يتخذ العديد من صناع المحتوى الرقميين موقفًا رماديًا باهتًا تجاه السياسة، مرددين عبارات تفيد بأن ليس لديهم علاقة بالسياسة ولا شأن لهم بهذه المعمعة، على اعتبار أن مشاركاتهم على منصات التواصل الاجتماعي مبنية في الأساس على الشغف بتحقيق الذات والطموح والاستكشاف، وقد تكون في بعض الأحيان مُطاردة بشهوة الشهرة والمال. لكن، إن كان الأمر كذلك فعلًا، وبهذا القدر من البراءة والشفافية، ألا يدعو توجه بعض المدونين الرقميين للإمارات في هذا التوقيت إلى التشكيك في تلك الدوافع؟
فبالتزامن مع توقيع الإمارات اتفاق التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي في شهر سبتمبر/أيلول، انطلقت العديد من البرامج واللقاءات والفعاليات التي يقودها مدونو الفيديو مثل أنس وأصالة وباسل الحاج وجو حطاب، ما يُعيدنا إلى التساؤل من جديد عن المسؤولية الأخلاقية لهؤلاء، انطلاقًا من كونهم “مؤثرين” عرب ومن المفترض أن لديهم مبدأ أخلاقي ثابت تجاه القضية الفلسطينية.
إذ يساهم المحتوى الذي ينتجونه من الإمارات في هذا التوقيت على وجه التحديد في تهميش اتفاق التطبيع وإخماد أي حساسية تجاه هذا النشاط، عدا عن دوره في توجيه تركيز المتابعين نحو حملات ترفيهية فارغة أو أنشطة ناعمة تركز على محتوى غير سياسي، وذلك بدلًا من المقاطعة أو التخفيف على الأقل من المحتوى الذي يلمع صورة الإمارات ويُظهرها في صورة دولة الانفتاح والرخاء، ما يجعل هؤلاء المدونين أداةً من أدوات الإلهاء والتعتيم عن الدور الإماراتي في المنطقة.
يأتي هذا الشك أو الاستهجان أولًا من التوقيت وثانيًا من قلة المسؤولية والحس الأخلاقي لهذه الفئة، وثالثًا من مشاركتهم في نفس البرنامج الإمارتي “#ABtalks” الذي حل فيه مدون الفيديو نصير ياسين أو المعروف بـ”ناس ديلي” ضيفًا، وهو المدون الذي دعت حركة مقاطعة “إسرائيل” إلى مقاطعة برنامجه، موضحةً أنه يهدف لتوريط متابعيه في التطبيع مع “إسرائيل” والتغطية على جرائمها، كما طالبت بانسحاب المنضمين لـ”أكاديمية ناس” التي تضم إسرائيليين والممولة إماراتيًا من أكاديمية “نيو ميديا” التي أنشأها حاكم إمارة دبي، محمد بن راشد.
وهو ما اعتبرته الحركة تواطؤًا صريحًا “من النظام الإماراتي الاستبدادي في الجهود الإسرائيلية لغزو عقول شعوبنا وتلميع جرائم نظام الاستعمار الاستيطاني والأبارتهايد الإسرائيلي، فضلًا عن تسويق اتفاقية العار التي أبرمها النظام مع الاحتلال”، فقد صور ياسين مقطعًا يُظهر فيه الإمارات على أنها مثال للدولة الناجحة الصاعدة التي بدأت من الصفر ثم “وصلت إلى المريخ” من بين جميع دول الشرق الأوسط الذي يكرهه ويشعر بالسخط لكونه ينتمي إليه، بحسب قوله، داعيًا جمهوره إلى زيارتها ومتجاهلًا حقيقتها بكونها نظامًا قمعيًا.
حملات ترويجية مدروسة
المؤثرون ليسوا أسلوب التسويق الوحيد الذي تستخدمه الإمارات لتحسين صورتها، ففي عام 2014، أنشأ الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي مبادرة #MyDubai، ودعا المقيمين والزائرين للانضمام إليه في مشاركة الصور ومقاطع الفيديو والقصص على وسائل التواصل الاجتماعي وإظهار تجاربهم في دبي لصناعة “أول سيرة ذاتية في العالم لمدينة”، والقصد من ذلك، بحسب تعريف الصفحة الرسمية للمبادرة “الاحتفال بالحياة اليومية لشعوب ومجتمعات الإمارة”.
