“قاتل خاشقجي لكي تصبح السعودية دولةً متسامحةً، وبعد عامين على ذبحه وتقطيع جثته بطريقة بشعة، لا تزال الحقيقة التي قالها تحرق المملكة”.. بهذه الكلمات علق الكاتب في صحيفة “واشنطن بوست” ديفيد إغناطيوس، بمناسبة الذكرى الثانية لاغتيال الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي، مضيفًا “لقطات الفيديو المغبشة للحظات الأخيرة لدخوله لا تزال تطاردنا، فقبل عامين تقريبًا، دخل رجل أصلع تقريبًا يلبس السترة والبنطال إلى فيلا محصنة ويمشي بحذر تحت مظلة بيضاء إلى ما سيكون موته”.
بعض الجرائم لا تسقط بالتقادم، كما أن الكثير من الأحداث تظل راسخة في الأذهان، مهما علاها غبار الزمن، وتعد جريمة مقتل خاشقجي واحدة من المنعطفات الحادة في تاريخ السعودية، فما قبلها ليس كما بعدها مطلقًا، إذ إن تفاصيل تلك الجريمة بكل كواليسها لم تفارق خيال المتابعين لها والسامعين عنها، لما تحمله من وحشية لا يستوعبها العقل.
وبينما يحاول ولي عهد السعودية محمد بن سلمان، لطي هذه الصفحة للأبد، بعدما باتت تمثل له صداعًا مزمنًا لا ينتهي، فاتحًا لأجل ذلك خزائن بلاده ومضحيًا بمرتكزاتها الوطنية الثابتة وراهنًا قرارها السياسي والسيادي، متوهمًا أن بغياب الأضواء عنها حينًا، قد يخفت بريقها، لكنها سرعان ما تعود بين الحين والآخر كأنها لم تغب قط عن الأذهان.
روايات متناقضة منذ بداية الأزمة، تأرجح بين الاعتراف تارة والنكران تارة أخرى، مخادعًا العالم بمحاكمات هزلية تعزف على أوتار الإدانة الكاملة ثم التخفيف التدريجي، وسط اتهامات دولية وانتقادات حقوقية شوهت صورة المملكة ونظامها الحاكم على الأصعدة كافة، ليبقى خاشقجي حتى بعد الرحيل يلاحق ابن سلمان ويهدد مستقبله السياسي ويحول حلمه في خلافة والده إلى كابوس.
نستعرض في هذا التقرير أبرز محطات القضية منذ ارتكابها في الـ2 من أكتوبر/تشرين الأول 2018 وحتى اليوم، وكيف تحولت إلى كرة نار تلتهم كل مساعي الإجهاض والتغييب والخداع، وصولًا إلى ما آلت إليه الأوضاع الآن، حيث بات خاشقجي قوة دفع للمعارضة السعودية في الخارج تسعى لإعادة ترتيب أوراقها مرة أخرى لمناهضة النظام السلطوي في المملكة من جانب ولتجنب المصير ذاته من جانب آخر.
افتضاح الكذب السعودي
حالة من الارتباك سادت الأوساط السعودية ابتداءً من إعلان تركيا احتجاز خاشقجي داخل قنصلية بلاده في 3 من أكتوبر/تشرين الأول 2018 ثم فتح تحقيق بشأن اختفائه في 6 من نفس الشهر، حيث تعددت الروايات المتناقضة الناتجة من الصدمة التي تعرضوا لها، بينما كان يؤمل بعضهم بعضًا بأن الجريمة ستتم دون ترك أي ذيول لها.
ثلاث روايات غير رسمية خرجت عن الرياض لتفسير الغياب ثم القتل، ما بين شجار بينه وبين أحد الأشخاص أفضى إلى اشتباك ثم وفاة، مرورًا بخلاف نشب بينه وبين الفريق المرسل لإعادته لبلاده بقيادة اللواء أحمد عسيري والمستشار بالديوان الملكي السعودي سعود القحطاني، ذراعي ابن سلمان، ما أدى إلى وفاته، وصولًا إلى إصدار تعليمات بقتله من قيادات أمنية بالمملكة دون استشارة القيادة السياسية بالبلاد.
