أصبحت التقنيات الجديدة للذكاء الاصطناعي جزءًا من حياتنا اليومية، فهي بوابتنا للمجتمع المستقبلي، وتؤثر تطورات الذكاء الاصطناعي بالفعل على الاقتصاد من ناحية الثروة الفردية أو التغيرات المالية الأوسع نطاقًا.
والذكاء الاصطناعي له دور بارز ومهم في تغيير قواعد اللعبة في تحولات الاقتصاد العالمي، حيث يقدر أن يساهم الذكاء الاصطناعي بما يقارب 15.7 تريليون دولار في نمو الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030، وهو ما يزيد على الناتج الإجمالي الحاليّ للصين والهند مجتمعين.
مع وجود الذكاء الاصطناعي في اللعبة، تُطرح الأسئلة: كيف ستؤثر هذه التكنولوجيا على اقتصادات الدول؟ وما التأثير الضار على الحياة الاجتماعية والسياسية؟ وكيف سيشكل الذكاء الاصطناعي الأنماط الاقتصادية المهمة؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة سنرى من خلال هذا التقرير، كيف سيصبح الذكاء الاصطناعي عامل الإنتاج الجديد، وما اقتصاداته، كيف يؤثر على فقدان الوظائف، وكيف له أنشطة ابتكارية وما الاقتصاد السياسي للذكاء الاصطناعي؟
نسلط الضوء في هذا التقرير الذي يأتي ضمن سلسلة من المواضيع المهمة في ملف الاقتصاد الرقمي، على أهمية خوارزميات الذكاء الاصطناعي في تنشيط الاقتصاد ودفع عجلة المال والأعمال إلى الأمام.
الذكاء الاصطناعي كعامل إنتاج جديد
في البدء يتم تعريف الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) الذي يُشار له بالاختصار (AI)، على أنه امتلاك الآلات القدرة على التفكير بطريق تشابه البشر.
إن عملية الإنتاج عند علماء الاقتصاد في العلم الحديث تبدأ بمدخلات تُعالج للحصول على مخرجات لاستهلاكها، وتعتمد عملية الإنتاج على مقومات عدة تساهم في نجاح الإنتاج، وتُسمى بعوامل أو عناصر الإنتاج، وهي (الأرض، العمل، رأس المال، التنظيم والإدارة).
زاد الذكاء الاصطناعي من قدرة الاتصال بين البشر، وتسللت التكنولوجيا بين البشر في كل تعاملاتهم
لكن مع دخول أنظمة الذكاء الاصطناعي، ازدادت تلك العوامل بعامل جديد، وهو “وكلاء الذكاء الاصطناعي”، يقصد به تلك الأنظمة الإنتاجية التي تتلقى أوامرها من الآلات والحواسيب والأجهزة الذكية بدلاً من البشر.
زاد الذكاء الاصطناعي من قدرة الاتصال بين البشر، وتسللت التكنولوجيا بين البشر في كل تعاملاتهم، بمعنى أن البشر صاروا يتخذون القرارات ويتواصلون مع أجهزة الكمبيوتر بشكل عام ومع الذكاء الاصطناعي بشكل خاص.
يُلاحظ في عالم مع الذكاء الاصطناعي، أن القرار النهائي لا يكون بيد شخص اقتصادي فقط، لكن أيضًا خوارزميات الذكاء الاصطناعي المدمجة والآلة لهما القرار.
بالإضافة إلى ذلك، فإن عوامل الذكاء الاصطناعي وخصائصها المميزة، لديها القدرة على تطوير النظام الاقتصادي أو هدمه إذا أُسيئ استخدامه.
اقتصادات شبكات الذكاء الاصطناعي
يقصد بـ”اقتصادات شبكات الذكاء الاصطناعي” دراسة جميع الأفكار الأساسية عن الذكاء الاصطناعي المتعلقة بالاقتصاد، بداية من النفقات التي تمول أبحاث الذكاء الاصطناعي، مرورًا بالآثار الاقتصادية لظهور الذكاء الاصطناعي مثل تأثيره على الأسعار والأجور وتسريع الإنتاجية والتأثير المحتمل للروبوتات على معدل البطالة، وانتهاءً بإجراء الأبحاث الاقتصادية التطبيقية من خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي.
