“مانديلا المغرب” و”ديدي” و”الشيباني”، ألقاب عدة أطلقها الشارع المغربي على المناضل أبراهام السرفاتي الذي استطاع على مدار أكثر من 5 عقود تخليد اسمه بمداد من ذهب في سجلات التاريخ، وذلك لما قدمه من جهود لمناهضة الاستعمار الفرنسي والدفاع عن مبادئه، الأمر الذي كلفه سنوات قضاها في غياهب السجون والمعتقلات.
ورغم انحداره من سلالة يهودية الأصل، فإن السرفاتي كان أحد أبرز المدافعين عن القضية الفلسطينية وحقوق الشعب العربي في مواجهة الصهيونية التي قضى سنوات عدة في محاربتها كونها خلايا سرطانية تم زرعها في المنطقة بهدف تفتيت اللحمة العربية وتشتيت وحدتها.
تعد قصة حياة المناضل اليهودي المولود في 16 من يناير/كانون الثاني عام 1926 بالدار البيضاء الذي عاصر ثلاثة ملوك مغاربة، وأمضى جل حياته متنقلًا بين السجون والمنفى، واحدة من قصص النضال التي يستلهم منها الشباب المغربي معاني البطولة والشجاعة.
وفي الوقت الذي يهرول فيه من ينتمون بأجسادهم إلى التراب العربي وبدينهم إلى الإسلام وتاريخهم إلى القومية العربية، خلف قطار التطبيع مع الكيان الصهيوني، كان السرفاتي، اليهودي الديانة، علامة فارقة في معاداة الصهيونية والدفاع عن حق الشعب العربي إيمانًا منه بعدالة قضيته.. فمن هذا العلم الذي فاقت شهرته كثيرًا من الزعماء الملطخة أيديهم بدماء التطبيع المراقة على أشلاء الأشقاء في الأراضي الفلسطينية؟
النضال ضد الاستعمار الفرنسي
ينتمي السرفاتي الذي فرت أسرته من محاكم التفتيش في إسبانيا بعد سقوط غرناطة عام 1492، واستقرت في طنجة شمال المملكة، إلى عائلة وطنية من الطراز الأول، فوالده كان ينتمي لإحدى الحركات الاجتماعية السياسية المناهضة للحماية الفرنسية والإسبانية على المغرب، وكانت تحمل اسم “الحركة الوطنية المغربية” وأنشئت عام 1930.
دخل الشاب المفعم بمعاني الوطنية غمار العمل السياسي في فبراير 1944 حين التحق بالحزب الشيوعي المغربي الذي اعتنق مذهبه قبل أن يتحول إلى الفكر الاشتراكي الديمقراطي فيما بعد، وكان عمره وقتها 18 عامًا لكنه تعرض في هذا العام للاعتقال، الأمر الذي دفعه للسفر إلى فرنسا.
وبالفعل سافر إلى باريس للدراسة وهناك انضم إلى “الحزب الشيوعي الفرنسي” حيث تلقى هناك التعاليم الأولية لهذا الفكر ليعود بعد 6 سنوات إلى الرباط للانضمام إلى نظيره المغربي، لتبدأ معاركة ضد الاستعمار الفرنسي، رافعًا شعار “لا للاضطهاد – لا للاستعمار – لا للوصاية الأجنبية).
أثرت فترة الاعتقال عليه بصورة لافتة للنظر، حيث قرر عقب خروجه العمل في الخفاء بعيدًا عن الأنظار
في عام 1952 اعتقلته السلطات الفرنسية لجهوده الثورية في مناهضتها وتبنيه العديد من الأنشطة المعادية لفرنسا وحكومتها في المملكة، حيث تم نفيه رفقة شقيقته “إيفلين” إلى باريس 4 سنوات كاملة، ليعودا إلى الوطن عام 1956 بعد أن حصل على الاستقلال.
تاريخه السياسي في مناهضة الاستعمار الفرنسي وخبراته الاشتراكية أهلته لأن يتولى منصب مستشار وزير الاقتصاد في بلاده وكان ذلك خلال الفترة (1957- 1960)، ثم مديرًا للبحث والتطوير في مكتب الفوسفات إثر تأييده المطلق لسياسة التعدين الجديدة في المغرب وذلك في الفترة من (1960 – 1968).
