تتواصل المعارك الدامية في ناغورني قره باغ بين القوات الأذرية والانفصاليين الأرمن، لليوم الثالث على التوالي، مخلفة بحسب الإحصاءات الرسمية 95 قتيلًا حتى كتابة هذه السطور، منهم 84 عسكريًا أرمينيًا، 26 منهم قتلوا أمس الإثنين، فيما سقط 11 مدنيًا، 9 من أذربيجان واثنان من الأرمن، وتذهب المؤشرات إلى ارتفاع هذا العدد ساعة تلو الأخرى.
النزاع والتوتر الحدودي بين أذربيجان وأرمينيا لم يكن مفاجأة للمتابعين لخريطة الصراع وتاريخه في هذه المنطقة الحساسة، الذي بدأت أولى جولاته عام 1992 حين احتل الأرمن نحو 20% من الأراضي الأذربيجانية، الأمر الذي قوبل بتنديد دولي أسفر عن مطالبة مجلس الأمن الدولي بإنهاء الاحتلال فورًا دون قيد أو شرط.
لم تمتثل أرمينيا للقرارات الدولية، حتى قرار وقف إطلاق النار الموقع في مايو/أيار 1994 ضربت به عرض الحائط، لتعاود بين الحين والآخر التحرش بجارتها عبر هجمات عسكرية متباعدة يسقط بسببها عشرات القتلى والمصابين، فيما يتلزم المجتمع الدولي بالإدانة والشجب دون أي تحرك رسمي.
وتعد منطقة قزوين التي تقع فيها كل من أذربيجان وإقليم “قره باغ” أحد أهم المناطق الإستراتيجية في الإقليم، كما أنها باب مهم لعبور الطاقة من آسيا إلى أوروبا، وقد ساعدها هذا الموقع المهم في أن أوقعها ببؤرة اهتمام القوى الدولية، على رأسها تركيا وإيران وروسيا و”إسرائيل”.
تصاعد النزاع الأذري الأرمني بين الوقت والآخر في هذه المنطقة الملتهبة أفرز خريطة جديدة من الاصطفافات الدولية، حيث يسعى كل طرف للحفاظ على مصالحه التي قد تتأثر بهذا النزاع أو البحث عن مصالح ومكتسبات جديدة حال دخول هذا الصراع نفقًا جديدًا من التصعيد.
الاشتباكات الدائرة على مدار الأيام الثلاث الماضية حفزت الجهود الدبلوماسية في محاولة تخفيف التوتر، حيث دعا الاتحاد الأوروبي إلى وقف إطلاق النار فيما حثت الصين على ضبط النفس من الطرفين، أما إيران فحذرت من سقوط أي قذائف بالخطأ قرب حدودها.
ودوليًا.. فمن المقرر أن يعقد مجلس الأمن الدولي اليوم اجتماعًا طارئًا بناءً على طلب بعض دول أوروبا، لمناقشة التصاعد في المواجهات، سعيًا لحلحلة الأزمة قبل المزيد من التصعيد الذي ينذر بنشوب حرب شاملة في ظل تعدد الأطراف الحليفة لطرفي الصراع.
حالة من الترقب تخيم على الأجواء تحسبًا لما يمكن أن تسفر عنه الساعات والأيام القادمة في ظل هذا الصراع المستمد لسنوات طويلة دون تحريك لمياه التصعيد المجمدة رغم كرات الدبلوماسية التي تلقى بها حينًا بعد حين، ليبقى السؤال: من المستفيد من هذا التأجيج بين الحين والآخر؟ وما السيناريوهات المتوقعة لمستقبل تلك المواجهات؟
دوافع التصعيد
لا أحد يعرف على وجه الدقة لماذا أعادت القوات الأرمينية الاعتداء على الأراضي الأذربيجانية في الـ27 من سبتمبر/أيلول الحاليّ، حين قصفت مناطق عسكرية تتبع الجيش الأذري، ما دفع الأخير للرد بشن عملية عسكرية في إقليم “قره باغ”.
التصعيد المرافق لهذا الاعتداء يعد الأكبر منذ وقف إطلاق النار في الحرب التي وقعت بين البلدين في تسعينيات القرن الماضي، فالقتال الآن بات على جميع الأصعدة، وتداخلت فيه قوى عدة، فيما تصاعد النزاع رأسيًا في ظل الخطوات التي قفزها الجانبان في مجال التسليح، وفق ما ذهبت المحللة المختصة بمنطقة جنوب القوقاز في مجموعة الأزمات الدولية، أوليسيا فارتانيان.
