شهدت مرحلة ما بعد تولي السيد مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة العراقية في يونيو الماضي، تصعيدًا متدرجًا لمسارات المواجهة بين الفصائل الولائية من جهة والقوات الأمريكية من جهة أخرى، وإن كانت بداية التصعيد تعود لعملية مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني في محيط مطار بغداد الدولي مطلع العام الحاليّ، حين حمّلت الفصائل الولائية السيد الكاظمي مسؤولية عملية الاغتيال عندما كان رئيسًا لجهاز المخابرات، عبر اتهامه بتمرير معلومات للجانب الأمريكي عن تحركات سليماني رفقة نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس.
وفيما تخوض حكومة السيد الكاظمي حوارًا إستراتيجيًا مع الولايات المتحدة، من أجل التوصل لتفاهمات واضحة بشأن طبيعة الوجود الأمريكي في العراق، وهو ما تحقق بعد زيارة السيد الكاظمي لواشنطن في أغسطس الماضي، عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عزمه سحب قوات بلاده من العراق، في ظرف ثلاث سنوات قادمة، إلا أنه في مقابل هذه التعهدات الأمريكية، واصلت الفصائل الولائية وعبر خلايا الكاتيوشا هذه المرة، تصعيد الهجمات الصاروخية على المقرات والقواعد التي توجد فيها القوات الأمريكية في العراق وتحديدًا السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء، وهو ما أدى إلى امتعاض الولايات المتحدة من فشل حكومة السيد الكاظمي في تأمين المصالح الأمريكية في العراق.
مسارات التصعيد
أدت التغيرات الاقتصادية والعسكرية التي أجراها السيد الكاظمي منذ بداية يوليو الماضي، إلى تحجيم الحركة الاقتصادية والعسكرية للفصائل الولائية، عبر غلق أغلب منافذ تدوير الفساد التي كانت تعتمدها، فضلًا عن الدفع بجيل جديد من القادة العسكريين على رأس قيادات العمليات غير الخاضعين للتأثير السياسي، لتأتي المبادرات السياسية التي عبر عنها المرجع الشيعي السيد علي السيستاني، في أثناء لقائه بممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق جنين بلاسخارات، الذي أكد فيه ضرورة أن تمارس الحكومة العراقية دورًا مهمًا في حصر السلاح وترسيخ السيادة، وهو ما أكده أيضًا البيان الذي أصدرته هيئة الحشد الشعبي، بكونها غير مسؤولة عن الهجمات الصاروخية التي تطال البعثات الأجنبية في العراق.
بعثت الولايات المتحدة برسالة تهديد شديدة اللهجة إلى الحكومة العراقية والقوى والفصائل الولائية، على خلفية استمرار الهجمات الصاروخية
هذه المواقف بمجملها وجدت صداها في مسارات التصعيد الأخير التي أطرت العلاقات الأمريكية – الفصائلية في العراق، خصوصًا بعد فرض العقوبات الأمريكية على إيران وفق آلية سناب باك، ما جعل إيران هي الأخرى تجد في العراق ساحة مهمة للضغط على الجانب الأمريكي عبر إسناد ودعم موقف الفصائل الولائية المطالبة بضرورة إسراع الحكومة العراقية بإنهاء الوجود الأمريكي في العراق.
بعثت الولايات المتحدة برسالة تهديد شديدة اللهجة إلى الحكومة العراقية والقوى والفصائل الولائية، على خلفية استمرار الهجمات الصاروخية واستهداف البعثات الدبلوماسية، وبحسب الرسالة عبر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو للرئيس العراقي برهم صالح، عن انزعاج الإدارة الأمريكية من عمليات القصف المستمرة، وأن واشنطن ستُغلق سفارتها في بغداد وتنتقم من فصائل شيعية، على اعتبار أنها “أهداف مشروعة”، إذا لم توقف الهجمات على البعثات الدبلوماسية، وطالبهم بالإدانة والتخلي عن تلك الأفعال علنًا.
رسالة التهديد الأمريكية، أثارت تساؤلات عن مدى انعكاسها على الهجمات الصاروخية شبه اليومية على المنطقة الخضراء ومطار بغداد ومنشآت أخرى يوجد فيها الأمريكيون؟ وإلى أي حد يمكن للولايات المتحدة أن تنفذ تهديداتها وتستهدف الفصائل الولائية.
مقاربات معقدة
رغم رسائل التهديد الأمريكية، لا يبدو أن المشهد السياسي في العراق، سيكون على قدر مهم من الاستقرار الأمني، لأسباب داخلية وخارجية متعددة، لكن الثابت أن هناك توجهًا إيرانيًا لفرض تهدئة مؤقتة مع الولايات المتحدة، قد تمتد إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، عبر الضغط على الفصائل الولائية بعدم استفزاز القوات الأمريكية من خلال هجمات مميتة، إذ تسعى إيران وحسب ما عبر عنه المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في 27 من سبتمبر/أيلول 2020، بالتحول من المواجهة العسكرية إلى المواجهة الثقافية، وعدم إعطاء ترامب فرصة الفوز بالانتخابات المقبلة، بواسطة تقديم ذريعة مجانية له بضرب إيران أو حلفائها، إذ أصدر فيلق القدس تعميمًا لجميع حلفائه في العراق، بعدم استفزاز الولايات المتحدة في الوقت الحاضر، حتى تتضح مسارات المواجهة معها.
