يومًا تلو الآخر تتكشف الحقائق شيئًا فشيئًا لتفك طلاسم المشهد المتعلق بالأزمة الخليجية، لتؤكد أن الحصار الذي فرضته الدول الرباعية (السعودية، الإمارات، البحرين، مصر) على قطر كان لأهداف وغايات أخرى، غير التي تم الترويج لها إعلاميًا، وما المطالب الـ13 التي قدمتها تلك الدول سوى ممر لتحقيق تلك الأجندات إيمانًا بالرفض القطري القاطع لها لما تتضمنه من عدم احترام لسيادة الدول واستقلالية قرارها.
بات من الواضح أن استهداف قطر حملة ممنهجة وضعت خيوطها الأولى قبيل قرار المقاطعة والحصار، وهو ما توثقه التقارير والبيانات والتسريبات التي تظهر بين الحين والآخر، لتضع ادعاءات الرباعي في مهب الريح، لا سيما بعدما سقطت الأقنعة عن الأهداف الحقيقية التي دفعتها إلى اتخاذ هذا الموقف تجاه دولة شقيقة في الوقت الذي تمد فيه أنظمة الدول الأربعة يد العون والمساعدة والتناغم حيال دولة الاحتلال، متراقصة على أشلاء شعب بأكمله.
برنامج “المسافة صفر” في حلقته المذاعة بتاريخ 27 من سبتمبر/أيلول 2020 على قناة “الجزيرة” كشف عن وثائق وبيانات تشير إلى تورط شبكات منظمة تعمل في إطار من السرية على فبركة القصص والأخبار الكاذبة تستهدف تشويه قطر وحلفائها في المنطقة.
التحقيق الذي استغرق العمل عليه قرابة عام ونصف وحمل عنوان “رسائل سيتا” نجح عبر فريق عمله في تتبع مصادر الأخبار الكاذبة واختراق إحدى الشبكات والوصول إلى القائمين على إدارة بعض المنصات الإلكترونية المضللة، للوقوف على تفاصيل الحملة وأهدافها الخبيثة.
تمويل سعودي إماراتي
التحقيق الاستقصائي كشف عن تمويل الإمارات والسعودية لعدة مراكز بحثية في الولايات المتحدة لتنظيم مؤتمرات وفعاليات ضد قطر قبيل إعلان الحصار عليها، وهو ما أشار إليه مدير مبادرة الشفافية في مركز السياسة الدولية بن فريمان الذي ألمح إلى دفع البلدين أموال طائلة لتلك المراكز نظير هذا الجهد بجانب نشرها أوراقًا بحثية تخدم أجندتهما في المنطقة.
ونجح هذا التحقيق المقسم على جزأين في فضح آلية عمل تلك الشبكات التآمرية، وكواليس تحركاتها لتحقيق تلك الأهداف، وكيف أنها تعاونت مع أبو ظبي والرياض بالتزامن مع اختراق وكالة الأنباء القطرية، وهي الواقعة التي استندت إليها دول الحصار لتبرير قطع العلاقات مع الدوحة.
وبحسب صحفي التحقيقات في صحيفة إنترسيبت (The Intercept) الأمريكية فإن الإمارات استطاعت عبر نفوذها المالي إقامة علاقات قوية مع مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات التي تربطها علاقات جيدة بالكونغرس، بما يمهد الطريق للتأثير على أعضاء البرلمان لخدمة أجندة أبناء زايد.
وكشف التحقيق عن تركيز غير مسبوق للمؤسسة على قاعدة العديد العسكرية بقطر، وكيل الاتهامات المتكررة للدوحة، وهو التركيز الذي لم يكن مصادفة وفق ما ذكر التحقيق، وهو ما كشفته إحدى الرسائل الإلكترونية بين وزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبرت غيتس وسفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة، التي كانت قبل يوم واحد من المؤتمر عن تحريض واضح من ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد على قطر ليفتح عليهم “أبواب الجحيم” كما جاء في الرسالة.
ورغم تغلغل نفوذ مثل تلك المراكز البحثية في صناعة القرار الأمريكي، فإن ذلك لا يمكن أن يؤثر على العلاقات بين الدوحة وواشنطن، وفق ما ذهب وزير الدفاع القطري خالد العطية، الذي أشار إلى أن العلاقات بين البلدين لا تحكمها تحركات مراكز بحثية تمول من دول أجنبية، بل هي علاقة تحالف إستراتيجي مبني على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
العطية في تصريحاته لـ”الجزيرة” كشف عن وجود أدلة استخباراتية وثقها رؤساء دول تثبت أنه كانت هناك نية لقيام بعض من دول الحصار بغزو عسكري لدولة قطر، وهو المخطط الذي تم إجهاضه مبكرًا، فما كان منهم إلا المقاطعة وفرض الحصار، الذي فشل في تحقيق أهدافه رغم دخوله العام الثالث.
وقد خلص الاستقصائي إلى أن الذريعة التي اختلقتها الدول الرباعية للأزمة الخليجية بدأت بقرصنة شبكة تليفزيون قطر ثم نشر أخبار كاذبة عبر آلاف الحسابات الوهمية والمضللة، كما أشار الباحث المتخصص في العلوم الإنسانية الرقمية مارك جونز الذي كشف أن الأمر لم يقتصر على اختراق الموقع الإخباري فحسب، بل وصل لخلق أشخاص وهميين لرسم الدعم الشعبي الكاذب للحرب، ما يعني أن ما حدث جزء من حملة ممنهجة كانت معدة سابقًا، وقد أعطى شخص ما الضوء الأخضر لانطلاقها.