الاقتصاد الرقمي يمثل أهمية إستراتيجية للعالم أجمع وهو الأمر الذي جعل قادة قمة العشرين يعقدون جلسة خاصة بعنوان “الاقتصاد الرقمي” خلال أعمال القمة التي عقدت في 28 و29 من يونيو 2019 بمدينة أوساكا في اليابان، وتم اعتبار التحول الرقمي مصدر للنمو الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية في كل البلدان، مع ضرورة تسخير كل إمكانات البيانات المتاحة والاقتصاد الرقمي لتعزيز الابتكار وتعزيز التجارة الإلكترونية وأهمية مرونة وأمن شبكات الجيل الخامس.
باتت استثمارات الذكاء الصناعي تحتل مرتبة كبيرة فى موازنات الدول والحكومات والشركات الكبيرة، وتشير بعض الدراسات إلى أنه من المتوقع أن يضيف الذكاء الاصطناعي للناتج المحلي الإجمالي أكثر من 15 تريليون دولار بحلول عام 2030، وهو ما يجعله نفط المستقبل.
بحلول عام 2030، يمكن أن يحل العملاء والروبوتات الذكية محل ما يصل إلى 30% من العمالة البشرية
كما تشير الدراسات الى أن الصين تعد من أكبر الدول إنفاقًا على الذكاء الاصطناعي العالمي بنسبة 48% تليها الولايات المتحدة بنسبة 38%، وهو ما يعني أن المنافسة العالمية لم تعد على مصادر الطاقة فقط، لكن باتت على مصادر الاقتصاد الرقمي المتمثلة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي وما تشكله من قفزات اقتصادية كبيرة.
ولعل التنافس والصراع التجاري الصيني الأمريكي وتداعياته الأخيرة كان مثالًا تطبيقيًا على حجم التنافس العالمي على تطبيقات الثورة الصناعية الرابعة وتنمية الموارد البشرية لمواكبة تلك الثورة وأثرها المتزايد على العمل والعمالة في المستقبل.
الذكاء الاصطناعي وفقدان الوظائف
في الماضي تم إنشاء وظائف أكثر مما دمرته التكنولوجيا، وكان العمال قادرين على إعادة المهارات أو الانتقال بشكل جانبي إلى صناعات أخرى، لكن في السنوات الأخيرة لم يعد الأمر كذلك، وفقد الكثيرون وظائفهم بشكل نهائي بسبب التطور التكنولوجي.
تشير دراسة لمدة عامين من معهد ماكينزي العالمي إلى أنه بحلول عام 2030، يمكن أن يحل العملاء والروبوتات الذكية محل ما يصل إلى 30% من العمالة البشرية الحاليّة في العالم.
تعتقد شركة ماكنزي أنه اعتمادًا على سيناريوهات التبني المختلفة، ستحل آلية التشغيل الآلي محل ما بين 400 و800 مليون وظيفة بحلول عام 2030، مما يتطلب ما يصل إلى 375 مليون شخص لتبديل فئات الوظائف بالكامل.
سيؤدي القرار إلى فقدان 50 ألف وظيفة في الولايات المتحدة و27 ألف وظيفة أخرى في المملكة المتحدة
ومثال على ذلك أعلنت شركة Microsoft مؤخرًا أنها ستنهي عمل عشرات الصحفيين والعاملين في التحرير في مؤسسات Microsoft News وMSN، وبدلًا من ذلك، قالت الشركة إنها ستعتمد على الذكاء الاصطناعي لرعاية وتحرير الأخبار والمحتوى الذي يتم تقديمه على MSN.com، وداخل متصفح Microsoft Edge، وفي تطبيقات Microsoft News الخاصة بالشركة.
ولشرح القرار، أصدرت Microsoft بيانًا جاء فيه: “نحن مثل جميع الشركات، نقيم أعمالنا بشكل منتظم، يمكن أن يؤدي هذا إلى زيادة الاستثمار في بعض الأماكن، وتقليلها في جوانب معينة”. سيؤدي القرار إلى فقدان 50 ألف وظيفة في الولايات المتحدة و27 ألف وظيفة أخرى في المملكة المتحدة.
النشاط الابتكاري للذكاء الاصطناعي
تعد الروبوتات مجالًا رئيسيًا لتطوير مجتمع الذكاء الاصطناعي، لذا فليس من المستغرب وجود الكثير من الشركات الناشئة التي تجري أبحاثًا بهدف المضي قدمًا في هذا المجال.
