“كنت دائمًا أتخيل ذلك اليوم الذي أغدو فيه مبرمجًا محترفًا، جالسًا خلف حاسوبي وأعمل على مشاريع كبيرة”، بهذه الكلمات عبر عبيدة (23 عامًا) عن الصورة التي كان يرسمها لنفسه لسنوات طويلة ويعمل لأجلها، لكن حرب النظام السوري على شعبه وتقلبات الأوضاع السياسية والعسكرية قضت على حلمه وتركته معلقًا أو ربما ذهب هباءً.
بقي عبيدة وعائلته في مدينة إدلب بعد تحريرها على يد قوات المعارضة السورية من قوات النظام السوري عام 2015، هذه المدينة التي تحولت من المدينة المنسية في عهد الأسد الأب والابن إلى ساحة صراع عسكري وسياسي في السنوات الأخيرة، كما أنه يغيب توصيف الحياة بالمعنى الحقيقي عنها، في مشهد يغلب السوء فيه على حياة قاطنيها من كل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والأمنية.
في هذا التقرير لن نتحدث عن التقلبات العسكرية ولا عن الأوراق السياسية، بل سنغوص في أحد أعمق جروح سوريا وشعبها، ألا وهي قضية الشباب السوري الذي وقع ضحية لحرب كارثية حولت أحلامهم إلى كابوس، لكنهم رغم ذلك لم يغلبهم اليأس وما زالوا يطاردون أحلامهم ويسعون لتحقيقها بشتى الوسائل، ويبدو أن هذه القضية لم تأخذ حقها من الكلام والبحث لعدة أسباب سنذكرها في هذه السطور.
انقطاع دراسي
عبيدة ومحمد وطارق 3 شبان من مدينة إدلب بدأت صداقتهم عام 2016، وهو العام الذي تلى تحرير مدينة إدلب من قوات النظام السوري، حيث تعرف الرفاق على بعضهم خلال برنامج تطوعي أطلقته منظمة “بنفسج” وهي إحدى المنظمات المحلية غير الحكومية بهدف تدريب الشباب وتهيئتهم لتشكيل فرق طوارئ للاستجابة السريعة لمتضرري الحرب وتلبية حاجات المدينة.
كانت الشهور التي أعقبت تحرير مدينة هؤلاء الشباب عصيبة جدًا، فقد جن جنون النظام وبدأ بالإغارة عليها بطيرانه الحربي مخلفًا العشرات من الضحايا المدنيين مع انقطاع تام لأي شكل من أشكال الحياة، كانت صدمةً كبيرةً للأصدقاء، فأعمارهم لم تتجاوز الـ18، وأبى أهلهم الخروج من المدينة أو مغادرة البلاد على الرغم من أن الخروج من سوريا كان في تلك الفترة سهلًا ومتاحًا دون صعوبات كالتي تحصل الآن.
الرفقاء الـ3، انقطعوا عن دراستهم بشكل كامل، فعبيدة أكمل دراسة الثانوية بمعدل عالٍ يؤهله لدخول الفرع الجامعي الذي يحلم به، إلا أنه وبحسب ما ذكر لـ”نون بوست”، فإن “صعوبة الأوضاع وعدم الاستقرار منعاه من إكمال تعليمه”، ويضيف “قلة الكوادر التدريسية في إدلب وعدم وجود اعتراف بالجامعات الموجودة فيها من أي جهة دولية دفعتني إلى العدول عن خوض غمار الدراسة بها”، مشيرًا إلى أنه لم تكن الحالة النفسية تسمح له بأخذ قرار سليم.
السبب الأكبر لتفكير الشباب السوري بالهجرة هو صعوبة الحالة الأمنية والاقتصادية والسياسية وعدم الاستقرار
أما محمد فكان تركه للدراسة لأنه لم يستطع التوفيق بين الدراسة والعمل، فتلك الفترة كانت قاسية ماديًا واقتصاديًا، الأمر الذي جعله يبحث عن عمل لإعالة نفسه وأهله كما يروي لـ”نون بوست”، وفي حديثنا مع الصديق الثالث طارق أوضح أنه ترك المدرسة لأن الفرصة لم تسنح له، لكنه “عازمٌ الآن على إكمال الدرب الدراسي” وفقًا لما قال.
