تحتضن دول شمال أوروبا، أقليات عرقية عديدة منها قومية “سامي” أو ما يعرف أيضًا بـ”اللابيون”، وهم من البدو الرحل في شمال القارة العجوز ينتقلون مع الرنة من الساحل إلى الجبال خلال العام، ويتبعون دورة حياتها، فهي تمثل طريقة خاصة للحياة في ثقافتهم.
في هذا التقرير الجديد لنون بوست ضمن ملف “حكايا الشعوب”، سنتطرق لهذه القومية القطبية التي اختزلت حياتها في “الرنة” وعانت الكثير من أشكال الاضطهاد العرقي في الماضي، بهدف المحافظة على تراثها الغني.
يفترشون الجليد ويلتحفون السماء
موطن “قومية سامي” الأصلي، عند المنطقة الشمالية في عدد من دول شمال أوروبا، التي تعرف باسم “لابلاند”، وتمتد هذه المنطقة لتشمل أجزاءً من شمال النرويج والسويد وفنلندا وروسيا وشبه جزيرة كولا التابعة لأوبلاست مورمانسك الروسية.
منطقة نائية تقع في الدائرة القطبية الشمالية، أرض قاحلة فيها أشجار “تنوب” صغيرة، تغمرها ثلوجٌ لا تنتهي طيلة العام تقريبًا، وبرد قارس يصل إلى درجة التجمد في أغلب شهور العام، وتجوبها شخصية “سانتا كلوز” (بابا نويل) بزيها الشتوي المعروف.
منذ بداية القرن التاسع عشر، بدأت النرويج والسويد في تأكيد السيادة بقوة أكبر على الشمال، واستهدفت قومية السامي بسياسات تهدف إلى الاستيعاب القسري لهم
يُكتب اسمهم المحلي أحيانًا: “سامي” أو “ساميس” أو “ساميس” أو حتى “سامس”، يوجد منهم نحو 45 ألف شخص في النرويج و20 ألفًا في السويد و10 آلاف في فنلندا و3 آلاف في روسيا، معظمهم الآن ثنائي اللغة، لكن تبقى هذه الأعداد غير رسمية.
يعيش أغلب المنتمين لهذه القومية، في مناخات قاسية من البرد القاتل، فيفترشون الجليد ويلتحفون السماء، ويعدون في الأصل من البدو، فهم يعيشون في الخيام خلال فصل الصيف وفي الأكواخ المصنوعة من الجف (خث) خلال فصل الشتاء.
معاناة كبيرة
تعرض شعب السامي لقرون عدة، للتمييز والإساءة من الثقافات السائدة في المنطقة التي تدعي حيازة أراضيهم، فتاريخيًا عاش الإسكندنافيون وأسلافهم في المقام الأول في الجنوب، فيما عاش شعب السامي في الشمال، لذلك كان الاتصال بين بينهما قليلًا نسبيًا، ما جعل علاقتهم مع الدول الإسكندنافية معقدة، فشعوب هذه الدول التي تتحدث اللغات الإسكندنافية حاولت طمس ثقافتهم.
منذ بداية القرن التاسع عشر، بدأت النرويج والسويد في تأكيد السيادة بقوة أكبر على الشمال، واستهدفتا قومية السامي بسياسات تهدف إلى الاستيعاب القسري لهم، على اعتبار أن السامي شعب “متخلف وبدائي بحاجة إلى حضارة”.
خلال القرن التاسع عشر، ازداد الضغط على الساميين، خاصة من النرويجيين، وارتفعت حملات التنصير هناك، كما تعرضت لغتهم وطريقة حياتهم التقليدية لضغوط متزايدة من التطبيع الثقافي القسري (يُحظر استخدام لغات سامي في المدارس والحياة العامة)، إلى جانب تعرضهم للتعقيم القسري للحد من نسلهم.
تشترط دول المنطقة على الساميين إثبات ملكية أراضيهم للاعتراف بحقوقهم هناك، وهي فكرة تتعارض وتتناقض مع أسلوب حياة هذا الشعب التقليدي في رعي الرنة، وقد سمح هذا لحكومات المنطقة بأخذ أراضي “السامي” دون تعويض.
