في الـ13 من أغسطس/آب الماضي، أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة توصلها إلى اتفاق مبدئي، بوساطة أمريكية، لتطبيع علاقاتها مع دولة الاحتلال الإسرائيلي على كل المستويات الثنائية الممكنة.
بدت تلك الخطوة المفاجئة في حينها مختلفةً عن خطوات مثيلاتها العربية من مصر والأردن، إذ لم يطرأ طارئ جوهري على المشهد السياسي العربي يستدعي هذا النكوص في هذا التوقيت، كما أن الإمارات لم تقدم للقضية الفلسطينية ما قدمته القاهرة وعمان كي يبرر موقفها بالاضطرار التاريخي، وقد ظهر أن هناك شغفًا إماراتيًا من المستويات الناعمة في الداخل المحلي نحو الاتصال مع الاحتلال، خلافًا لحالة النفور العامة في مصر والأردن تجاه نفس الموضوع.
تطرح هذه المفاجآت السياسية في العادة أسئلةً عميقة على الباحثين والخبراء لفهم ما يدور في عقل صانعي القرار وقادة الدولة، وفي الدول العربية، تكون هذه الأسئلة موجهةً بالأساس إلى رئيس الدولة، الذي يكون في الخليج حاكمًا برتبة شيخ قبيلة.
لكن الغريب أنه في الحالة الإماراتية، كان رئيس الدولة المنتخب من المجلس الأعلى للاتحاد بموجب الدستور الوطني، الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، غائبًا تمام الغياب عن المشهد السياسي، مما طرح أسئلةً عن مصيره وهوية الحاكم الفعلي للدولة ومستقبل الحكم، خاصة في الوقت الذي تشير فيه الصحافة إلى أن نظيره السعودي الملك سلمان، وهو من نفس جيله تقريبًا، يقف حجر عثرة أمام رغبة نجله وولي العهد، محمد، في انضمام بلاده لمعسكر التطبيع بشكل رسمي.
من هو؟
الشيخ خليفة هو الابن الأكبر من بين أبناء الشيخ زايد، لأمٍ تدعى حصة بنت محمد آل نهيان، وقد ولد عام 1948، ونشأ في مدينة العين شرق أبو ظبي، ويعود له الفضل، بعد أبيه، في تأسيس مدينة أبو ظبي وتطويرها خلال مرحلة ما بعد اكتشاف النفط وخروج الاحتلال البريطاني من البلاد.
ففي عمر الـ18، شق خليفة طريقه السياسي بتعيينه ممثلًا عن الحاكم في المنطقة الشرقية ورئيسًا للمحاكم، وبعد 3 سنوات، مطلع عام 1969، أصبح وليًا لعهد إمارة أبو ظبي ورئيسًا لدائرة الدفاع عنها، حيث يعزى إليه في هذه الفترة توسيع بعض مهام قوات الإمارة وزيادة عددها وإمدادها ببعض الأسلحة الغربية المتطورة.
تدرج خليفة في المناصب داخل الإمارة سريعًا ليرأس أول مجلس وزراء محلي، ويحمل أهم حقيبتين وزاريتين في المجلس، الدفاع والمالية، فيما كان عمره حينئذ 23 عامًا، وبحلول عام 1974، بعد استقرار الدولة الاتحادية بنحو 3 أعوام، ألغي مجلس الوزراء المحلي داخل كل إمارة، وحل محله “المجلس التنفيذي” الذي رأسه الشاب ذو الـ26 عامًا في أبو ظبي.
ظل الرئيس الإماراتي يباشر مهامه بشكل شبه معتاد، حتى مرت مسيرته السياسية بمنعطف حاد، مطلع عام 2014
منحت هذه التغييرات، إعلان الدولة الاتحادية وتضمين مجلس تنفيذي بكل إمارة، الفرصة لولي عهد أبو ظبي ورئيس مجلسها التنفيذي لإطلاق مشروعات تطوير المدينة العائمة على النفط، عبر رئاسته المجلس الأعلى للبترول، ثم من خلال تأسيسه جهاز أبو ظبي للاستثمار الذي يعد أول نواة حديثة لإدارة الشؤون المالية وتعزيز الأصول الاقتصادية للإمارة.