يُذكر أن الحالة التعليمية في مدن الشمال السوري عانت من أزمات عدة ومتكررة، إلا أنه ومع مرور الوقت لم يجد الكثير من الشباب إلا أن ينضموا لهذه الجامعات دون النظر إلى ما ينتظرهم خاصة أن المعارك لم تنته تمامًا وما من مؤشرات لحل يلوح في الأفق، يكمن الهم الأكبر لهؤلاء الشباب بتحصيل التعليم الأكاديمي وعدم الانقطاع عن الواقع المعاش خارج سوريا بعد السنوات القاسية تلك.
تضم إدلب جامعتين أساسيتين هما: جامعة إدلب وجامعة حلب الحرة، وعلى الرغم من الأزمات الإدارية واللوجستية والسياسية في كلتا الجامعتين، فإن أعداد الطلاب المنتسبين إليهما بلغ ما يزيد على 23 ألفًا متوزعين على كليات متعددة، وينقسم العدد إلى 18 ألف طالب في جامعة إدلب التي تتبع حكومة الإنقاذ و5 آلاف طالب في جامعة حلب الحرة التي تديرها الحكومة المؤقتة.
بعد انقطاع عبيدة ومحمد وطارق عن الدراسة لجأوا إلى التطوع في مجال العمل الإنساني، بـ”دافع شعور الواجب تجاه مدينتهم وكوسيلة لتنمية مهاراتهم وتعلم شيء جديد يفتح لهم الآفاق لعيش حياة كريمة” كما يروي الشاب طارق، طبعًا في ظل الظروف الصعبة التي يعانيها معظم الشباب من أقرانهم فإن هذا العمل ربما يوفر لهم حياةً اجتماعيةً تزيل عنهم هموم الحرب بحسب ما يقول محمد، واستطاعوا من خلال عملهم متطوعين أن يؤسسوا علاقات جيدة ويفتحوا لأنفسهم آفاق جديدة، ومع الأيام أصبحوا يشعرون بأن لعملهم مغزى ويشعرون بقيمته خاصةً أنهم صاروا يخدمون العوائل المحتاجة والمتضررة، وهذا هو دافعهم في الاستمرار كما عبروا لنون بوست.
صعوبات معيشية
لا يكاد يخلو بيت من بيوت المقيمين أو المهجرين في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية إلا ويفكر أهله بالخروج من البلاد، إن لم يكن لمجمل العائلة فلشخص واحد من شبابها على أقل تقدير، يسوقهم إلى ذلك الكثير من الضغوطات النفسية والأسباب الأمنية والمعيشية والاقتصادية الصعبة.
يروي محمد أنه فكر بالهجرة إلى أوروبا، لكن هجرة أخيه الأكبر وبقاء عائلته في إدلب ألقى على عاتقه الكثير من المسؤوليات والواجبات التي أجبرته على البقاء، وكذا فعل عبيدة الذي منعته هجرة أخيه الأكبر من ترك أهله وحدهم، إلا أن طارق كان له رأي آخر فهو يرى أن “للهجرة سلبيات أكثر من الإيجابيات لعل أهمها النظرة الدونية الموجهة إلى اللاجئ من المجتمع المضيف وهو ما لا يستطيع تحمله” بحسب تعبيره.
السبب الأكبر لتفكير الشباب السوري بالهجرة هو صعوبة الحالة الأمنية والاقتصادية والسياسية وعدم الاستقرار، وبحسب دراسة لمنظمة “LDO”، يعاني الشباب في إدلب الكثير من العقبات والصعوبات على مختلف الأصعدة التي تحول دون تحمل مسؤولياتهم وأداء واجباتهم لما تعيشه مناطق الشمال السوري المحرر من أوضاع اقتصادية وأمنية صعبة زادت من أعباء الحياة المعيشية عليهم”.