وأمام كل رواية من تلك الروايات كانت سلطات التحقيق التركية تقدم الدليل على كذبها شكلًا ومضمونًا، الأمر الذي وضع الرياض في حرج لا سيما بعد اقتناع المجتمع الدولي بدقة المسار التحقيقي التركي مقارنة بالتأرجح السعودي ومحاولة التعتيم على القضية والتلكؤ في التعاون مع القضاء التركي.
ولم تجد السلطات السعودية أمام هذا التحزيم القوي من الأدلة الموثقة بالشهادات والمعلومات والمقاطع المصورة إلا الاعتراف بالجريمة، ضاربة بكل رواياتها السابقة عرض الحائط، لتجد نفسها مجبرة على التعاطي مع القضية وتقديم المتورطين للمحاكمة.. لكن هل كانت محاكمة بالفعل؟
محاكمات لحفظ ماء الوجه
على مدار عامين كاملين تنقلت فيهما أوراق القضية بين أروقة المحاكم السعودية في محاولة للوصول إلى مخرج يحفظ ماء وجه النظام ويحميه من الملاحقة القضائية بعدما أعربت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي أي إيه” وهي أحد أطراف التحقيق الدولي في القضية، عن شكوكها بشأن ضلوع ابن سلمان في عملية الاغتيال.
البداية كانت في 15 من نوفمبر/تشرين الثاني 2018، حين وجهت النيابة السعودية تهمة القتل إلى خمس من بين أحد عشر شخصًا متهمًا بعملية الاغتيال، حيث طالب النائب العام وقتها بإعدام المتهمين لضلوعهم بقيادة عملية الاغتيال، كذلك بإقامة الدعوى الجزائية بحق البقية، مع التشديد على إحالة القضية للمحاكم السعودية بحيث تكون بعيدة عن أعين الرقابة الدولية.
وفي يناير 2019 بدأت أولى جلسات المحاكمة، واستمرت المحاكمة قرابة 9 جلسات حضرها ممثلون عن الدول الخمسة الأعضاء في مجلس الأمن بجانب ممثل عن السلطات القضائية التركية وآخر عن الجانب السعودي، إضافة إلى ممثلين من أسرة خاشقجي.
وفي الجلسة العاشرة أصدرت النيابة السعودية أحكامًا بالقتل قصاصًا على 5 متهمين والسجن لـ3 آخرين، فيما تم تبرئة المقربين من ولي العهد والضالعين الأساسيين في القضية وهم: عسيري والقحطاني بجانب آخرين تربطهم علاقات وثيقة بالأمير المنشار كما كانت تلقبه الصحافة الغربية.
وبعد 6 أشهر من تلك المحاكمات التي لم تجد القبول من معظم أطراف التحقيق، عقدت محكمة العقوبات في القصر العدلي بمنطقة “تشاغليان” بإسطنبول، عدة جلسات للنظر في القضية، إحداها في يوليو/تموز 2019 والأخرى في 24 من نوفمبر/ تشرين الثاني من نفس العام، حيث وافقت على لائحة الاتهام التي قدمتها النيابة في أبريل/نيسان 2019.
وكانت النيابة العامة في إسطنبول قد أعدت لائحة اتهام من 117 صفحة ضد المتهمين الصادر بحقهم قرار توقيف في إطار مقتل خاشقجي، وتضمنت المطالبة بالحكم المؤبد بحق أحمد عسيري وسعود القحطاني، بتهمة “التحریض على القتل مع سبق الإصرار والترصد والتعذيب بشكل وحشي”.
القضاء السعودي أعاد تأكيد حكم الإعدام بحق 5 أشخاص (لم يسمهم) في جلسة حكم أخرى عقدت في ديسمبر العام الماضي، فيما وصف النائب السعودي الجريمة بانها كان نتيجة “عملية مارقة” وأن 11 شخصًا، لم يفصح عن أسمائهم، يحاكمون في القضية.
