ترجمة وتحرير نون بوست
عادة لا يتردد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قول الحقائق المزعجة أو المشاركة في المهام الصعبة، في العام الماضي أعلن أن الناتو “ميت دماغيًا”، مؤكدًا في كلمة ألقاها على السفراء الفرنسيين “أننا بصدد تجربة انتهاء الهيمنة الغربية على العالم”، وهو الآن ملتزم بإنجاز تحدٍ صعب للغاية: إنقاذ لبنان من الانهيار التام.
في يوم السبت تلقت مبادرة ماكرون صفعة عندما أعلن رئيس الوزراء المكلف مصطفى أديب استقالته بعد فشله في تشكيل الحكومة، وفي يوم الأحد كان ماكرون الغاضب يلوم قادة لبنان على تقديم مصالحهم الخاصة على مصالح البلاد وتعهد بالمضي قدمًا في الجهود المبذولة لمنع الفوضى.
عادات قديمة
بعد يومين فقط من الانفجار الضخم الذي ضرب ميناء بيروت يوم 4 من أغسطس/آب كان ماكرون أول قائد عالمي يزور العاصمة اللبنانية، مقدمًا التضامن والعزاء لشعبها المصدوم، حتى إن العديد من التقارير الإخبارية المحلية قالت إنه أظهر تعاطفًا مع سكان بيروت أكثر مما فعله أبرز القادة السياسيين اللبنانيين.
في 1 من سبتمبر/أيلول عندما عاد ماكرون إلى بيروت دعا الجماعات السياسية الرئيسية في البلاد لتبني وتنفيذ الإصلاحات العاجلة والضرورية لإنقاذ لبنان من الكارثة الاقتصادية التي تسبب بها عقود من سوء الحكم والفساد لنفس هذه الكتل السياسية.
حصل السياسيون اللبنانيون على مهلة أسبوعين لتشكيل حكومة جديدة، وفي 31 من أغسطس/آب عين الرئيس ميشال عون مصطفى أديب رئيسًا للوزراء، لكن لسوء الحظ في يوم 15 من سبتمبر/أيلول انتهت مهلة ماكرون وعُرض تمديدها.
معظم روؤساء الوزراء الذين تولوا مناصبهم خلال العقد الماضي كانوا في تلك المناصب بسبب موافقة حزب الله جزئيًا
بعد شهر من تعيين أديب ما زالت الكتل السياسية اللبنانية تفشل في الوفاء بوعودها لتشكيل حكومة جديدة وكسر الجمود السياسي في البلد المأزوم، واجهت المحادثات عقبة من عدة مشكلات تتضمن من يجب أن يكون وزير المالية القادم الذي سيكون توقيعه حاسمًا في أي إصلاحات اقتصادية قادمة.
لقد سادت العادات القديمة للنظام الطائفي اللبناني مرة أخرى التي يقتسم فيها مجموعة من القادة الطائفيين الغنائم بين بعضهم بعض، بالنسبة لهؤلاء القادة فإن أي تغيير أو تدوير للوزارات الرئيسية من شأنه أن يخل بالعادات القديمة لاقتسام الوزارات وفقًا للنصيب الطائفي، مما يهدد سيطرة الأحزاب على السلطة، باختصار، تقاوم الأحزاب السياسية اللبنانية الكبرى التغيير.
واقع مهين
استُقبل ماكرون بالترحيب والابتسام، لكن بعد رحيله واصلت الكتل السياسية التصارع على السلطة، في الوقت نفسه ازدادت الأزمة الاقتصادية سوءًا وتصاعدت الجريمة.
لكن المرء يتساءل عن المنطق من أن نفس الكتل السياسية المسؤولة عن النهب الممنهج للبنان منذ عقود، تصبح مكلفة ويُوثق بها لإصلاح وإنقاذ البلاد؟
حتى عام 2005 كانت غالبية الجماعات السياسية متورطة في سوء إدارة موارد البلاد تحت الوصاية السورية، وفي 2005 عندما قتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري تراجعت القوات السورية عن لبنان في أعقاب احتجاجات ضخمة.
أدركت حركة “حزب الله” أنها حلت محل سوريا في ممارسة حق الفيتو فيما يتعلق بعملية اتخاذ القرار، لذا فإن معظم روؤساء الوزراء الذين تولوا مناصبهم خلال العقد الماضي كانوا في تلك المناصب بسبب موافقة حزب الله جزئيًا.

بعد انتهاء الحرب الأهلية في التسعينيات وفي أثناء ولاية رفيق الحريري، كانت الترتيبات بسيطة للغاية: يمكن للسياسيين وأمراء الحرب السابقين إدارة الاقتصاد شريطة أن لا يعترضوا أسلحة “حزب الله”.