وفي محاولة لتفسير أسباب هذا التصعيد غير المبرر كما يرى البعض، أرجع رئيس أكاديمية الجمارك الحكومية الأذربيجانية، آراز أسلانلي، مدير مركز القوقاز للعلاقات الدولية والبحوث الإستراتيجية، هذا الاعتداء إلى رغبة أرمينيا في “التخلص من النتائج التي تمخضت عنها حرب أبريل/نيسان 2016، وإزالة الآثار النفسية السيئة التي نجمت عنها، وعكس الصراع السياسي الداخلي الموجود بداخلها”.
أسلانلي في مقاله المنشور على موقع “الأناضول” لفت أن الحكومة الأرمينية تسعى إلى لفت الأنظار بعيدًا عن أزماتها الداخلية المتصاعدة التي تسببت في زيادة معدلات الاحتقان الشعبي، هذا بجانب المشاكل التي تواجهها بسبب سياستها الخارجية حيال بعض الملفات.
وفي الإطار ذاته ذهب إلى أن النمو الذي تشهده الجارة أذربيجان على المستوى الاقتصادي والعسكري أثار غيرة وحفيظة وقلق أرمينيا التي تسعى جاهدة لإجهاض هذا التطور من خلال الزج بالبلاد في أتون حرب تعلم الحكومة الأرمينية جيدًا وقوف قوى دولية بجوارها فيها وعلى رأسها روسيا التي تدعمها عسكريًا بشكل كبير.
المستفيدون من تأجيج الصراع
اقتراب النزاع من خط أنابيب القوقاز المغذي لخط “تاناب” الذي ينقل الغاز من أذربيجان إلى تركيا، في منطقة “توفوز”، أثار الكثير من علامات الاستفهام بشأن مساعي أطراف محددة لتأجيج الوضع لحسابات أخرى، لا سيما أن هذا التصاعد تزامن مع فشل تركيا وروسيا في التوصل إلى اتفاق بشأن توريد الغاز إلى تركيا بأسعار مخفضة عما كانت عليه في السابق، وذلك خلال جولة المفاوضات التي جرت في أبريل/نيسان الماضي بين أنقرة وموسكو.
فشل تلك الجولة وعدم التوصل إلى اتفاق يرضي الطرفين ساهم بشكل كبير في تعزيز خطوات تركيا تجاه أذربيجان كبديل رئيسي عن روسيا، ولا شك أن تغير كهذا من شأنه أن يزيد من مخاوف روسيا وفقدانها لمكانتها في سوق الطاقة الإقليمي بصفة عامة والتركي على وجه الخصوص.
وعليه ربما ترى موسكو في تأجيج هذا الصراع في الوقت الحاليّ ورقة مهمة من الممكن استخدامها من أجل الضغط على المصالح الأوروبية والتركية فيما يتعلق بالإشراف على طرق إمداد وخط أنابيب الغاز الواصلة بين أذربيجان وأوروبا عن طريق تركيا من جانب، أو إثناء الأخيرة عن عدم ترك الغاز الروسي كمصدر أساسي للطاقة لديها.
تشعر موسكو بالقلق من تحول أذربيجان إلى مورد رئيسي للغاز والنفط لدول العالم لا سيما أوروبا وتركيا، كون هذا التموضع الجديد للدولة المسلمة يؤثر سلبًا على حصة ومكانة روسيا في سوق الطاقة العالمي
استمراء الروس لهذا الوضع الملتهب يرجع إلى عام 2016 حين قدمت قرضًا لأرمينيا من أجل شراء أسلحة تساهم في زيادة التفوق الأرميني على أذربيجان، وهي الخطوة التي فسرت وقتها بأنها رغبة ملحة في تعزيز الموقف العسكري الأرميني في مواجهة الأذربيجيين وحلفائهم الأتراك.
وفي ضوء ما سبق فليس من المستبعد أن تدفع روسيا أرمينيا إلى التصعيد العسكري في منطقة شبكة أنابيب الغاز، وذلك بغية التأثير على قرار أنقرة ودفعها إلى الارتكان للغاز الروسي ضمن المفاوضات المستمرة بشأن تجديد عقود توريد الغاز بين البلدين التي تنتهي مع حلول عام 2021.
ومن ناحية أخرى، تشعر موسكو بالقلق من تحول أذربيجان إلى مورد رئيسي للغاز والنفط لدول العالم لا سيما أوروبا وتركيا، كون هذا التموضع الجديد للدولة المسلمة يؤثر سلبًا على حصة ومكانة روسيا في سوق الطاقة العالمي، لذا قد يفكر الروس في تأجيج الصراع لإشغال أذربيجان عن مخططات التنمية لديها.