النائب أشار إلى خضوع القحطاني المستشار السابق في الديوان الملكي للتحقيق، لكنه أشار إلى أنه لا توجد أدلة على إدانته رغم تأكيد النيابة التركية بالأدلة، وعليه كان القرار بإخلاء سبيله، كما تم تبرئة القنصل السعودي في إسطنبول محمد العتيبي، لذات السبب، الأمر الذي أثار موجة انتقادات وقتها.
وفي تطور ملحوظ يعكس حجم الجهود التي تبذلها السلطات السعودية للخروج بأقل الخسائر حيال هذه القضية التي تحولت إلى قضية رأي عام دولي، فوجئ الجميع في الساعات الأولى من يوم الجمعة 22 من مايو/أيار 2020، بإعلان أولاد جمال خاشقجي، عفو عائلته عن قتلة والدهم، وهي الخطوة التي أثارت الشكوك بشأن ضغوط مورست على الأسرة لإعلان هذا الموقف.
وبعد ماراثون طويل من الأحكام المتناقضة والمتأرجحة أصدرت المحكمة الجزائية في الرياض في الـ7 من سبتمبر/أيلول الماضي أحكامًا نهائية في القضية بالسجن 20 عامًا على 5 مدانين، وأحكام متفاوتة بين 7 و10 سنوات على 3 مدانين آخرين لم تسمهم جميعًا، فيما تم إلغاء أحكام الإعدام السابقة.
#النيابة_العامة: صدور أحكام نهائية بحق ثمانية أشخاص مدانين في قضية مقتل جمال خاشقجي. https://t.co/N8KKgM0hQk#واس_عام pic.twitter.com/muLANYO3nt
— واس العام (@SPAregions) September 7, 2020
تفاصيل مثيرة
بينما كانت السلطات السعودية تسعى جاهدة لإغلاق هذه الصفحة عبر محاكمات شكلية، إذ بالعديد من المعلومات الجديدة التي أدلى بها شهود عيان على الواقعة تعيد الحادثة إلى الأضواء مرة أخرى، الأمر الذي يجهض بشكل كبير محاولات التعتيم التي تفرضها الرياض على القضية.
ففي يوليو/تموز الماضي أبلغ موظف في القنصلية السعودية بإسطنبول، ويدعى زكي دمير، محكمة إسطنبول، أنه طُلب منه إشعال فرن تنور بعد أقل من ساعة على دخول خاشقجي المبنى الذي قتل فيه، لافتًا وهو الذي كان يعمل فنيًا محليًا لدى القنصلية أنه استدعي لمقر سكن القنصل بعد أن دخل الصحفي المغدور به مبنى القنصلية المجاور للحصول على أوراق خاصة به، مضيفًا “كان هناك خمسة أو ستة أشخاص طلبوا مني إشعال فرن تنور. كانت هناك أجواء من الذعر”.
شهادة دمير تتفق بشكل كبير مع ما كشفه التحقيق الاستقصائي الذي بثته “الجزيرة” في مارس/آذار 2019، ضمن برنامج “ما خفي أعظم” الذي كشف عن تفاصيل جديدة بشأن الجريمة، لافتًا إلى أن أول اتصال تم بين أنقرة والرياض بعد اختفاء خاشقجي كان بين مدير المخابرات التركية حقان فيدان وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
في هذا الاتصال طلب فيدان من ولي عهد المملكة ضرورة كشف حقيقة وضع خاشقجي ومصيره بعد الاختفاء، لكن الأمير لم يستجب للمطالب التركية واعتبرها بمثابة “تهديد غير مقبول”، بحسب التحقيق الذي أظهر صورًا عرضت لأول مرة لفرن تم بناؤه في بيت القنصل السعودي في إسطنبول محمد العتيبي قبل الجريمة بأشهر، وهو الفرن المرجح أن يكون قد استخدم لإحراق أجزاء من جثة خاشقجي حسبما خلصت التحقيقات التركية.
