تصوير: عمران الدوماني
شمالي مدينة إدلب في أرمناز قريبًا من الحدود السورية التركية، يتفحص وليد الصافي – 26 عامًا – قطع الفخار التي صنعها في معمله “المتواضع” صبيحة اليوم، ووضعها لتجف تحت أشعة الشمس.
وليد يتفحص قطع الفخار من إنتاج معمله بعد جفافها – أرمناز
لكن الحال لم يكن هكذا دائمًا بالنسبة لوليد، فمعمله الذي يشغله عاملان الآن كان يوفر فرص عمل لـ70 حرفيًا في مجال صناعة الفخار قبل عقد من الزمن.
صناعة الفخار
ورث وليد هذه الصنعة عن والده الذي ورثها بدوره عن جده عبر سلالة طويلة في عائلتهم، وهو ينوي أن يعلمها لأبنائه مستقبلًا، فهذه الصنعة كما يتحدث بفخر تعود إلى العصر الروماني، ومستمرة إلى اليوم بفضل أيدي المهرة المخلصين لها، الذين يجيدون تشكيل التراب عبر مراحله (عجنه – تصويله – تخميره) ثم ينقلونها إلى الدولاب، وهناك يعطون القطعة شكلها منتظرينها لتيبس ثم يضعونها في فرن يشويها لتأخذ هيكلها، وبعد أن تخرج من الفرن تنتقل إلى مرحلة أخرى مختلفة يدعونها “الترسيم”، التي تضم مراحل متعددة بحسب الشكل النهائي المراد إخراجه، فمن الحفر إلى التعتيق إلى النقش، تخرج القطعة بالصورة التي يشتريها بها الزبون.
تحضير عجينة الفخار – أرمناز
تشكيل قطعة الفخار على الدولاب – أرمناز
إنهاء تشكيل القطعة قبل وضعها لتيبس – أرمناز
تحضير القطع لإدخالها في الفرن لتشوى – أرمناز
وضع القطع في الفرن لتشوى – أرمناز
شغف وليد بصنعته التي يعتبرها “فنًا”، دفعه للاستمرار بالعمل بها حتى في ظل الظروف الحاليّة الصعبة على مختلف أنواع الصناعات في منطقة إدلب، فالمنطقة منذ 10 أعوام تعيش حالة حرب طاحنة، تتخللها بعض فترات السلم التي تسمح له ولأقرانه ببعض العمل الذي يؤمنون به قوتهم وقوت أهليهم.
وليد يشكل إحدى قطع معمله – أرمناز
سابقًا كان هذا المعمل الذي يديره وليد يصدر تحف الفخار إلى دول متعددة كلبنان والعراق وليبيا والجزائر ومصر وغيرها، وبقي يقوم بذلك عبر التجار الوسطاء في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، الذين يشترونها ثم يصدرونها، إلا أن إغلاق المعابر التجارية بين المناطق المحررة ومناطق النظام منذ أشهر ألقت بظلالها الثقيلة على صناعته.
يقول وليد: “خلال الأشهر السابقة نصنع القطع ونخزنها منتظرين افتتاح الطريق”، فمن دون التصدير عبر المعابر التجارية يقتصر سوقه على بعض القرى في الشمال السوري المحرر، التي لا يعد حجم طلبها كافيًا لتشغيل المعمل.
تخزين قطع الفخار بانتظار افتتاح المعابر – أرمناز
في الشمال السوري لا يقتصر سوق الفخار على الراغبين بامتلاك قطعة كتحفة فنية للزينة، ففي ظل الأوضاع الاقتصادية السيئة التي يشهدها الشمال السوري – شأنه في ذلك شأن البلاد جميعها – تعتبر الأواني الفخارية خيارًا أرخص من أواني الحديد والبلور، خاصة لحفظ الماء.