ويمثل انخفاض فرص العمل التي أصبحت شبه نادرة أو مرهونة بكفاءات عالية أبرز هذه التحديات، وأظهرت الدراسة أن هناك “انخفاضًا في فرص العمل الموجهة للشباب ضمن المناطق المحررة وعدم قدرة تلك الفرص إلا على استيعاب نسبة محدودة من الشباب بنسبة تتراوح بين 20-40%”.
أصبح موضوع العمل في المناطق المحررة محصورًا بتلك الوظائف التي توفرها المنظمات التي غالبًا ما تكون مرهونة بامتلاك مؤهل علمي ومهارات وقدرات عالية، أو بالمهن الحرفية والأعمال اليومية التي لا يتجاوز مردودها اليومي 3 دولارات لا تكفي لتأمين حاجاتهم ليوم واحد.
وأشارت الدراسة إلى أن “الشباب في المناطق المحررة يعيشون في شتات فكري واجتماعي وحالة انقطاع تام عن واقعهم السياسي بسبب انخفاض المستوى التعليمي وقلة الممارسة السياسية وتأثر بعضهم بالأفكار المتطرفة والمفاهيم المغلوطة التي تعمل القوى والجماعات المتطرفة على نشرها”.
جهود متواضعة من المنظمات
كثيرة هي المشاريع التي تستهدف النساء والأطفال وتعمل على الاهتمام بهم وحل مشاكلهم في مناطق الشمال السوري، دون إيلاء اهتمام كاف لقضية آلاف الشباب الذين هم عصب الحياة وعمودها الاقتصادي، وربما تنسى المنظمات الراعية أو مؤسسات العمل المدني التي لا تلقي بالًا لهذه الفئة أن الشباب غالبًا ما يُتركون لقدرهم دون أي رعاية علمية أو اهتمام صحي أو تثقيفي أو توعوي أو سياسي باعتبار أنهم “رجال” أو كما يدرج في المصطلح السوري “عسكري دبر راسك”.
وهو ما تؤكده منظمة “LDO”، بأن “هنالك ندرة شبه تامة بالأنشطة والفعاليات التي تعمل على رفع درجة الوعي السياسي والاجتماعي لدى الشباب أو تلك التي تسعى لزيادة دمج المهجرين ضمن المجتمع المحلي وتخفيف هذا العبء القائم”.
لكن مع كل هذا التجاهل استطاع قطاع واسع من الشباب في تلك المناطق، أن يعمل على تثقيف نفسه وتوعيتها والعمل على صقل المهارات واكتساب الخبرات من الدورات التدريبية المتوافرة على شبكة الإنترنت، ونستطيع القول إنها كثيرة عدا عن الأكاديميات والمؤسسات التي تعمل ببرامج ذات محتوى فكري ونهضوي وتستقطب شريحة واسعة منهم.
يقول عبد الرزاق عوض مدير البرامج في منظمة بنفسج العاملة في شمالي سوريا: “معظم المنظمات المحلية والعالمية الموجودة في المناطق المحررة ركزت على برامج التدريب المهني وبناء القدرات وتنمية المهارات الموجهة للشباب التي تؤهلهم لدخول سوق العمل”، إلا أن هذه المشاريع لا تؤتي أُكلها بشكل مثالي لأنها غير قادرة على استيعاب الأعداد الكبيرة للشباب، وغالبًا ما تكون نتائج هذه التدريبات غير مرضية كونها نظرية ولا تتيح فرصة التدريب العملي لتطبيق المهارات التي حصلوا عليها على أرض الواقع.
ختامًا، ما زال ضيوف هذا التقرير الثلاث متمسكين بآمالهم كما قالوا، فعبيدة متمسك بدراسة البرمجة كما أنه اكتشف بنفسه موهبة التصوير وهو يعمل على تطويرها لديه، أما صديقه محمد فيعزم على الدخول إلى الجامعة لدراسة الأدب الإنجليزي، وصديقنا طارق منطلق بالدراسة بالمعهد الطبي في جامعة إدلب، وكآلاف الشباب الذين تتحداهم الظروف وتعترضهم العقبات من كل جانب، يقاتل هؤلاء الشبان اليأس ليغيروا واقعهم وظروف عائلاتهم إلى حال أفضل، رغم الحرب، ورغم كل تبعاتها.