ونجح فريق إعداد التحقيق في التوصل إلى العامل الذي بنى الفرن وأفاد أنه بني وفق مواصفات محددة من القنصل السعودي، كأن يكون عميقًا ويتحمل درجة حرارة تتجاوز 1000 درجة مئوية، هذا فيما توصل التحقيق إلى عثور سلطات البحث الجنائي التركي على آثار دماء خاشقجي فوق جدران مكتب القنصل، بعد تمكنها بوسائل خاصة من إزالة الطلاء الذي وضعه فريق الاغتيال على هذه الجدران للتغطية على آثار الجريمة.
محاكاة هزلية للعدالة
لم تنطل المحاكمات الصورية التي عقدتها السعودية لإغلاق هذا الملف على أحد من المراقبين الحقوقيين، فرغم الأحكام التي تعاني من تأرجح وتراجع بين الجلسة والأخرى والضغوط التي مورست لتقديم أسرة خاشقجي العفو، فإن ذلك لم يحرك ساكنًا في مسار القضية التي تجاوزت جغرافيتها السعودية الضيقة.
المقررة الخاصة للأمم المتحدة، أغنيس كالامار، وصفت الأحكام الصادرة عن المحكمة الجزائية السعودية في القضية بأنها “لا تتصف بأي مشروعية قانونية وأخلاقية”، مضيفة على حسابها على مواقع التواصل الاجتماعي: “لقد أكملوا عملية (محاكمة) ليست عادلة أو منصفة أو شفافة”، واصفة تفاصيل المحاكمة بأنها “محاكاة هزلية للعدالة”.
أما فيما يتعلق بمسؤولية ولي العهد وضلوعه في الجريمة، أشارت المسؤولة الأممية إلى أنه يتمتع بحماية ضد أي تحقيقات فعلية في بلاده، داعية إلى عدم السماح بتبرئة المشاركين في جريمة قتل خاشقجي، محذرة في الوقت ذاته من عدم الانصياع لتلك الأحكام الهزيلة في تخفيف الضغط على الحكومات، حيث ترى ضرورة مواصلة الضغوط من أجل ضمان كشف المجرمين الحقيقيين، موجهة خطابها للدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن، التي تراقب بصمت المحاكمات في الرياض، على حد قولها.
أما خديجة جنكيز، خطيبة خاشقجي، فاعتبرت أن الأحكام الأخيرة “أفلتت المسؤولين الفعليين عن الجريمة”، واصفة إياها بأنها “استهزاء بالعدالة”، مضيفة في تغريدة لها “يعلم الجميع أن المسؤولين فعلًا عن مقتل جمال خاشقجي ليسوا الثمانية الذين تمت إدانتهم وسجنهم، لكن أولئك الذين خططوا وقرروا وأصدروا الأوامر باغتياله بهذه الطريقة البشعة”.
لم تقنع تلك الأحكام الشكلية الجانب التركي، الشريك الأصلي في مباشرة التحقيقات والمطلع على تفاصيل الواقعة، حيث أشار رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية فخر الدين ألطون إلى أن “الحكم النهائي الذي أصدرته المحكمة السعودية لا يُلبِّي توقعات تركيا والمجتمع الدولي”.
المسؤول التركي تعهد بعدم الرضوخ لمثل تلك القرارات التي من الواضح أنها تسعى لإسدال الستار على هذه القضية، لافتًا في سلسلة تغريدات له أنه “التزام قانوني وأخلاقي (بالنسبة إلى تركيا) أن نسلِّط الضوء على جريمة مقتل خاشقجي التي ارتُكِبت داخل الحدود التركية من أجل تحقيق العدالة، فهذه هي الطريقة الوحيدة لنضمن عدم ارتكاب فظائع كهذه مستقبلًا”، مطالبًا السلطات السعودية بالتعاون مع التحقيق الجاري في الجريمة بتركيا.