وفي صيف 1968 دشن عمال مناجم الفوسفات بمدينة خريبة إضرابًا عامًا بسبب تردي الأوضاع المعيشية لهم والمطالبة بتحسينها، وتضامن معهم السرفاتي، ما دفع السلطات وقتها لإزاحته عن وظيفته، لكن سرعان ما عاد إليها في نوفمبر من العام نفسه.
تميزت حياة الشاب اليهودي المغربي بالنضال ضد الرأسمالية ودعم مطالب العمال وعامة الشعب، إذ شارك في الانتفاضة الشعبية في 23 من مارس/آذار 1965، احتجاجًا على سياسات حكومة الحسن الثاني، مرددين شعارات ضد الملك، ثم ساهم في الحملة التي قادتها مجلة “أنفاس” اليسارية لشن ثورة ضد الإمبرالبية والثقافة الاستعمارية التي قادتها الأوساط الثقافية الفرنسية ضد بلاده.
وبعد ربع قرن تقريبًا من كفر السرفاتي بالحياة الحزبية في بلاده، أعلن استقالته من “حزب التقدم والاشتراكية” واتهم الأحزاب بعرقلة العملية الديمقراطية، فيما غير مساره النضالي ليبدأ في تأسيس حركة “إلى الأمام” اليسارية بصحبة عدد من رفاقه.
شكلت تلك الحركة الجديدة قلقًا كبيرًا لحاكم البلاد وقتها الملك الحسن الثاني، ما عرضه للاعتقال في يناير 1972 في إطار حملة واسعة شنتها السلطات لتفكيك الأحزاب والحركات الراديكالية، وظل حبيس سجنه قرابة 3 أشهر قبل أن يفرج عنه إثر احتجاجات ومظاهرات طلابية عنيفة دفعت الملك للإفراج عن المعتقلين.
أثرت فترة الاعتقال عليه بصورة لافتة للنظر، حيث قرر عقب خروجه العمل في الخفاء بعيدًا عن الأنظار، وقد ساعدته في تحقيق هذا الهدف زوجته الفرنسية كريستين دور التي كانت تعمل وقتها مدرسة، حيث أخفته عن عيون السلطات لفترات طويلة، لكن لم يدم هذا التخفي إذ اعتقل مرة أخرى ليحكم عليها غيابيًا في يوليو/تموز 1973 قبل أن يلقى القبض عليه في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1974.
دعم القضية الفلسطينية
رغم ما تعرض له السرفاتي من اضطهاد وتنكيل سواء داخل المغرب أم خارجه، ورغم أنه يهودي الأصل، فإنه لم يفكر يومًا في الهجرة إلى “إسرائيل” في الوقت الذي كان يلح عليه العديد من المقربين منه، هربًا من موجات الاعتقال التي يتعرض لها في بلاده.
وقد عُرضت عليه الجنسية الإسرائيلية أكثر من مرة لكنه رفض، بل كان معارضًا لقانون العودة الذي يتشدق به اليهود في مختلف أنحاء العالم للهجرة والاستقرار في فلسطين المحتلة، وعلى النقيض تمامًا كان الرجل من أكثر المعادين للصهيونية.
في حديث متلفز له على قناة “الجزيرة” في يوليو 2004 كشف المناضل المغربي موقفه الرسمي من الصهيونية، وذلك حين أشار إلى أن والده زرع بداخله منذ الصغر أن الصهيونية مرادف للنفاق وأنها لا تمت بأي صلة لليهودية، مؤكدًا أنه نشأ وترعرع في كنف اليهودية المغربية المتسمة بروح الأخوة والمحبة مع الإسلام والمسيحية.
ودومًا ما كان يؤكد على هويته الأندلسية، حيث موطن الديانات السماوية الثلاث وموطئ الازدهار الثقافي والفكري الذي ما زال العالم يقر بفضله حتى يومنا هذا، رافضًا الربط بين ديانته اليهودية والصهيونية الإسرائيلية التي يراها معول هدم لشعوب المنطقة وتفتيت لوحدتهم الفكرية والثقافية.