كما شجعت دول المنطقة، الشعب الإسكندنافي على الانتقال إلى المناطق الشمالية من خلال حوافز مثل حقوق الأرض والمياه والإعفاءات الضريبية والإعفاءات العسكرية، وخصصت لهم أفضل الأراضي وأكثرها فائدة.
نتيجة ذلك تعرضت النرويج لانتقادات دولية بسبب سياسة إضفاء الطابع النرويجي على الساميين والتمييز ضدهم، نفس الشيء بالنسبة للسويد حيث واجهت انتقادات مماثلة، وفي فنلندا أيضًا حيث يعاني أطفال السامي من التمييز والعنصرية.
رعي الرنة البدوي
شعب سامي وقطعان الرنة، قصة كبيرة، فقد كان الساميون في الأصل أناسًا يعيشون على صيد الرنة في البرية ثم تحولوا إلى رعي الرنة شبه المنزلي بين القرن التاسع والقرن السابع عشر تحت الضغط الذي مارسته غزوات الأوروبيين الأولى لأراضيهم.
يعتبر رعي الرنة أكثر من مجرد مهنة، فهو أسلوب حياة، من خلاله يقاس الوقت وتُعرف الفصول وتنظم مسارات الهجرة لشعب السامي، ومن الصعب تخيل حياة سامي دون الرنة، فهي تمنحهم القيم والمبادئ ورمز كفاحهم ونضالهم.
قبل القرن السابع عشر، كان شعب سامي قادرًا على العيش على الرنة البرية من أجل الملابس واللحوم والنقل، كانت احتياجاتهم بسيطة ولم يأخذوا إلا ما يحتاجونه من الطبيعة، وقد كانوا يكملون نظامهم الغذائي بصيد الطيور والأسماك وجمع التوت خلال فصل الصيف.
صحيح أن قومية “سامي” أمة بلا حدود، لكن ذلك لا يعني أنها لا تملك تاريخًا وثقافةً ولغةً عُرفت واشتُهرت بها
خضع أسلوب حياة “سامي” لتغييرات كبيرة خلال القرن السابع عشر، فقد كانت دول المنطقة الأربعة تسعى إلى ضمهم إليها كجزء من سكانها للمساعدة في بناء دولهم، فتم فرض ضرائب على شعب سامي من دولة واحدة على الأقل وفي بعض الحالات من عدة دول.
لم يكن لدى سامي نقود ولذلك دفعوا الضرائب على شكل جلود ولحوم الرنة، ثم احتاج الساميون إلى أيائل إضافية لدفع الضرائب، فكانت هذه بداية رعي الرنة، بسبب الضرائب، زادت حاجة سامي إلى الرنة بشكل كبير.
لكن جدير بالذكر، أن أفراد قومية سامي لم يصبحوا جميعهم من رعاة الرنة في المنازل، فقد اختار عدد منهم الاعتماد على الهجرة إلى جانب الرنة، ويتبع الرعاة نفس مسارات الهجرة من سنة إلى أخرى وقد كان لكل أسرة مناطق مرعى خاصة بها ولكن كل الأرض مشتركة.
عاش رعاة الرنة من قومية سامي القطبية في خيام أو أكواخ عشبية وهاجروا مع قطعانهم في وحدات مكونة من خمس أو ست عائلات، مكملين نظامهم الغذائي على طول الطريق بالصيد وصيد الأسماك.
ويحترم الرعاة مناطق بعضهم البعض، لكن إذا كانت الظروف سيئة في سنوات معينة، فمن المفهوم أن القطعان قد تضطر إلى العثور على مناطق مرعى أخرى قد تكون مناطق تقليدية أخرى للعائلات.
يتطلب راعي الرنة مهارات عديدة، أولًا وقبل كل شيء، يجب أن يعرف راعي الرنة قطيعه، الذي يأتي من المراقبة الدقيقة على مدار العام، ويجب أن يعرف أيضًا سلوك القطيع وحركته وأن يفهم كيف تؤثر الرياح والجغرافيا والمناخ على سلوكه وحركته.
خلال موسم الهجرة، قد تعبر الحيوانات حدود الدول عدة مرات، حيث تتوافق المراعي الصيفية مع سهول النرويج، فيما تتوافق المراعي الشتوية مع سهول الأراضي المنخفضة في السويد أو فنلندا، وخلال عملية الهجرة تُترك الرنة حرة في المساحات البرية الكبيرة في لابلاند، بين مارس وأبريل، وتغادر الإناث الحوامل السهل للانضمام إلى مراعيها في الجبال الإسكندنافية.