#JamalKhashoggi: 1.The Saudi Prosecutor performed one more act today in this parody of justice. But these verdicts carry no legal or moral legitimacy. They came at the end of a process which was neither fair, nor just, or transparent. https://t.co/nt4n2CqS21
— Agnes Callamard (@AgnesCallamard) September 7, 2020
مساعي تجميل الصورة
سابق ولي العهد الزمن لترقيع الصورة الممزقة التي شوُهت جراء العار الذي لاحقه بسبب هذه القضية ذات التفاصيل المرعبة، ساعيًا في ذلك إلى إرضاء حليفه الأمريكي دونالد ترامب الذي يتعامل مع المملكة على أنها “البقرة الحلوب” كما يحلو أن يسميها.
إستراتيجية التاجر التي يتبعها ترامب مع ابن سلمان آتت أكلها سريعًا، حيث إنعاش خزانة بلاده بمئات المليارات من الدولارت ما بين صفقات تسليح ومشروعات استثمارية متنوعة، هذا بخلاف ارتهانه للقرار السياسي السعودي في العديد من الملفات على رأسها “صفقة القرن” التي كانت السعودية بجانب الإمارات ومصر أبرز المروجين لها.
يعلم ولي العهد الطامع في كرسي العرش أن مفتاح الوصول إلى مبتغاه بيد الأمريكان أو هكذا يتوقع، وعليه ألقى بكل أوراقه على هذا الرهان، ضاربًا بمرتكزات بلاده الوطنية عرض الحائط، المهم أن يغسل ترامب سمعته المشوهة بسبب قضية خاشقجي، وهو ما حرص عليه الرئيس الأمريكي أكثر من مرة، ليس بدافع الإيمان بالأمير المتهور إنما سعيًا لمزيد من الحلب.
ديفيد إغناطيوس في صحيفة “واشنطن بوست” تساءل عن التطورات التي حدثت في السعودية منذ مقتل خاشقجي؟ مجيبًا عن ذاته بأن الكثير مما كان يطالب به الصحفي المقتول تحقق بعد رحيله، حيث سمح للمرأة بقيادة السيارة والسفر دون محرم وممارسة الرياضة بسهولة والتعيين في مناصب عامة مثل الدبلوماسية.
هذا بخلاف فتح المجال الترفيهي أمام الشباب السعودي في مقابل تضييق الخناق على النفوذ الديني، فبات للشباب اليوم الذهاب إلى دور السينما أو الحفلات الموسيقية أو مباريات المصارعة، وهو ما كان يطالب به خاشقجي مرارًا قبل ذلك وكان يتهم حينها بوابل من الاتهامات على غرار العلمنة واللبرلة بما يتعارض مع نهج المملكة في هذا الوقت.
لكن ما المقابل لذلك؟ يجبب على هذا السؤال الصحفي الأمريكي إغناطيوس بأن عامل الخوف قد تعمق بصورة أكبر بوفاة خاشقجي حين سجن ابن سلمان الكثير من المعارضين، واعتقلت ناشطات سعوديات، ومُنع أبناء المعارضين من مغادرة البلاد، هذا بخلاف سياسة تكميم الأفواة المتبعة مع الجميع دون استثناء حتى الأمراء منهم وأبناء الأسرة الحاكمة.
ويستشهد إغناطيوس على تلك الوضعية قائلًا “أخبرني السعوديون أنهم لا يحملون هواتفهم معهم عندما يذهبون للمجالس العامة المعروفة بالديوانيات، حتى لا يتم التنصت على حواراتهم. ويشترون “سيم كارد” من أمريكا لهواتفهم تجنبًا لرقابة الدولة، وقال لي سعودي: “الناس خائفون” و”هنا معارضة كثيرة لكن صامتة””.
عامان على الرحيل زاد فيهما خوف ولي العهد وتعمقت هواجسه، فبات يسحق كل من يغرد خارج السرب يمينًا ويسارًا، حتى حوله الخوف إلى دمية في أيدي حلفائه، ورغم ما يدعيه الأمير من قوة، فإنه يعاني من الرهاب على حد وصف الصحفي الأمريكي الذي قال إنه فقد ثقته بنفسه وأن شعبيته التي كانت لامعة قبل ذلك قد تشوهت كثيرًا خلال العامين الماضيين.