يمكن لوحدة التحكم والبرمجيات، تشغيل الروبوتات المقيدة في قاع المحيط أو خدمة الروبوتات عبر الأقمار الصناعية باستخدام روابط الأقمار الصناعية في الفضاء أو الروبوتات الصناعية التي تنظف التسرب الكيميائي الخطير على الأرض باستخدام شبكات 4G / 5G.
وإليك أهم خمسة ابتكارات للذكاء الاصطناعي أدت لتنمية الاقتصاد في بعض البلدان:
1- الطائرات من دون طيار(الدرون) التي دعمت الاقتصاد الأمريكي والتركي.
2- الهواتف الذكية: دعمت اقتصادات عدة دول مثل iPhone بالولايات المتحدة وسامسونج بكوريا الجنوبية وهواوي في الصين.
3- العملات الرقمية التي ساعدت بتنمية عدة اقتصادات.
4- التكنولوجيا المالية Fintech التي ساهمت بتنمية عدة اقتصادات، كالمملكة المتحدة والولايات المتحدة وهولندا، فيما يخص الخدمات المالية والتمويل.
5- برامج التواصل الاجتماعي: كالفيسبوك بالولايات المتحدة، والتيك توك بالصين.
الاقتصاد السياسي للذكاء الاصطناعي
ستلعب الدولة والمجتمع المدني دورًا مهمًا للغاية في عصر الذكاء الاصطناعي، حيث سيعمل الذكاء على تغيير الكثير من الأنظمة واللوائح والقوانين، فيما يلي أهم المفاصل التي يتوقع أن يتغير مفهومها في عصر الخوارزميات:
- شبكة الإنترنت هي تقنية ثورية لكنها تتطلب إنشاء قوانين إلكترونية للتنظيم والتحكم.
- سيصبح دور صانعي السياسات والمحللين مهمًا للغاية عندما يتعلق الأمر ببرامج الذكاء الاصطناعي المتقدمة والروبوتات الرقمية.
- صياغة السياسات وتنفيذها ستكون أسهل لأن تحليل البيانات وتقييم البرامج وتنفيذها سوف يتم بمساعدة التكنولوجيا الجديدة.
- ستكون التكنولوجيا قادرة على اكتشاف المعلومات التي لا يستطيع المحلل العادي اكتشافها.
- يمكن لصانعي السياسات والمحللين بعد ذلك التركيز على فهم المشاكل وابتكار الحلول، بدلاً من زيادة المهارات الجديدة.
الذكاء الاصطناعي هو مصدر قلق فوري ولا يمكن إلا للدولة وصانعي السياسات وضع الأشياء المذكورة أعلاه موضع التنفيذ، وإصلاح نظام التعليم ونقل التكنولوجيا واللوائح والمبادئ التوجيهية للتكنولوجيا الاصطناعية، كلها أمور يتعين على الحكومات الاهتمام بها وتتطلب خطوات جريئة من جانبها.
كما تتمتع الدولة بسلطة إدخال الخطاب عن الذكاء الاصطناعي إلى المجال العام، نظرًا لأننا نتحدث عن زيادة المهارات للبقاء على صلة بالموضوع اقتصاديًا، فلكي يحدث ذلك يحتاج الناس أولاً إلى توعية وإعلام بالموقف.
المشاكل التي يسببها الذكاء الاصطناعي
ستكون هناك هجرة غير مسبوقة، قد يرغب الأفراد الذين تم استبدالهم بواسطة الروبوتات الرقمية في الهجرة إلى البلدان النامية للبقاء على صلة اقتصادية، كما ستتأثر اقتصادات البلدان النامية مثل إثيوبيا وإندونيسيا وكمبوديا والهند وبنغلاديش بشدة مع تحول مراكز التصنيع وتكنولوجيا المعلومات إلى البلدان المتقدمة وتوريد المنتجات الرخيصة المصنوعة بواسطة الروبوتات الرقمية.
كما ستواجه البلدان النامية في آسيا وإفريقيا خطر إعادة الاستعمار من الغرب المتفوق تقنيًا، وتكون فرص نجاح مشروع الدخل الأساسي ومحاربة أضرار الذكاء الاصطناعي أعلى إذا تم تنفيذه عالميًا وإلا سيرغب الناس في الانتقال إلى البلدان التي يتوافر بها الدخل الأساسي.