إيران هي الأخرى تقترب من خط الأزمة، كونها تمتلك علاقات وشراكات قوية مع الأرمن، ورغم خلفيتها الإسلامية الشيعية المشتركة مع أذربيجان، لكن ليس لطهران عمومًا أي تضامن خاص مع هذا البلد، وفي الوقت الذي تدعي فيه الحياد بين الحين والآخر، فإن الممارسات على أرض الواقع تعكس غير ذلك، حيث الميل نحو أرمينيا وتفضيلها على أذربيجان.
من مصلحة إيران إشعال الموقف بين الجارتين، اعتقادًا أن هذا التطور ربما يساهم في الضغط على أذربيجان لضبط نشاطها في سوق الطاقة، وهو ما يحمل تهديدًا صريحًا بالنسبة إلى أوروبا وبالتالي التأثير على موقفها من العقوبات الأمريكية، ومن ناحية أخرى فإن إضعاف أذربيجان هدف إيراني من الطراز الأول، حتى لا تشجع الأقلية الأذرية في إيران على المطالبة بمزيد من الحقوق.
ومن ثم فإن الضرورة تستوجب التقارب بين البلدين، فإيران في حاجة إلى أرمينيا لتوفير ممر بديل للنقل إلى روسيا وأوروبا، وفي المقابل فإن الأرمن بدورهم يواجهون انسدادًا متواصلًا في طرق التجارة من جانب أذربيجان وتركيا، وعليه ليس من المستبعد لجوء طهران إلى تقديم دعم عسكري لأرمينيا في مواجهة أذربيجان تحقيقًا للأهداف سالفة الذكر.
مشكلة قرة باغ تكمن في أنها ورقة مهمة للروس من أجل الحفاظ على مصالحهم في القوقاز، وعليه فإن موسكو ليس من مصلحتها إنهاء تلك الأزمة بشكل كامل، فسياسة “اللاحرب واللاسلام” هي الصيغة الأكثر تحقيقًا لأهداف روسيا في تلك المنطقة
أما على الجانب التركي فتعد أنقرة الدولة الوحيدة التي أعلنت موقفها بوضوح من هذا النزاع، حيث كشفت عن دعمها الكامل لأذربيجان ووقوفها إلى جانب جارتها لاستعادة أراضيها المحتلة، وذلك لأسباب تاريخية ودينية وعرقية واقتصادية، مقارنة ببقية الأطراف التي تعلن حيادها في هذا النزاع إعلاميًا، بينما من تحت الطاولة، تدعم هذا الطرف أو ذاك.
تركيا تعتمد على أذربيجان كمصدر رئيسي للطاقة خاصة بعد تقليل اعتمادها على الغاز الروسي إلى قرابة 42%، بعد أن كانت تستورد 58% من احتياجاتها من الغاز من روسيا حتى عام 2015 ، فيما دشنت مشروع وصل خط غاز “تاناب” القادم من أذربيجان بخط غاز “تاب” قرب الحدود التركية الأوروبية عام 2019 ليصبح أحد أهم الشرايين المهمة لتغذية أسواق الطاقة في أوروبا بالغاز الطبيعي.
علاوة على حزمة المشروعات المشتركة التي تم إبرامها بين الجانبين، أهمها خط نقل الطاقة “باكو-جهان”، بالإضافة إلى خط السكة الحديدية (باكو-فليكس-قارص)، وهو ما يجعل أي استهداف لأذربيجان سيضر بالمصالح التركية، هذا بخلاف التعاون الدفاعي الثنائي بين البلدين الذي يتضمن التدريب العسكري لأفراد أذربيجانيين في المؤسسات العسكرية التركية، بجانب اتفاق “الشراكة الإستراتيجية” الذي ينص صراحة على أن البلدين سيساعدان بعضهما بعضًا إذا طالب أحدهما بحقه في الدفاع عن النفس بموجب المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة.
لا حرب لا سلام
القراءة الواقعية للصراع في ظل التصعيد الأخير يضع العديد من السيناريوهات لما يمكن أن يكون عليه الوضع مستقبلًا، أبرزها سيناريو (لاحرب لا سلام) وهو السيناريو التقليدي الذي ظل عليه النزاع بين البلدين منذ التسعينيات وحتى اليوم، حيث التأرجح بين الحين والآخر على أوتار المد والجذر في منسوب العلاقة.