وبعد منح أبيه، الشيخ زايد، الولاية الثانية لحكم الإمارات عام 1976، بموجب الدستور الذي ينص على أن تكون مدة الولاية الواحدة 5 أعوام، استقر وجود الشيخ خليفة رجلًا ثانيًا في البلاد، مسيطرًا على القوات العسكرية التي ذابت كلها في جسد أبو ظبي بموجب الحكم الاتحادي، حتى جاء رئيسًا للبلاد، نوفمبر/تشرين الثاني، عام 2004، بعد وفاة والده، حاملًا ميولًا إصلاحية عامة، بدأت بالمجلس الوطني الاتحادي (البرلمان)، متكئًا في ذلك على استقرار مشروع الدولة الحديث الذي انعكس عليه شخصيًا باعتباره رابع أغنى حاكم في العالم.
اختفاء الرئيس
ظل الرئيس الإماراتي يباشر مهامه بشكل شبه معتاد، حتى مرت مسيرته السياسية بمنعطف حاد، مطلع عام 2014، حينما قالت وسائل الإعلام الرسمية إن الشيخ خليفة تعرض لوعكة صحية، نتيجة إصابته بجلطة نقل على إثرها للمستشفى وخضع لعمليةٍ جراحية.
منذ ذلك التوقيت، لم يظهر الرئيس الإماراتي على الملأ إلا مرات معدودة، أبرزها صيف عام 2017، حينما التقى حكام العائلة المالكة للتهنئة بشهر رمضان ومطلع عام 2018 للمشاركة في عزاء والدته.
وباستثناء هذه اللقاءات ولقاء آخر في فرنسا، بدا أن الشيخ خليفة لا يمارس صلاحياته الرئاسية التي يكفلها له الدستور، بالاجتماعات واللقاءات والخطابات، لمانعٍ ما، أعاقه حتى عن حضور صلاة الجنازة على والدته التي أناب عنه فيها محمد بن راشد حاكم دبي ومحمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي، كما بدا سلوكه العام غير مستقر، حيث أعلن الإعلام الرسمي أكثر من مرة سفره في رحلات خارجية ممتدة، غير معلوم أي تفاصيل عنها.
الخطاب السياسي العام تجاه مسألة غيابه منذ 6 أعوام ظهر مضطربًا بين الادعاء وواقع الحال، بشكل يوحي أن هناك ارتياحًا رسميًا في دوائر الحكم التي تسير الأمور بالبلاد، بين أبو ظبي ودبي تحديدًا، نحو فكرة وجوده رئيسًا شكليًا دون تحديد مصيره، فبحسب ما ذكره محمد بن زايد في وقت سابق، فإن ما يشاع عن تدهور صحة الشيخ خليفة عارٍ عن الصحة والشيخ بصحة طيبة.
لكن ما هو معروف عن دبلوماسية الرد على دعاوى تدهور صحة مسؤول كبير، أن يخرج المسؤول في مقطع مباشر يخاطب الجمهور، بشكل كاشف عن موقفه البدني والنفسي والذهني والسياسي ومطمئن للرأي العام، وهو ما لم يحدث قط.
الدقائق القليلة التي ظهر فيها خليفة خلال الأعوام الماضية أظهرته بصحة معقولة بالنظر إلى عمره الذي كان في منتصف الستينيات
بل يتعامل محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي ونائب رئيس المجلس الأعلى للجيش، فعليًا، باعتباره الحاكم الحقيقي للدولة، ويلعب محمد بن راشد، نائب رئيس الدولة ورئيس الوزراء ووزير الدفاع دور “المحلل” لـ”أبو خالد” محمد بن زايد، في كل المناسبات، في الواقع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، حتى قال نصًا من قبل: “لدينا جيش نفتخر به تحت قيادة محمد بن زايد”، بما يوحي أن هناك تواطؤًا على تثبيت هذه الحالة: حاكم بصلاحيات كاملة بشكل شكلي، شعب لا يعرف مصير حاكمه، وولي عهد يدير البلاد في الخفاء.
هذه الحالة من عدم الشفافية أثارت عاصفة من التساؤل العام عن مصير الرئيس، وبالأخص في أوساط المعارضين السياسيين خلال الأعوام السابقة، إلى حد تدشين وسم “#أين_خليفة“، وفتحت، أيضًا، الباب على مصراعيه أمام الصحافة للتكهن بمصير الرئيس، حيث رسخ تصور أن محمد بن زايد استعان بمستشاره الفلسطيني للشؤون الخارجية ذات البعد القومي، محمد دحلان، لتسميم خليفة بنفس المادة التي اتهم باستخدامها ضد الرئيس الراحل ياسر عرفات للتحكم به قبل وفاته، ثم وضع (خليفة) تحت الإقامة الجبرية، تمهيدًا لتمرير محمد بن زايد حاكمًا للبلاد.
