تمر العلاقات بين السلطة الفلسطينية والنظام المصري بأسوأ مراحلها، في ظل حكم عبد الفتاح السيسي الذي أنهى مرحلة ذهبية – خاطفة – من رعاية القضية الفلسطينية تميزت بها فترة الرئيس الراحل محمد مرسي، وأخرى – طويلة مرضية إلى حد ما – في فترة الرئيس المخلوع حسني مبارك.
وبدلًا من رئيس السلطة محمود عباس، يدعم السيسي الذي جاء إلى السلطة عبر جواد الانقلاب في 2013، منافسه وخصمه اللدود محمد دحلان القيادي المفصول من حركة فتح ومستشار ولي عهد أبو ظبي محمد ابن زايد الذي وقعت بلاده في 15 من سبتمبر/أيلول اتفاقًا للتطبيع مع “إسرائيل”.
بعد اتفاق التطبيع الذي وقعته أيضًا دولة البحرين، شعر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بـ”خيانة الدول العربية، حتى بدأ بالتوجه نحو المصالحة مع حركة حماس، مما أثار حفيظة مصر”، وفق ما تقول صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية.
وزاد من أزمة عدم الثقة، رعاية تركيا آخر جهود إنهاء الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس، بطلب من عباس، حيث اجتمع الجانبان في إسطنبول، واتفقا نهاية شهر سبتمبر/أيلول على إجراء انتخابات رئاسية تشريعية وثالثة للمجلس الوطني لمنظمة التحرير خلال الستة أشهر القادمة.
وقالت يديعوت أحرونوت في تقرير لها نهاية سبتمبر/أيلول: “اتفاقيات السلام والتطبيع بين “إسرائيل” وكل من الإمارات والبحرين والدعم الهادئ من معظم دول الجامعة العربية خلال الأسابيع الأخيرة، دفعت أبو مازن (محمود عباس) للبحث عن حلفاء جدد وأجبرته دون فرح كبير على الاقتراب من حماس”.
وترى الصحيفة أن إجراء هذه المحادثات بين فتح وحماس له أهمية إضافية ترتبط بالتأثير الإقليمي على الفلسطينيين، فبعد سنوات من الهيمنة شبه الكاملة لمصر على جهود المصالحة، قرر الفلسطينيون إجراء المحادثات في تركيا، في وقت تمر العلاقات بين أنقرة والقاهرة بحالة من التدهور والتوتر.
وبحسب تقرير لصحيفة الأخبار اللبنانية فإن مصر غاضبة من حماس وفتح على السواء، بسبب اختيار تركيا وإخراج القاهرة من عملية المصالحة، وهو ما عبّر عنه جبريل الرجوب أمين سر اللجنة المركزية لحركة “فتح” بالقول: “لأول مرة في تاريخنا، قرارنا أصبح في أيدينا وخارج دائرة النفوذ والتأثير والمحاصصة والوصاية ورعاية أي طرف إقليمي”.
عباس وقادة السلطة يتحدثون في مجالسهم الخاصة دائمًا عن نظام السيسي كعرّاب لصفقة القرن الأمريكية
وعبرت القاهرة فعلًا عن غضبها من خلال رفض استقبال المسؤولين عن الملف الفلسطيني بجهاز المخابرات العامة المصري، وفد حركة فتح العائد من إسطنبول، المتمثل في كل من جبريل الرجوب وروحي فتوح.
وقبل ذلك، وتحديدًا في بداية سبتمبر/أيلول، عقد الأمناء العامون للفصائل الفلسطينية اجتماعًا بين بيروت ورام الله ناقش المصالحة ومواجهة التطبيع وصفقة القرن، بعيدًا عن القاهرة التي استضافت الغالبية العظمى من اللقاءات والحوارات المتعلقة بالشأن الفلسطيني الداخلي.
وفي نفس الشهر أيضًا، استضاف الأردن اجتماعًا عربيًا أوروبيًا للتأكيد على “حل الدولتين وفق قرارات الشرعية الدولية”، وشاركت مصر فيه “على مضض وبدت هنا أيضًا محرجة ومتلعثمة بدلًا من أن تكون في موقع قيادة الجهود العربية والدولية من أجل صون الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف”، وفق ما يقول الكاتب الفلسطيني ماجد عزام.
ويوضح عزام في مقال له أن “عباس وقادة السلطة يتحدثون في مجالسهم الخاصة دائمًا عن نظام السيسي كعرّاب لصفقة القرن الأمريكية، يقف خلف السياسات الإماراتية الضارة والمؤذية للقضية الفلسطينية وساحات عربية أخرى. من هذه الزاوية يبدو فقدان النظام المصري لدوره في فلسطين جزءًا من تراجع دوره الإقليمي في المنطقة ككل”.