ومنذ ذاك الوقت، أنشأت الإمارات مجموعة متعددة من المبادرات كجزء من حملة أوسع لجذب المستثمرين وتنويع الاقتصاد، فقد عملت البلاد مع العديد من شركات العلاقات العامة لجلب المؤثرين في رحلات ترويجية مدفوعة التكاليف إلى الوجهات السياحية في الإمارات.
وفي أثناء فترة وباء كوفيد-19 أطلقت دائرة السياحة والتسويق التجاري بدبي نحو 3 حملات رقمية عالمية في محاولة للاحتفاظ بشعبية البلاد بين المسافرين والسياح الدوليين، فحملت الحملة الأولى عنوان #TillWeMeetAgain، وتبعها #WeWillSeeYouSoon، وآخرها #ReadyWhenYouAre، وبالنظر إلى كل ذلك، قد تبدو تلك الجهود طبيعية وضرورية للتنمية الاقتصادية، لكن هذه البرامج تستخدم لبناء صورة وسمعة البلاد في اتجاه معين، للتأثير على الرأي العام وفقًا لإستراتيجية محددة مسبقًا، وهي فرصة للمؤثرين الرقميين لتسمين جيوبهم بالأموال.
ولم يكن استخدام المؤثرين للترويج للسياحة في بلد ما بالأمر الجديد، لكن في حالة الإمارات، يعد هذا تكتيكًا جديدًا نسبيًا لرعاية صورة جديدة لدولة لديها سيطرة صارمة على وسائل الإعلام المحلية واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
لا سيما أن لديها أحد أعلى معدلات انتشار الهواتف المحمولة في المنطقة وشهية قوية للاستهلاك عبر الإنترنت، مع وجود 85% من جيل الألفية في الإمارات العربية المتحدة يتابعون مؤثرًا واحدًا على الأقل على وسائل التواصل الاجتماعي – ومع وجود منصات تشهد زيادة في الاستخدام على مستوى العالم – يعد الآن وقتًا مثاليًا للاستثمار بكثافة في العلاقات العامة والضغط والإعلان وحملات المؤثرين لتغيير المفاهيم في الخارج، لا سيما في أعقاب دورها في حرب اليمن، التي تصفها الأمم المتحدة بأنها أسوأ أزمة إنسانية في العالم.
جنود الإمارات الرقميين
منذ يونيو/حزيران 2019، طلبت دولة الإمارات العربية المتحدة من كل مقيم يربح ماليًا من نشر محتوى ترويجي على حسابات وسائل التواصل الاجتماعي الحصول على ترخيص مؤثر سنوي بقيمة 4000 دولار. تسمح الآلية للدولة بتنظيم المؤثرين الذين يكسبون ما يصل إلى 5000 دولار لكل منشور ذي علامة تجارية، وفي غضون شهر واحد كان لدى البلاد 1700 مؤثر مسجل.
ومع ذلك لا يحتاج السائحون المشاركون في الحملات التي ترعاها الدولة (state-sponsored campaigns) إلى ترخيص، رغم تشجيعهم بشدة على تضمين وسم #MyDubai عند نشر الصور أو مقاطع الفيديو الخاصة بإجازاتهم، وفي المقابل، تمنح الإمارات أولئك الذين ينشرون محتوى مرضيًا عن صورة البلاد رحلة سفر مع العائلة أو الأصدقاء مدفوعة الأجر.
ووفقًا لـGulf News، فإن 94% من المؤثرين في الإمارات يتقاضون رواتب تتراوح بين 1000 دولار و5000 دولار لكل منشور، في حين أن النسبة المتبقية البالغة 6%، قد يصل سعر المنشور الواحد إلى أكثر من 10.000 دولار، حيث يقود سوق دول مجلس التعاون الخليجي الشرق الأوسط بأكمله باعتباره أكثر الأسواق طلبًا على العلامات التجارية وكبار المؤثرين.