فبحسب “أبو النور” – الذي التقيناه في المعمل راغبًا بشراء بعض الأواني – فإن لأواني الفخار قدرة استثنائية على تبريد المياه الموضوعة بها خلال فصل الصيف، وهي ميزة مناسبة جدًا لأكثر من مليون ونصف مهجر في الشمال السوري اليوم، يقطن أغلبهم في مخيمات لا تحوي أجهزة كهربائية لتبريد المياه، بل وللذين أسعفتهم الظروف وبقوا في منازلهم أيضًا، فالكهرباء ليست أمرًا متوافرًا في المنطقة أيضًا باستثناء المولدات التي لا يستخدمها كثير من الناس في تشغيل البرادات، ويقصرون استخدامها على الضروريات، تخفيضًا للكلفة.
صناعة فحم الزيتون
لم تتأثر صناعة الفخار فقط خلال الأعوام السابقة، فصناعة الفحم أيضًا تعاني في المنطقة رغم القفزة التي شهدتها أسعاره مع غلاء المحروقات وانقطاع الكهرباء، ليتحول الفحم إلى مصدر رئيسي للتدفئة، إلى جانب استخداماته الأخرى التي يتربع على رأسها استعماله في الشواء.
وتشتهر إدلب بإنتاج الفحم من “نوى” الزيتون الذي تنتشر زراعته بشكل واسع في المحافظة، حيث يتم حرق “بذور الزيتون” كما يدعونها أهالي إدلب في أفران مخصصة على عدة مراحل، ثم يتم طحنها ثم يضاف لها الماء ومواد أخرى ويتم عجنها ثم تشكيلها بعد إدخالها في آلة خاصة، ثم يتم تقطيعها وتنضيدها لتجف وتكون جاهزة للتغليف.
طحن نوى الزيتون بعد حرقه – أرمناز
الفحم مطحونًا قبل عجنه – أرمناز
تنضيد الفحم بعد عجنه – أرمناز
تحضير الفحم لنشره حتى يجف – أرمناز
تقطيع الفحم وتجهيزه للتغليف – أرمناز
يعتبر الفحم المصنوع من نوى الزيتون ذا جودة عالية بسبب طريقة احتراقه التي تدوم أكثر من غيره، وهو ما جعل صناعته تزدهر في الأعوام السابقة، حيث كان هذا المعمل المحلي في “أرمناز” يصدر منتجاته إلى الرقة شرقًا وحلب جنوبًا، وكان يذهب منها إلى باقي المناطق الخاضعة لسيطرة النظام وإلى خارج سوريا للتصدير.
إلا أن العامين السابقين كانا صعبين جدًا على هذه الصناعة في إدلب، فبحسب عمر محمد علي من أبناء مدينة إدلب الذي نزح إلى أرمناز قبل خمسة أعوام للعمل في المعمل، فإنهم خلال العام السابق اقتصرت أيام عملهم على يومين أسبوعيًا فقط، بسبب إغلاق المعابر التجارية، ما منعهم من تلقي طلبيات من خارج المناطق المحررة، وهو ما انعكس سلبًا على العمال وواردهم المادي الذي لم يعد يكفي لتغطية احتياجاتهم.
عاملو آلات التقطيع ضمن معمل محلي لإنتاج الفحم في أرمناز
يقتصر اليوم إنتاج معمل الفحم هذا على تغطية حاجة السوق المحلية في المناطق المحررة شمال سوريا، التي يعاني قاطنوها من ارتفاع أسعار الفحم بسبب إغلاق عدد من المعامل المحلية التي تنتجه وارتفاع أسعار مواد الفحم الخام أيضًا، خاصة مع إقبال فصل الشتاء الذي يتزايد فيه الطلب على الفحم في ظل عدم توافر الكهرباء وغلاء المحروقات.
بسطة لبيع الفحم في مدينة إدلب شمال سوريا
سواء بالنسبة لصناعة الفخار أم فحم الزيتون أم غيرها من الصناعات المحلية التي تمكنت من النجاة والاستمرار خلال الأعوام السابقة، فإن العام الحاليّ يعتبر الأصعب عليها، مع استمرار إغلاق المعابر التجارية بينها وبين المناطق الخاضعة لسيطرة النظام من قبله، التي كانت تعتبر وسيلة تصريف جيدة تمكن هذه الصناعات وأهلها من الاستمرار فيها، خاصة مع صعوبة التصدير إلى خارج سوريا عبر تركيا التي لم تنظم بعد قوانين لاستقبال منتجات المناطق المحررة.