ترجمة وتحرير: نون بوست
استخدم الجيش الذي يقوده خليفة حفتر هذه المدينة الواقعة غربي ليبيا نقطة انطلاق لشن هجومه على طرابلس. في آثار تلك العمليات، وجد موقع “ميدل إيست آي” مشاهد صادمة في مكان يعج بالمقابر الجماعية.
انتشرت فرق الطب الشرعي في مزرعة عائلة هرودة التي تقع في مدينة ترهونة الليبية، وأخذت بدلاتهم الواقية ذات اللون الأبيض لون الصدأ ولم تعد ناصعة البياض من أثر التربة. حدد الفريق مناطق التنقيب بالطباشير، فبدت كأنها ملاعب كرة قدم، وتشير الأعلام المثلثة الصغيرة التي غرست بجانب الحفر إلى أماكن الجثث التي عُثر عليها في كل مكان.
ترهونة، تلك البلدة الريفية التي تقع على بعد 60 كيلومترًا جنوب شرق طرابلس، حيث تنتشر أشجار الزيتون على التلال المنخفضة التي ترتفع من السهل الساحلي الليبي، تبحث عن قتلاها.
بقايا دماء وأنسجة متحللة في مقبرة جماعية في ترهونة
وقع انتشال حوالي 80 جثة من تحت الأرض خلال شهرين ونصف، 56 منها انتُشلت من مزرعة هرودة وحدها. ويعتقد المسؤولون أن ثلاثة أضعاف هذا العدد من الجثث لا تزال مدفونة تحت حقول وبساتين ترهونة.
أفاد محمد علي الكشر، رئيس بلدية المدينة قائلا: “لا يزال يتعين علينا حفر الكثير من الأماكن، لقد وقع حفر 20 بالمائة فقط من هذه المنطقة. لقد قُتل ودُفن هنا أناس من جميع الأطياف، بمن فيهم طفل يبلغ من العمر 10 سنوات. إننا نعثر يوميا على جثث جديدة. كما دُفن رجل بسيارته، بينما كانت يداه مقيدتين في عجلة القيادة”.
تقتفي فرق البحث عن الجثث العلامات التي تشير إلى وجود أي تغييرات كيميائية في التربة، أو أكوام من التراب المتراكم في مكان ما، أو أي روائح تحدد مكان الجثث. في قبرين انتُشلت منهما الجثث في اليوم السابق، شكّل الدم والأنسجة المتحللة طبقة متحجرة حول أجسام الضحايا تحت الأرض. وقامت فرق الطب الشرعي بتصفية التربة وعثرت على بقايا العظام وكتل من الشعر، وانتشرت الرائحة الكريهة في أرجاء المكان.
تعيش ترهونة حالة صدمة وتعاني ندوبا نفسية أعمق بكثير من الحفر المنتشرة في كل مكان بحثا عن الضحايا.
في غضون 14 شهرا، تحولت هذه المدينة التي يبلغ عدد سكانها 40 ألف نسمة، والتي لطالما جذبت أراضيها الخصبة المستعمر الإيطالي، ثم معمر القذافي لاحقا، إلى قاعدة عسكرية شن من خلالها خليفة حفتر هجومه المشؤوم على طرابلس.
قُتل مئات المدنيين في المعارك الدائرة حول العاصمة الليبية بين نيسان/ أبريل 2019 وحزيران/ يونيو 2020، لكن في ترهونة، كان الناس يختفون بمجرد ارتكابهم أبسط المخالفات، أو الاشتباه في ولائهم لحفتر.
عندما سيطرت القوات الموالية لحكومة الوفاق على ترهونة في الخامس من حزيران/ يونيو، اكتشفت 106 جثث مكدسة في مشرحة المستشفى المحلي. وسرعان ما أدركت السلطات أن البلدة بها عدة مقابر جماعية. مزرعة هرودة هي الأكبر من بين ثماني مزارع تم العثور فيها على جثث إلى حد الآن، ويعتقد فريق البحث أن هذا العدد قد يرتفع إلى 12 مزرعة.
يقول محمد الكشر الذي عينته حكومة الوفاق الوطني على رأس المجلس البلدي بشكل مؤقت بعد السيطرة على المدينة، إن الأمر سيستغرق سنة على الأقل لحفر جميع المواقع المشتبه بها، لا سيما في ظل نقص المعدات وضعف الدعم الدولي. من جهته، دعا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى “تحقيق شفاف”، ولكن لم يتم تقديم سوى القليل من المساعدة إلى حد الآن.