الدقائق القليلة التي ظهر فيها خليفة خلال الأعوام الماضية أظهرته بصحة معقولة بالنظر إلى عمره الذي كان في منتصف الستينيات وقتها وتاريخه المرضي، لكن الشكوك بشأن عدم إسعاف قدراته له كي يمارس صلاحياته الرئاسية أو خضوعه للإقامة الجبرية، تأكدت عندما أعلن تجديد ولايته القانونية حاكمًا للبلاد لـ5 أعوام جديدة، نهاية سبتمبر/أيلول 2019، دون أن يطل بكلمة مباشرة أو حتى مسجلة على الشعب الإماراتي، كما ينص البروتوكول منذ قديم الأزل.
جذور الشك
بهذه الصيغة التي تقدمها الأسرة الحاكمة في الإمارات، آل نهيان وآل مكتوم، لا يمكن التأكد من مصير الشيخ خليفة بشكل دقيق.. لكن، هل تعد التكهنات الصحفية التي تنوه عن ضلوع الشيخ محمد بن زايد في تقويض حكم الشيخ خليفة بشكل أو بآخر وجيهة؟
تقول الحقائق التاريخية إن حكم الإمارات، شأنه شأن باقي الخليج العربي، كان مرهونًا بالتدخل الخارجي، البريطاني تحديدًا، والصراعات العائلية غير النزيهة التي كانت سمةً لتداول السلطة قبل الدول الحديثة في مناطق كثيرة من العالم، لكنها استمرت في الخليج إلى الآن بأشكال أقل خشونة.
شهدت أبو ظبي في منتصف القرن الثامن عشر اقتتالًا عائليًا كبيرًا على السلطة، فقد قتل هزاع بن زايد أخاه ذياب عام 1761 لينفرد بالسلطة، فقام شخبوط بن ذياب بالانتقام لوالده بقتل عمه هزاع والانفراد بالسلطة عام 1793، لكن نجله محمد خانه لنفس السبب عام 1836، ولم تستقر الأمور إلا للشيخ المؤسس الذي حكم 33 عامًا من 1971 حتى 2004.
تقول كل المؤشرات إن ترويكا “السلطة” الحقيقية في البلاد ذهبت بالفعل إلى ابن زايد وأشقائه دون غيرهم
وقد لعب الاحتلال البريطاني دورًا فاصلًا في تولية الشيخ زايد تحديدًا على حكم الإمارات، وليس أخاه شخبوط الذي كان يتحفظ على كثير من مصالح الاحتلال في بلاده، وهو نفس ما حدث مع الشيخ صقر القاسمي الذي أزيح من حكم الشارقة لعدائه للاحتلال، فطلب اللجوء إلى مصر في كنف الناصرية، منتصف الستينيات.
أما نفوذ الشيخ محمد بن زايد وطموحه السياسي، على حساب إخوته غير الأشقاء فكان واضحًا منذ عام 2004، لكن يبدو أن الشيخ خليفة لم يتصور وصول الأمور إلى هذا الحد الذي يصبح عنده رئيسًا شكليًا بالكامل، فقد أرجأت والدة الشيخ محمد بن زايد، فاطمة الكتبي، إعلان وفاة الشيخ زايد أيامًا، حتى رتبت ولاية عهد أبو ظبي لنجلها محمد، تحت إمرة الشيخ خليفة، بالمخالفة للعرف الذي يذهب بولاية عهد العاصمة لثاني الأشقاء عمرًا بعد الشيخ خليفة، وهو الشيخ سلطان بن زايد.
وقد اتهم محمد بن زايد بالتدبير لقتل عدد من إخوته غير الأشقاء لأسباب تتراوح بين الرغبة في عقابهم أو السيطرة على نفوذهم أو إبعادهم عن طريقه، كان أبرزهم الشيخ أحمد بن زايد الذي قال عن وفاته المعارض السعودي بروفيسور العلوم السياسية، كساب العتيبي، إنها جاءت عقابًا على اعتراضه على التلاعب بصندوق أبو ظبي للاستثمار الذي كان يرأسه من منصور بن زايد، شقيق محمد، لشراء بنوك إنجليزية وأمريكية، مما دفع محمد للتخلص منه في أثناء رحلة جوية فوق بحيرة سيدي محمد بن عبد الله، بالمغرب، جنوب الرباط، عام 2010 متسائلًا: إذا لم تكن هذه العملية اغتيالًا؛ لم لم يفتح تحقيق فيها؟ ولم سمح للملاح الإسباني بالعودة إلى بلاده؟ ولم يحبس أو تصادر أمواله ولم تسحب الجنسية من كل من يفتح هذا الملف؟
وتقول كل المؤشرات إن ترويكا “السلطة” الحقيقية في البلاد ذهبت بالفعل إلى ابن زايد وأشقائه دون غيرهم، فقد سيطر عبد الله على ملف الإعلام والخارجية، وأوكل إلى منصور شؤون الرئاسة والقضاء، وأمسك طحنون بملف المخابرات، وقبض هزاع على ملف الرياضة، وحمدان على شؤون المنطقة الغربية، وسيف على الداخلية والأمن، وبدأ “مبز” يصعد نجله الأكبر، خالد، في ملف الأمن الوطني.