ووصف مصدر فلسطيني لـ”الشرق نيوز” الإماراتية، استقبال القاهرة لوفد حركة “فتح” الذي وصل إليها قادمًا من إسطنبول نهاية سبتمبر/أيلول بأنه كان “فاترًا ولم ينجح في هدفه ولم يجر كالمعتاد”.
وبدورها، ردت قيادة السلطة الفلسطينية في رام الله بإنهاء دورها كرئيسة دورية لجامعة الدول العربية احتجاجًا على رفض الأخيرة إدانة اتفاقات التطبيع، وفي مؤشر على تصاعد الأزمة، دعا أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات، أمين عام جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، إلى الاستقالة من منصبه فورًا، معتبرًا في تصريح بتاريخ 29 من سبتمبر/أيلول، أنه “غير مؤتمن على الجامعة”.
على الجانب الآخر، وقبل إقرار خطة واشنطن المزعومة للسلام (صفقة القرن)، كانت العلاقات بين مصر وحماس تشهد انفتاحًا غير مسبوق، بعد إبداء الحركة مرونة في قبول الدعم الإماراتي لقطاع غزة عبر محمد دحلان.
وكانت القاهرة وفق تقارير صحفية، تضغط في السنوات الماضية على عباس الرافض لشروط الرباعية العربية (السعودية والإمارات والأردن ومصر) لحل الخلاف والتصالح مع خصمه دحلان.
من الصعب جدًا على القيادات الفلسطينية تجاوز مصر أيًا كان النظام فيها، لأن لها ثقلًا سياسيًا في المنطقة العربية وهي بوابة فلسطين الجنوبية
ونشر موقع “العربي الجديد” تصريحات لمسؤول فلسطيني قال فيها إن عباس اشتكى لمقربين منه أكثر من مرة، من أن السيسي يضايقه في ملف دحلان وأنه يريد المصالحة بينهما على اعتبار أنها أحد أهم السبل لمواجهة نفوذ حركة حماس، ومن دون ذلك لن يكون لـ”فتح” القدرة على المواجهة.
ومن مؤشرات غضب القاهرة على رفض عباس تلك المصالحة، استمرار النظام المصري اعتقال رامي شعث (48 عامًا)، نجل وزير الخارجية الفلسطيني الأسبق نبيل شعث، إثر اتهامه بـ”الانضمام لجماعة مخالفة للقانون”، وفق إعلام محلي.
وأعلن نبيل شعث، وهو أيضًا مستشار محمود عباس أن السلطات المصرية تحتجز نجله بأحد السجون بالعاصمة القاهرة منذ 5 من يوليو/تموز 2019 من منزله بالقاهرة، وفي عام 2015، شارك رامي في تأسيس حركة مقاطعة “إسرائيل” في مصر، وقبيل اعتقاله أعلن رفضه لصفقة القرن وانتقد مشاركة مصر في ورشة عمل البحرين الشهيرة التي ركزت على الشق الاقتصادي من “الصفقة”.
كما بدأت مرحلة من عدم الثقة بين حماس ومصر بعد تجنب الأخيرة إدانة اتفاقات التطبيع وتأييدها صفقة القرن، وهو ما تأكد بعد رفض وزير الخارجية المصري سامح شكري المشاركة في لقاء عربي ثلاثي برام الله، منتصف يونيو/حزيران ضم محمود عباس ووزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي من أجل إعلان موقف عربي جماعي رافض وواضح وصريح لـ”الصفقة”.
وردت حماس، باللجوء إلى قطر – تواجه علاقات متوترة جدًا مع القاهرة – للتوسط بينها وبين “إسرائيل”، حيث أزاحت الدوحة بذلك المفاوض المصري الرئيسي، واستطاعت في نهاية أغسطس/آب 2020 تثبيت التهدئة بعد جولة من التوتر الميداني والعسكري بين غزة وتل أبيب.
ومن ضمن الحوادث التي تعكس نهاية مرحلة الانفتاح والتفاهم مع حماس، إقدام الجيش المصري في نهاية سبتمبر/أيلول على استهداف صيادين فلسطينيين في عرض بحر قطاع غزة ما أدى لمقتل اثنين منهم وإصابة آخر.
ورغم كل الأزمات المحيطة بمصر وكل من حركتي فتح وحماس، يقول أستاذ العلوم السياسية الدكتور هاني البسوس: “من الصعب جدًا على القيادات الفلسطينية تجاوز مصر أيًا كان النظام فيها، لأن لها ثقلًا سياسيًا في المنطقة العربية وهي بوابة فلسطين الجنوبية”.