غاب الجسد وبقي الطيف
لم تدم أوهام الضالعين في مقتل خاشقجي بشأن إسدال الستار على القضية بتلك الأحكام المثيرة للسخرية طويلًا، فبعد مرور 24 شهرًا على جريمتهم النكراء ها هي تعود للأضواء مرة أخرى، وذلك عبر مذكرة الادعاء الثانية التي أعدتها النيابة العامة في مدينة إسطنبول قبل يومين بحق 6 من منفذي الجريمة.
المذكرة تعيد الملف لساحات القضاء مرة أخرى، لتبقى الجريمة بكل شخوصها وتفاصيلها التي تتكشف يومًا تلو الآخر وصمة عار تتناقلها المنصات الإعلامية والقضائية حينًا بعد حين، واضعة بذلك المليارات التي أنفقتها السلطات السعودية لغلقها للأبد أدراج الرياح دون جدوى.
وبينما تسير القضية عبر منصات المحاكم، التركية أو الدولية، هناك تطورات أخرى تبقي طيف خاشقجي حاضرًا بقوة على الساحة، وربما يمتد حضوره أكثر من حضور قاتليه والمتأمرين عليه من أبناء جلدته، حيث تحول الرجل إلى أيقونة للمعارضين في الداخل والخارج.
صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في تقرير لها قبل يومين كشفت عن إطلاق منظمة “الديمقراطية للعالم العربي الآن”، وهي حلم خاشقجي الذي كان يحلم بتحقيقه قبل رحيله، حيث تكفل أصدقاؤه بتدشين هذا الكيان الذي يهدف إلى كشف الخروقات والانتهاكات التي يرتكبها حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة العربية، وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان بوصفهما السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار والأمن والكرامة بالشرق الأوسط.
الجريمة التي ارتكبت بحق خاشقجي من الممكن أن تتكرر مع آخرين، في ظل حالة الرهاب التي تملكت ابن سلمان الساعي للحكم بأي ثمن، وهو ما كان يمكن أن يحدث مع سعد الجبري، ضابط الاستخبارات السعودي السابق ومستشار ولي العهد السابق الأمير محمد بن نايف، الذي اضطر لرفع دعوى قضائية في واشنطن ضد ولي العهد يتهمه بإرسال فريق لاغتياله في كندا.
حزب التجمع الوطني – يهدف إلى تأسيس المسار الديمقراطي كآلية للحكم في السعودية. أسسه مجموعة من أبناء الوطن، ووقع عنهم وأعلن البيان من ينوب عنهم. pic.twitter.com/7MnF7bW6EH
— حزب التجمع الوطني (@The_NAAS) September 23, 2020
ومع الوقت وخلال العامين الماضيين تحول الصحفي المغدور به في مقر قنصلية بلاده بإسطنبول إلى أيقونة للمعارضة في المنفى، حيث أعلن عدد من الشخصيات السعودية المعارضة في الـ23 من سبتمبر/أيلول الماضي تشكيل حزب سياسي تحت مسمى “التجمع الوطني” ليكون النواة الأولى لتأسيس نظام حكم ديمقراطي في المملكة بعيدًا عن بطش ابن سلمان وسياساته التي أرهقت البلاد ودفع الجميع ثمنها من سمعة المملكة ونفوذها الإقليمي.
وأمام كل تلك المحاولات لطمس الحقيقة على مدار عامين كاملين عبر إنفاق المليارات ومغازلة الداخل والخارج ودعم الحلفاء من هنا وهناك، بقى طيف خاشقجي حاضرًا بقوة، منغصًا منامات قاتليه ومفسدًا عليهم حياتهم في ظل سهام النقد والعار التي تلاحقهم أينما ذهبوا.