مستقبل الحكم
السبب في هذه الحالة الغريبة بالمشهد الرئاسي الإماراتي، بحسب سايمون هندرسون، مدير برنامج الخليج وسياسة الطاقة في معهد واشنطن، هو عدم حسم الملفات العالقة بين الجيل الأول والجيل الثاني بخصوص مرحلة ما بعد خليفة داخل العائلة الحاكمة في الإمارات، وبالتالي، فإن القرار غير المعلن هو الاستفادة من وجود خليفة شكليًا لتمرير ما يراد تمريره، على أن يكون قسطًا من المسؤولية التاريخية ملقى على عاتق خليفة. أحد أحدث القرارات التي صدرت باسم خليفة بن زايد مؤخرًا كان قرارًا بالسماح بتطبيع العلاقات مع “إسرائيل”.
ظهرت بوادر خلاف واضحة بين الإمارتين تجاه عدد من الملفات المهمة في المنطقة، مثل الموقف من الربيع العربي
يشمل الجيل الثاني في الحالة الإماراتية، حسبما يعرفه أسعد أبو خليل أستاذ العلوم السياسية في الولايات المتحدة، أبناء الأب المؤسس، من إحدى الزوجات المحظية، كنايةً عن فاطمة بنت مبارك الكتبي.
ويتسم هذا الجيل ببعض الصفات التي تختلف عن صفات الجيل الأول، إذ حظي الجيل الثاني، محمد بن زايد وإخوته الأشقاء، على حد وصف أبو خليل، بحياةٍ مرفهة وبرامج تعليمية فردية وتساهل في العلاقة مع الخصوم التقليديين مثل الاحتلال، غير أن السمة الأخطر والأبرز داخليًا هي الانغلاق والتصلب، التي تظهر في المداولات السياسية خلال الرحلات الخارجية، حيث يكون محمد بن زايد على مسافة قريبة للغاية من إخوته الأشقاء.
بدت آثار تلك السمة الخطيرة تطفو على سطح عناوين العائلة الحاكمة في الإمارات مؤخرًا، وتجسدت في هروب نجل حاكم الفجيرة، راشد بن حمد بن محمد الشرقي، أستاذ الاقتصاد الحاصل على الدكتوراة من إنجلترا، لاجئًا سياسيًا إلى قطر، منذ عام ونصف، كاشفًا للصحافة العالمية عن ضجر شديد في الإمارات الخمسة الصغيرة، وبالأخص الفجيرة، بسبب احتكار حكام أبو ظبي، محمد بن زايد وإخوته، القرار السياسي في البلاد، مشيرًا إلى عدم قدرة هذه الإمارات الصغيرة على مواجهة أبو ظبي، لصغر مساحتها وقلة مواردها.
لم يقل هندرسون صراحةً إن دبي هي التي ستواجه أبو ظبي بعد إعلان رحيل خليفة الذي سيأتي عاجلًا آم آجلًا، ولكنه جزم بمبادرة حكام أبو ظبي الحقيقيين بتهميش دبي خلال حقبة ما بعد خليفة، وتركز الأسئلة المهمة لدى ابن زايد بخصوص ولاية العهد في إمارة أبو ظبي: هل ستذهب لأحد إخوته، أم لنجله المدلل خالد الذي تبوأ مناصب مهمة في الفترة الأخيرة مثل قيادة الأمن الوطني.
ومع ذلك، ورغم تواطؤ آل زايد، فرع فاطمة الكتبي، مع آل مكتوم، للتستر على مصير الشيخ خليفة وتجاوزه، فقد ظهرت بوادر خلاف واضحة بين الإمارتين تجاه عدد من الملفات المهمة في المنطقة، مثل الموقف من الربيع العربي وترشح السيسي للانتخابات الرئاسية المصرية والحرب على اليمن وحصار قطر.. فهل ستنعكس هذه الخلافات على مستقبل الحكم أم سيكون تنصيب محمد بن زايد، ومن يريد في ولاية عهد أبو ظبي، “انتقالًا سلسًا”، كما ذكرت بعض وسائل الإعلام منذ عامين؟