ينصب تركيز المدونين الرقميين على تعزيز صورة دبي بصفتها الوجهة السياحية الرائدة في العالم والمركز التجاري للرفاهية والهيبة والحداثة، وتصويرها على أنها واحدة من البلدان التي تجمع بين الفنادق الفاخرة والهندسة المعمارية الحديثة ومراكز التسوق العملاقة وغيرها من مظاهر الثروة والرفاهية، وبين الثقافة العربية الإسلامية والصحراء والجمال والأسواق الشعبية المزدحمة ذات الروائح الغنية والملونة من التوابل والعطور.
ويصرون على أن مقاطع الفيديو الخاصة بهم ليست سياسية، لكن السياقات والظروف السياسية المحيطة بتلك البلدان تشير إلى أن هؤلاء المدونين والمؤثرين يساعدون الأنظمة القمعية الوحشية في إعادة تشكيل روايتها للاستفادة من السياحة والاستثمار مع التحايل على الضغوط الدولية لإجراء إصلاحات أساسية في مجال حقوق الإنسان.
إذ قلة من الناس يسمعون عن المدافعين عن حقوق الإنسان المسجونين في دولة الإمارات العربية المتحدة أو برنامج المراقبة الإلكترونية المتطور الذي تم إنشاؤه بمساعدة جواسيس سابقين في وكالة الأمن القومي، فبحسب آدم كوغل، نائب المدير في هيومن رايتس ووتش: “لديها (الإمارات) سجل فظيع في مجال حقوق الإنسان وتقريبًا لا أحد يعرف عنه”.
كما يقول إياد البغدادي، ناشط فلسطيني في مجال حقوق الإنسان ومقيم سابق في الإمارات: “الرواية التي تتغذى بها الإمارات العربية المتحدة هي أنها أفضل دولة في العالم بفضل قادتها الحكماء”، حيث تتجنب منشورات وسائل التواصل الاجتماعي المنسقة بشدة أي ذكر لانتهاكات حقوق الإنسان أو أي انتقادات للنظام الحاكم.
فوفقًا لتقرير صادر عن منظمة العفو الدولية لعام 2019، عرّضت السلطات، لا سيما جهاز أمن الدولة، المعتقلين، بمن فيهم الأجانب للاعتقال والاحتجاز التعسفيين والتعذيب والاختفاء القسري، كما قيدت السلطات حرية التعبير وسجنت منتقدي الحكومة واحتجزتهم في ظروف قاسية.
كما استمرت النساء في مواجهة التمييز في القانون والممارسة، وظل العمال الوافدون مرتبطين بأصحاب العمل بموجب نظام الكفالة، ما جعلهم عرضة لانتهاكات العمل والاستغلال، عدا عن استمرارها في حرمان آلاف الأفراد الذين ولدوا داخل حدودها من الجنسية، ويضاف إلى ذلك كله، مشاركتها في قيادة التحالف في النزاع المسلح في اليمن، وهو تحالف متورط في جرائم حرب وانتهاكات جسيمة أخرى للقانون الدولي.
وذلك إلى جانب، دعمها الجيش الوطني الليبي الذي ارتكب انتهاكات خطيرة للقانون الدولي في ليبيا وتقديمها أسلحة للجيش الوطني الليبي، منتهكةّ بذلك قانون حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة.
ومع ذلك، لن نرى في محتوى المدونين الرقميين سوى صور ومقاطع عن السيارات الفارهة والمنتجعات السياحية والحياة الليلية الصاخبة في الإمارات، متجاهلين تمامًا الجانب المظلم للحياة في هذه البلدان، وانسحابها من صفوف الداعمين للقضية الفلسطينية بإعلانها التطبيع مع الكيان الإسرائيلي. وهي السياسة ذاتها التي اتبعتها السعودية وسوريا لتلميع صورهم عند الرأي العام، وهو ما تناولناه سابقًا في مادتي: حفلات في أمريكا برعاية تركي الفيصل لتلميع صورة السعودية، والـ”إنفلونسرز” في مهمة لتجميل وحشية أنظمة قمعية عربية.