجهة الصدمات الشخصية المتعلقة بالانفجار، فهم يتعاملون مع ضغط قبول المزيد من المرضى.
كان على مطر أن تتعافى من الصدمة التي تعرضت لها قبل أن تدعم الآخرين من خلال حضور جلسات نظير إلى نظير مع زملائها لمدة 10 أيام. وبالمثل، تتعافى أبو راشد من خلال حضور جلسات دعم الصحة العقلية مع معالجها النفسي. حيال هذا الشأن، تقول أبو راشد: “لم أعمل لمدة أسبوع لأنه كان علي أن أكون قوية من أجل مرضاي. أستمر في الذهاب إلى معالج نفسي مرتين في الأسبوع لرعاية صحتي العقلية من أجل المرضى الذين أرعاهم. إنهم بحاجة إليّ الآن”.
لكن مساعدة الناس قد تكون أيضا مصدر راحة للمتخصصين والأخصائيين الاجتماعيين الذين يعملون مع الأشخاص المتضررين. وحيال هذا الشأن، تقول أبو راشد: “الآن، عندما أعمل مع أطباء بلا حدود في مار ميخائيل، أشعر بتحسن لأنني أساعد الأشخاص المصابين بالصدمات وغيرها من اضطرابات الصحة العقلية”.
المصدر: ميدل إيست آي