تأكيد لما سبق
“رسائل سيتا” ليس التحقيق الأول من نوعه الذي يكشف ملامح خيوط المؤامرة، فهو حلقة واحدة في سلسلة طويلة من التقارير التي كشفت حجم المخطط الذي كان يعد له سلفًا قبل يونيو/حزيران 2017، بما يرجح السيناريو الذي يذهب إلى أن هناك أهدافًا أخرى وراء تلك الحملة.
في مايو/أيار الماضي كشف الصحفي والمدون الشهير زيد بنيامين، عن تمويل نظام محمد بن سلمان لحملة إلكترونية تستهدف تشويه صورة أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني مستندًا في ذلك إلى جيش الذباب الإلكتروني الذي يقوده سعود القحطاني، مستشار ولي العهد.
بنيامين وخلال لقاء له على “الجزيرة” أشار إلى أن الذباب الإلكتروني السعودي استخدم قرابة 50 ألف حساب على مواقع التواصل لتشويه صورة قطر، وذلك منذ بدء الأزمة الخليجية، لافتًا إلى أن هناك 10 ملايين سعودي على تويتر فقدوا ثقتهم في الإعلام السعودي وذيوله في المنطقة.
وكشف المدون إستراتيجيات جيش الذباب في إلهاء المواطن السعودي عن قضاياه المحورية التي تهم أموره في الداخل والخارج، على رأسها العزف على وتر “التريند” في محاولة لتفتيت حدة الانتقادات الموجهة لولي العهد بسبب سياساته الخاطئة التي كلفت المملكة مئات المليارات من الدولارات.
الباحث بجامعة حمد بن خليفة، مارك أوين جونز (المختص بشؤون الشرق الأوسط والدعاية الرقمية المزيفة بوسائل التواصل الاجتماعي العربي) أجرى بحثًا هو الآخر في هذا الشأن، توصل من خلاله إلى أن هناك 31 ألف حساب على تويتر شاركوا في حملة كاذبة ادعت حدوث انقلاب في قطر في الـ4 من مايو/أيار الماضي، وتابع “وجدت أن ألفًا ومئة حساب منهم إما حُذفوا وإما أوقفوا وإما غُيّرت أسماؤهم بعد انتهاء الحملة”.
حلقة جديدة من خيوط المؤامرة تكشفت أيضًا في يناير 2018 حين كشفت شبكة “إن بي سي” الأمريكية، أن وثائق شركة البيانات لحملة دونالد ترامب، وهي الشركة المتورطة في فضيحة التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، هي ذاتها الشركة التي استأجرتها الإمارات لنشر معلومات مفبركة لتشويه سمعة قطر.
التقرير أوضح أن الإمارات دفعت مبلغ 333 ألف دولار لصالح الشركة التي تحمل اسم “كامبريدج أناليتيكا”، بهدف تنظيم حملة على وسائل التواصل الاجتماعي، خلال العام 2017، من أجل تشويه سمعة قطر وربطها بالإرهاب، بجانب نشر إعلانات سلبية عن القطريين وفق العقد المبرم بين الشركة والمجلس الوطني للإعلام في الإمارات.
وتعود بداية تلك الحملة إلى يوليو 2017 حين أطلقت شركة “إكسيوس” الأمريكية للاستشارات والعلاقات العامة، التي تتخذ من أبو ظبي مقرًا إقليميًا لها، حملة دولية مدفوعة الثمن لتشويه صورة قطر، فيما كشف حساب “مارك العربي” على “تويتر” أن الشركة استعانت بشخصيات إسرائيلية لتنفيذ حملتها.
مخطط الغزو
في الأول من أغسطس 2018 كشف موقع “ذي إنترسبت” الأمريكي ملامح وخيوط المؤامرة السعودية الإماراتية لغزو قطر عسكريًا، وذلك خلال الأسابيع الأولى من الأزمة، غير أن مساعي وزير الخارجية الأمريكي آنذاك ريكس تيلرسون كانت العامل الأبرز في إثناء البلدين عن تفعيل مخططهما.
الموقع نقلًا عن مصادر استخبارتية في الخارجية الأمريكية، أشار إلى تدخل تيلرسون لوقف هذا المخطط السري، حيث قام حينها بعدة اتصالات مع مسؤوليين سعوديين، داعيًا وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس للاتصال بنظرائه في المملكة وتوضيح خطورة الإقدام على عمل عسكري من هذا النوع.
التقرير كشف عن استجابة الرياض لتلك الضغوط مخافة تأثيرها على مستقبل العلاقات مع الولايات المتحدة مستقبلًا، الأمر الذي أغضب محمد بن سلمان وحليفه الإماراتي ابن زايد، ما دفعهما إلى ممارسة نفوذهما بقوة لإقالة الرجل من منصبه، خاصة أنه كان يقود جهود وساطة لإنهاء الأزمة التي كان من الواضح أن الأميرين لا يريدان لها أن تنتهي تحقيقًا لمآرب أخرى.
وفي الأخير فإن تحقيق الجزيرة الذي جاء متناغمًا ومتسقًا مع حزمة التقارير المنشورة سابقًا، يكشف وبشكل قطاع أسباب التعنت الواضح من دول الحصار في التعاطي مع الأزمة، التي تتجاوز دائرة الاتهامات الموجهة للدوحة ورفضتها أكثر من مرة، الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات لدى الشارع العربي عن هذا الصلف غير المبرر في الوقت الذي تمد فيه تلك الدول يدها لدولة الاحتلال الإسرائيلي.