وكان مانديلا المغرب أحد أبرز المفكرين الداعمين لنشأة دولة فلسطينية مستقلة، حيث زار قواعد الثورة الفلسطينية في الأردن وبعث رسالة تضامن للمقاومة الفلسطينية خلال حصار بيروت عام 1982، كما منحته “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” العضوية داخل تنظيماتها.
ومن أبرز التصريحات التي سجلت بماء من ذهب في تاريخ نضاله العروبي تلك التي أدلى بها لوكالة “فرانس برس” عام 2005 حين أكد أنه لن يزور فلسطين إلا عند قيام دولتها المستقلة المحررة تمامًا من كل أوجه الاستعمار وأنه سيزورها مع أصدقائه اليهود في “إسرائيل”.
سنوات الرصاص والتمسك بالمبادئ
في الوقت الذي تعرض فيه الرجل لكل أنواع التنكيل لم يتخل يومًا عن معتقداته التي حارب لأجلها طويلًا، فعقب عودته من المنفى بأمر ملكي عام 2000 كان أول من دعا إلى استقالة رئيس الوزراء – آنذاك – عبد الرحمن يوسفي، الذي كان يعتبره عائقًا أمام حرية الصحافة وتعزيز قيم الديمقراطية في المجتمع المغربي.
كما كان من أشد المؤيدين لما سمي “هيئة الإنصاف والمصالحة” التي دُشنت عام 2005 لتعويض ضحايا الانتهاكات التي حدثت في المغرب التي تعرف إعلاميًا باسم “سنوات الرصاص” وهي الهيئة التي ساهمت بشكل كبير في إنقاذ الكثير من المتضررين من أبناء الشعب وما زال يذكر دوره فيها حتى اليوم.
ورغم انشغالاته الكثيرة، فإنه أثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات التي تعكس مواقفه السياسية عبر مراحل حياته المختلفة، فكتب: “النضال ضد الصهيونية والثورة العربية” عام 1977 ثم “كتابات السجون عن فلسطين” عام 1992، وفي نفس العام كتب “في سجون الملك”، كذلك “ذاكرة الآخر” عام 1993، وآخر أعماله “العاصي: يهودي، مغربي، ومتمرد” عام 2001.
كما وثق سيرته الذاتية في مؤلف مشترك مع زوجته كريتسين، تحت عنوان “ذاكرة الآخر” روى خلاله تاريخه النضالي رفقة زوجته ضد النظام الملكي للحسن الثاني، وما تعرض له من تنكيل وتعذيب على أيدي السلطات الملكية في ذلك الوقت، والدور الذي أدته زوجته في احتوائه وإعادة ثقته بنفسه مرة أخرى.
في صباح الخميس 18 من نوفمبر/تشرين الثاني 2010 غادر المناضل المغربي الحياة في هدوء إثر تعرضه لمشاكل صحية
ودفع السرفاتي ثمنا باهظًا لمشواره النضالي، حيث مكث في الحبس قرابة 17 عامًا قضاها متنقلًا بين معتقل “درب مولاي الشريف” في الدار البيضاء وسجن القنيطرة (شمال الرباط)، هذا بخلاف سنوات طوال في المنفى بعيدًا عن الأهل والأصدقاء حتى عاد في سبتمبر 2000 بأمر من العاهل محمد السادس.
يذكر أن أبراهام السرفاتي حصل على الثانوية العامة عام 1937 من مدرسة ليوطي، أشهر مؤسسة تعليمية في الدار البيضاء حينها، ثم التحق بواحدة من أعرق كليات هندسة التعدين في فرنسا عام 1945 (المدرسة الوطنية العليا للمعادن في باريس) ليصبح أول مغربي يتخرج في تلك الكلية.
وفي صباح الخميس 18 من نوفمبر/تشرين الثاني 2010 غادر المناضل المغربي الحياة في هدوء إثر تعرضه لمشاكل صحية، عن عمر ناهز 84 عامًا، ليدفن بالمقبرة اليهودية في الدار البيضاء، بعدما بات رمزًا للمعتقلين السياسيين في عهد الحسن الثاني، وباتت قضيتة الشغل الشاغل للكثير من المنظمات الدولية لحقوق الإنسان.