مشكلة قرة باغ تكمن في أنها ورقة مهمة للروس من أجل الحفاظ على مصالحهم في القوقاز، وعليه فإن موسكو ليس من مصلحتها إنهاء تلك الأزمة بشكل كامل، فسياسة “اللاحرب واللاسلام” هي الصيغة الأكثر تحقيقًا لأهداف روسيا في تلك المنطقة الإستراتيجية من خريطة الطاقة العالمية.
الحكومة الروسية تعلم جيدًا أن تفوق أي من طرفي الصراع على حساب الآخر بشكل كبير يهدد نفوذها ومصالحها، ومن ثم ترغب في إبقاء المتصارعين في حالة وهن حتى إن بدا للآخر دعمها للأرمن عسكريًا، لكنه الدعم الذي يضمن عدم تفوق أذربيجان وليس العكس.
هذا السيناريو يروق للعديد من الأطراف الأخرى كذلك، كإيران مثلًا التي تقع على مقربة من خطوط الاحتكاك، ورغم العلاقات القوية التي تربطها بالأرمن على حساب جارتها، فإنها تتجنب التصعيد بين الطرفين حفاظًا على أمنها وتجنبًا لتصدير ما يحدث للداخل في ظل ما تعانيه من زيادة معدلات الغضب الداخلي خلال السنوات الأخيرة بسبب سياساتها في الداخل والخارج.
الروس والإيرانيون يرون في اندلاع حرب شاملة استنزاف لقدراتهم وإمكاناتهم العسكرية في دعم حليفهم الأرمني، هذا بجانب مخاوف تداعيات التصعيد بما يهدد مصالح موسكو وطهران في منطقة القوقاز
حرب شاملة
ومع دخول تركيا بقوة على خط الأزمة حين أعلنت دعمها باكو بالسلاح والعتاد بات من الواضح أن سياسة “لا حرب ولا سلام” لم تعد مجدية، فمصالح القوى التي اعتادت توظيف تلك الحالة لصالحها أصبحت مهددة في ظل التوازن الذي أحدثه التدخل التركي.
وقد سعت أرمينيا خلال الآونة الأخيرة والقوى الخارجية التي تدعمها عسكريًا إلى إفشال كل محاولات التوصل إلى حلول نهائية لتلك الأزمة، استفادة من بقائها على هذا التموضع المفيد لتلك القوى، لكن التصريحات التركية بعد اشتباكات 12 من يوليو/تموز الماضي، غيّرت موازين القوى بين البلدين وذلك مقارنة بفترة التسعينيات.
وهذا يجرنا للسيناريو الثاني (اندلاع حرب شاملة) الذي بات يفرض نفسه بقوة بعد التصريحات الساخنة الصادرة عن حكومتي البلدين المتصارعين، لكن هذا السيناريو قد لا يروق لبقية الأطراف، فتركيا لا ترغب في توسعة دائرة مواجهاتها العسكرية الخارجية التي ترهق ميزانيتها الاقتصادية بشكل كبير وتضعها في مرمى بعض الانتقادات الدولية.
الروس والإيرانيون يرون في اندلاع حرب شاملة استنزاف لقدراتهم وإمكاناتهم العسكرية في دعم حليفهم الأرمني، هذا بجانب مخاوف تداعيات التصعيد بما يهدد مصالح موسكو وطهران في منطقة القوقاز، بل على العكس ربما يهيئ المناخ الجديد لتدخل قوات دولية بما يطيح بالنفوذ الروسي في هذه البقعة الإستراتيجية بالنسبة له، وإن لم يكن الأمر بعيدًا عن نفوذ روسيا كذلك في سوريا وليبيا.
هذا السيناريو الكارثي ربما يكون أكثر ملاءمة لمصالح بعض القوى الدولية الأخرى خارج تلك المنطقة، وعلى رأسها فرنسا و”إسرائيل” وبعض دول أوروبا، حيث ترى فيه تلك القوى فرصة سانحة لتصفية حسابات قديمة مع بعض الكيانات السياسية والعسكرية الحاليّة، بجانب أحلام البعض في استعادة أمجاد بالية.
ربما لا ينجح مجلس الأمن في الخروج بقرار ملزم لطرفي النزاع، الأمر الذي قد يدفع بعض دول أوروبا لتبني الحملة الدبلوماسية لتخفيف التوتر عبر قرارات مشتركة، إلا أنه وفي نهاية الأمر فإن القادم أيًا كانت ملامحه لن يكون كما سبق، فمعادلة التوازنات تغيرت الآن بشكل كبير، وما عاد القرار الأرميني وحلفاؤه هو من يفرض نفسه فقط، ورغم ذلك تبقى كل الأبواب مفتوحة على مصراعيها أمام الاحتمالات كافة.