وتعتبر الفترة بين أبريل إلى مايو فترة الولادة، فتختار الأمهات المروج الربيعية، حيث يذوب الثلج مبكرًا، وذلك لإثراء نظامهم الغذائي بأوراق ونباتات عشبية مختلفة، أما في شهري يونيو ويوليو – عندما يصبح البعوض غزيرًا ودرجات الحرارة مرتفعة جدًا – فتتسلق الرنة أعلى الجبال.
في منتصف الصيف، تبدأ الحيوانات في تخزين مخزون الدهون، ثم تبدأ هجرة العودة إلى السهل، ويعتبر الخريف الفصل المناسب للذكور، وفيه أيضًا يجمع الرعاة قطعانهم ويضعونهم في أقفاص ويختارون تلك المراد ذبحها واستهلاكها.
ويتفرغ الآن عدد مهم من الساميين لرعي الرنة، ولأسباب تقليدية وبيئية وثقافية وسياسية، فإن رعي الرنة محجوز قانونًا للشعوب السامية فقط في بعض مناطق بلدان الشمال الأوروبي.
للزواج طقوس غريبة
صحيح أن قومية “سامي” أمة بلا حدود، لكن ذلك لا يعني أنها لا تملك تاريخًا وثقافةً ولغةً عُرفت واشتُهرت بها، ففي أقصى شمال أوروبا، تعيش الأصوات القديمة وتقاليد الحرف اليدوية الفريدة ولغة معينة جنبًا إلى جنب مع التكنولوجيا الحديثة.
عادة ما يتم الزواج الفعلي في فصل الشتاء، عندما تتطلب قطعان الرنة أقل قدر من الرعاية ويكون التواصل أسهل
سنتحدث هنا عن بعض هذه التقاليد المتعلقة بالزواج خصوصًا، حيث يلعب الزواج دورًا مهمًا في المجتمع السامي، خاصة أن المتزوجين يتمتعون بامتيازات اجتماعية مهمة مثل الحق في استخدام مراعي معينة أو الاستفادة من التضامن بين الرعاة.
في البداية، تتم مرحلة ما يسمى بالمحكمة بمبادرة من الأولاد الذين يقدمون المجوهرات (خواتم ذهبية أو فضية أو دبابيس ذهبية) للفتيات الصغيرات اللائي يرغبن في ذلك، ويمكن لكل فتى أن يحاكم أكثر من فتاة، ويمكن أن يتودد أكثر من فتى لكل فتاة، لكن يجب عليها إعادة الهدايا إلى الفتية المرفوضين بعد أن تقرر اختيارها.
هناك طريقة أخرى للمغازلة هي أن يسرق الأولاد قفازات الفتاة الصغيرة التي يرغبون بها، وهذه الأخيرة لديها إمكانية جعل المهمة شاقة إلى حد ما، فالعائلة تسعى إلى أن يكون لديها صهر ماهر في رعي الرنة حتى إن كان فقيرًا.
عادة ما يتم الزواج الفعلي في فصل الشتاء، عندما تتطلب قطعان الرنة أقل قدر من الرعاية ويكون التواصل أسهل، حينها يذهب العريس ورفاقه، وهم يرتدون أرقى ملابسهم ويرافقهم أرقى أنواع الرنة، إلى منزل الفتاة الصغير المليء بالكحول.
يتم إيقاف الزلاجة أقرب ما يمكن من منزل الفتاة، بعد أن يطوف عليها ثلاث مرات، في مواجهة الشمس، حتى تتفاوض العائلات بشأن الجوانب العملية للزواج، ثم يذهب الشاب للانضمام إلى الفتاة الصغيرة، يسلم الزوجان على بعضهما بعض بقبلة وفرك أنوف.
نأمل عزيزي القارئ، أن نكون قدّ وفقنا في هذا التقرير الذي بين يديك، في تقديم لمحة بسيطة عن شعب “سامي” ذي التراث الغني، وأن تكون قد استمعت معانا في هذه الرحلة الممتعة التي ستتواصل مع شعوب وقوميات أخرى في مناطق مختلفة من العالم ضمن ملف “حكايا الشعوب”.