عند مخاطبة زعماء الغرب يلوم القادة اللبنانيون سواء سنة أم مسيحيين أم دروز “حزب الله” بسبب قبضته القوية على السلطة، ومع ذلك فإنهم يُسقطون عمدًا من النقاش أنهم يشاركون “حزب الله” السلطة.
الغريب أنه عند تشكيل اتفاقية مشاركة السلطة في 2005، كان حزب الله يفضل دائمًا التعامل مع القائد الرئيسي – وفقًا لنتائج الانتخابات – لكل مجتمع طائفي، والذي كان جبران باسيل عن التيار الوطني الحر للموارنة، ويعد الحريري ممثلًا وحيدًا للسنة في لبنان ووليد جنبلاط للدروز.
لم يخترع “حزب الله” هذا النظام الطائفي في الحقيقة لكنه باختياره العمل مع هؤلاء القادة، ساهم في بقاء هذا النظام بطريقة جذرية، وبالتالي منع ظهور قوى وقادة سياسيين جدد، لسوء الحظ فإن الرئيس الفرنسي يقوم بالأمر نفسه عندما اختار التشاور مع نفس القادة كما لو أنهم الممثل الوحيد للمجتمع بأكمله بينما فشل في الاستماع للأصوات المستقلة الأخرى.
سيكون أفضل رهان لماكرون بين الجماهير اللبنانية الغاضبة وليس البرلمانيين، بعد احتجاجات 17 من أكتوبر/تشرين الأول أصبح إفلاس البلاد مؤكدًا للشعب اللبناني بينما تجمدت مدخرات حياتهم في أفضل الحالات أو سُرقت في أسوأها، وعندما تؤدي عقود من الإهمال إلى انفجار الميناء فإن الناس يشعرون بالسخط.
يجب أن يتم النقاش أمام بث مباشر للسماح للمواطنين اللبنانيين برؤية من سيكون مسؤولًا عن حجب الإصلاحات ودفع لبنان للانهيار
يجب أن يدرك القادة اللبنانيون أن وقت الحساب قد يكون قريبًا، لذا بدلًا من إقامة الصفقات مع المشتبه بهم دائمًا، يجب أن يضع ماكرون في اعتباره على الأقل اتباع طريق بديل جريء وغير متوقع.
خريطة طريق جذرية
قد يبدو الحل مثل خريطة طريق جذرية لكنه الطريق الوحيد لإنقاذ ما تبقى من الدولة اللبنانية، يجب أن لا يكون رئيس الوزراء الجيد نتاج مشاورات بين الكتل السياسية الرئيسية والرئيس، بدلًا من ذلك يجب أن يختاره الرئيس من ضمن قائمة من أعضاء البرلمان اللبناني المستقلين الذين لا ينضمون لأي كتلة سياسية، وقبل ذلك له ليسوا جزءًا من النخبة المسؤولة عن هذا الفساد.
أما أعضاء مجلس الوزراء فيجب أن يختارهم رئيس الوزراء فقط ويجب أن لا يكونوا مخلصين لأي أجندة سياسية أو طائفية، إن معيار الاختيار يجب أن يكون وفقًا لأمانتهم ومهاراتهم وأهليتهم وليس ولاءهم السياسي أو الطائفي.
يجب أن تتفق الحكومة الجديدة على مجموعة جرئية من الإصلاحات الجذرية غير المسبوقة بما في ذلك تحقيق دولي قضائي في حادث انفجار الميناء والفحص المستقل الشامل للميزانية العمومية للبنك للبنك المركزي والوزارات والبنوك الخاصة للتحقق من المسؤولية عن الانهيار المالي اللبناني والنهب واسع النطاق.
لا بد من عرض هذه الحزمة على البرلمان للموافقة عليها كعرض متكامل أو رفضها كلها، ويجب أن يتم النقاش أمام بث مباشر للسماح للمواطنين اللبنانيين برؤية من سيكون مسؤولًا عن حجب الإصلاحات ودفع لبنان للانهيار.
إذا فشلت الكتل السياسية في عدم منح التصويت على الثقة أو تأمين النصاب القانوني لعقد المجلس، فإن الانتخابات المبكرة يجب أن تكون المطلب التالي، وإذا لم يكن ذلك ممكنًا فلا بد من التشجيع على فرض عقوبات دولية ضد الكتل السياسية في كل المنتديات الدولية والسماح للمساعدات الإنسانية فقط بالوصول إلى لبنان وتوزيعها من خلال وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الموثوق بها، قد يبدو ذلك حلًا جذريًا للغاية لكنه قد يكون الطريق الوحيد للأسف لإنقاذ لبنان.
المصدر: ميدل إيست آي