يسعى الجانبان الأمريكي والإيراني إلى تقليل فرص المفاجأة بيد كل طرف من أطراف اللعبة، دون الدخول في حسابات المواجهة المفتوحة، لقناعات إستراتيجية يعتمدها الجانبان، وهو ما يرشح فرضية استمرار الوضع الراهن في الإطار المسيطر عليه، التهديد مقابل التهديد والتصعيد مقابل التصعيد، مع إعطاء الجانب الأمريكي فرصة لحكومة الكاظمي لفرض إجراءات السيادة ووضع حد لهجمات خلايا الكاتيوشا، مع قرب انتهاء المهلة الأمريكية، وهو ما أشارت إليه الاجتماعات التي عقدها السفير الأمريكي في بغداد ماثيو تولر، مع مستشار الأمن الوطني قاسم الأعرجي في 28 من سبتمبر/أيلول 2020، الذي تعهد بسلامة المقرات والمواقع الأمريكية.
حسابات إيرانية وأمريكية
قال مسؤولون أمريكيون إن إيران غيرت مؤخرًا إستراتيجيتها العسكرية تجاه القوات الأمريكية في العراق، وذلك قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر عقدها في نوفمبر المقبل، حيث قللت من عدد الصواريخ التي يتم إطلاقها على قواعد الولايات المتحدة، وعلقت ردها على مقتل سليماني مطلع العام الحاليّ.
وبحسب صحيفة “وول ستريت جورنال”، فقد قال بعض المسؤولين والمحللين الأمريكيين، إنه من غير المرجح أن تشن إيران والجماعات المدعومة منها هجومًا استفزازيًا قد يكون له تأثير على حشد الدعم الشعبي الأمريكي للرئيس ترمب في الأسابيع التي تسبق الانتخابات، وقال مسؤول أمريكي: “إذا كانوا يرغبون في منع إعادة انتخابه، فإن أسوأ ما يمكنهم فعله هو القيام بشيء ما لإثارة غضب الرأي العام الأمريكي”.
وفي هذا الإطار جاءت التصريحات الإيرانية هي الأخرى، لتؤكد هذا الاستنتاج الأمريكي، إذ قال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب في 26 من سبتمبر/أيلول 2020، إن طهران “تندد وتستنكر استهداف أي من البعثات الدبلوماسية في بغداد”.
شهدت الساحة العراقية خلال الساعات القليلة الماضية، حراكًا سياسيًا لإثناء الجانب الأمريكي عن موضوع غلق السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء
إن الرئيس ترامب يدرك تمامًا طبيعة المخاطر الإستراتيجية التي يمكن أن تنبثق عن أي تصعيد في العراق، لحسابات انتخابية حساسة، قد يراهن عليها منافسه الديمقراطي جو بايدن، وفي المقابل لا يريد خامنئي أن يتلقى ضربة مؤثرة على شاكلة تلك التي جاءت بعد غياب سليماني، لذلك يمكن القول إن ما تشهده الساحة العراقية هو عملية إعادة ضبط لقواعد الاشتباك، خصوصًا أن العراق اليوم يعاني من عملية تفكك كبيرة على مستوى مؤسسات الدولة، وحكومة هشة غير قادرة على تأمين رواتب مواظفيها، ومن ثم فإن خروج الولايات المتحدة بهذه الطريقة، سيكون له عواقب اقتصادية وسياسية وأمنية كبيرة، لا تقتصر على العراق فحسب، بل قد تمتد تداعياته إلى الداخل الإيراني الذي يواجه تحديات اجتماعية واقتصادية خطيرة جدًا، وهو ما يجعل الجميع يدركون مخاطر الاتجاه نحو مواجهة مفتوحة.
إذ شهدت الساحة العراقية خلال الساعات القليلة الماضية، حراكًا سياسيًا لإثناء الجانب الأمريكي عن موضوع غلق السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء، في مقابل تعهدات بإيقاف هجمات خلايا الكاتيوشا وعدم السماح بأي أفعال تهدد حياة الأمريكيين في العراق، إلا أنه في المقابل توجد قناعة أمريكية بعدم تمكن الحكومة العراقية من وضع حد لهذه الهجمات، وذلك بسبب الضغط السياسي الذي تتعرض له من التحالف السياسي المقرب من إيران (دولة القانون – تحالف الفتح).
ورغم إصدار السيد هادي العامري والسيد نوري المالكي، لبيانات تؤكد عدم صلتهم بهجمات خلايا الكاتيوشا، فإن الواقع يشير إلى أن هناك قوى بدت مؤثرة أكثر منهم، فيما يتعلق بالقرار الإيراني في العراق، والحديث هنا عن الثلاثي (كتائب حزب الله وحركة النجباء وعصائب أهل الحق)، التي ما زالت تراهن على العمل المسلح في إخراج القوات الأمريكية من العراق.
وهو ما يجعل السيد الكاظمي أمام خيارات صعبة في الفترة المقبلة، خصوصًا في مسألة التعاطي مع هذه البيئة الضاغطة، فالواقع الهش الذي تعاني منه حكومته، مضافًا إليه ضغط الشارع المطالب بإنجاز البرنامج الحكومي الذي تعهد به، تجعله أمام مشهد سياسي معقد جدًا، ورغم البيان المشترك الذي خرجت به الرئاسات الثلاثة، وأكدت فيه رفضها الهجمات الصاروخية التي تتعرض لها السفارات والمقرات الأجنبية، فإن سياقات الواقع الصراعي تشير إلى أن الكلمة للفصائل الولائية في فرض التهدئة أو التصعيد، إلا إذا كان للفاعل الأمريكي خيار سياسي آخر.