وتابع في حديث لـ”نون بوست”: “صحيح أن تركيا وقطر تصدرتا المشهد في الآونة الأخيرة، لكن الفلسطينيين سيلتقون في نهاية المطاف مع قيادات مصرية لمناقشة ترتيب ملف الانتخابات، وهناك تنسيق مع القيادة المصرية بغض النظر عن كل الانتقادات والموقف الفلسطيني تجاه النظام المصري الحاليّ”.
الفلسطينيون حريصون على علاقات طيبة مع جميع الدول العربية والإسلامية
وفي تقديره “إذا جرى تجاوز مصر في أي توافق فلسطيني داخلي، فمن الممكن أن تتخذ القاهرة وبكل سهولة خطوات ضد حركتي فتح وحماس أو ضد قطاع غزة وأن تضع العراقيل وتنسف كل الاتفاقات”.
وفي نفس الوقت، شدد البسوس على أن “موقف القاهرة باهت وضعيف وهو أشبه بمن يؤدي دور الوساطة لا من يدعم القضية الفلسطينية، ومع ذلك فإن القيادات الفلسطينية تعي أهمية وضع مصر في الصورة العامة حتى لا تفقد الفصائل دعمها”، ومما يدعم رأي البسوس، عودة حركتي فتح وحماس إلى التأكيد على أهمية مصر، بعد مباحثات جرت على التوالي في تركيا وقطر.
في 28 من سبتمبر/أيلول، استقبل وزير الخارجية المصري سامح شكري، اللواء جبريل الرجوب أمين سر اللجنة المركزية لحركة “فتح” وروحي فتوح عضو اللجنة، بمقر الخارجية المصرية.
وحسب ما أفاد بيان مصري، فإن شُكري أعاد التأكيد على “موقف مصر الراسخ من القضية الفلسطينية، ودعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وصولًا لإقامة الدولة الفلسطينية المُستقلة على حدود 1967، عاصمتها القدس الشرقية، وفقًا لمقررات الشرعية الدولية”، مؤكدًا دعم القاهرة لكل الجهود التي تستهدف تحقيق الاستقرار والسلام والأمن.
وأوضح المتحدث الرسمي باسم الخارجية المصرية أحمد حافظ، أن “المسؤولين الفلسطينيين، نقلا تقدير الجانب الفلسطيني للدعم المصري المُستمر للحقوق الفلسطينية، وأحاطا وزير الخارجية بآخر التطورات ذات الصلة بالشأن الفلسطيني والرؤية إزاء التحركات المستقبلية، فضلًا عن المساعي الجارية لاستعادة اللُحمة وإعادة توحيد الصف الفلسطيني، وأكدا في هذا الصدد على محورية الدور المصري في رأب الصدع الفلسطيني، وتحقيق المصالحة المرجوة”.
وتواكبت تعليقات وفد “فتح” المؤكدة على دور مصر، مع تصريحات صحافية من “حماس”، إذ قال عضو المكتب السياسي للحركة حسام بدران: “الحوار كان في ضيافة تركيا، وليس تحت رعايتها، وكان الحوار فلسطينيًا – فلسطينيًا، وهذا ما يعطي الطرفين حرية وسلاسة، مع الاحترام لكل الجهات الراعية للحوارات السابقة”، وأكد بدران أن “الفلسطينيين حريصون على علاقات طيبة مع جميع الدول العربية والإسلامية، وأن معظم الدول العربية رحبت بالمصالحة الفلسطينية، وعلى الأقل لا يوجد اعتراض رسمي من أي دولة عربية”.
ويؤكد جاكي حوجي محلل الشؤون العربية في إذاعة جيش الاحتلال أن “مصر لا تزال تؤيد إقامة دولة فلسطينية على أراضي عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، لكن اتفاقات التطبيع تصب في مصلحة المنطقة”، وقال في مقال نشرته صحيفة معاريف العبرية بداية سبتمبر/أيلول: “لا يمكن لمصر أن تعبر عن نفسها بشكل مختلف عن الإمارات، لأن صديقتها المقربة في المنطقة وربما في العالم كله، هي شريكها الأمني وأكثر من ذلك، هي داعم أساسي لاقتصادها”.
وأوضح أنه في ظل حالة التدهور الاقتصادي، في أعقاب الإطاحة بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك، ضخ ولي عهد أبو ظبي محمد بن زيد مليارات الدولارات ومنع انهيار الاقتصاد المصري، ولفت المحلل إلى أن “مصر وجدت نفسها بين المطرقة والسندان، حيث استيقظت ذات صباح ورأت أن دولة عربية (الإمارات) قررت الدخول في سلام دافئ مع “إسرائيل”، فركت عينيها واكتشفت أن هذا كان أفضل تبني لها، وقررت ابتلاع الضفدع والانضمام إلى المحتفلين”.