وقال الكشر، وهو يحدق في حفرة انتُشلت منها 11 جثة مؤخرًا، إنه “من الناحية الدينية، تعتبر عملية الدفن بهذه الطريقة غير لائقة. وهذا ما يفعله تنظيم الدولة، إن هؤلاء الأشخاص الذين يقدمون على هذه التصرفات يشوهون الإسلام. لقد كانت عمليات القتل بمثابة رسالة مفادها أن مجرد معارضة الهجوم على طرابلس يمكن أن يؤدي إلى الموت. كل هذا تم بمباركة حفتر وحلفائه”.
ترهونة.. منصة انطلاق لقوات حفتر
لمدة خمس سنوات، حكمت ترهونة مجموعة من الإخوة السفاحين من عائلة الكاني، عُرفوا بميليشيا الكانيات، والتي يُطلق عليها أيضا اسم اللواء السابع. سيطرت هذه العصابة على ترهونة في سنوات عدم الاستقرار السياسي إثر الإطاحة بنظام القذافي، واكتسبت العائلة أهمية جيوسياسية بشكل أساسي مطلع السنة الماضية، عندما سعى حفتر إلى استخدام أراضيهم كنقطة انطلاق لهجومه على العاصمة الليبية.
لطالما كان حفتر، أمير الحرب المدعوم من الإمارات ومصر وروسيا والذي يقود مجموعة من الميليشيات تُعرف باسم الجيش الوطني الليبي، يتطلع للاستيلاء على طرابلس. لكن ما فاجأه هو أن المجموعات المسلحة من طرابلس ومصراتة احتشدت بقوة حول حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، وعرقلت هجومه في ضواحي العاصمة.
مع تقدم المعارك، قامت تركيا بإرسال طائرات دون طيار ومعدات ومقاتلين سوريين إلى ليبيا، مما أدى إلى قلب موازين القتال بشكل حاسم لصالح حكومة الوفاق الوطني، الأمر الذي أدى إلى تراجع جيش حفتر في حزيران/ يونيو الماضي.
خلال تلك الأشهر الـ 14، وعندما كانت ترهونة تعج بكتائب جيش حفتر والمرتزقة الأجانب، أصبح حلفاء اللواء المتقاعد من الكانيات متشككين على نحو متزايد في سكان المدينة الذين تعرضوا للقمع، الأمر الذي كان له عواقب وخيمة.
تحولت الميولات الإجرامية لدى عائلة الكاني إلى شك واضطهاد وصدامات، وأصبحت الانتهاكات ضد المعارضة ـ سواء كانت حقيقية أو وهمية ـ حدثا يوميا عاديا، واختفت أسر بأكملها في طرفة عين.
اليوم، بات من الممكن العثور على آثار القتل في كل حي تقريبا وفي كل مزرعة.
بالقرب من موقع بناء لم يتم فحصه إلى الآن في عملية البحث عن الجثث، توجد ثلاجة ملطخة بداخلها بالدماء الجافة. وفي مكان آخر، وُجدت سيارة بيضاء محطمة مليئة بالثقوب بين الأشجار، وبجانبها حذاءان أسودان، وكعب عال وخصلة من الشعر، وهو كل ما تبقى من ركابها.
حوّلت ميليشيا الكانيات تقاطعات ترهونة المزدحمة إلى نقاط تفتيش، وقامت قوات حفتر بسحب الرجال من سياراتهم بطريقة بشعة بسبب مخالفات مزعومة، واختفوا عن الأنظار منذ ذلك الحين.
يبيّن رئيس البلدية محمد علي الكشر ثقبا في سيارة مهجورة
كان أحد الطرق بجوار أرض مفتوحة، والمعروف باسم “مثلث الموت”، مكانًا مفضلا لعمليات الإعدام الميدانية. وكانت الأحياء المجاورة تشهد عمليات قتل من جهات ثلاث.
تم التعرف على معظم الذين عُثر عليهم في المستشفى، بما في ذلك الأطفال. لكن لم يُعرف إلا زوجان فقط من بين أولئك الذين تم انتشالهم من تحت الأرض، أحدهما رجل في الستينيات من عمره، عُثر عليه ملقى في بئر.
إن الكم الهائل من قصص الرعب التي يمكن أن يرويها أهالي مدينة ترهونة يمثل بالنسبة لهم عبئا ثقيلا، إذ يمكن لنقاش عابر أن يكشف أن أحد السكان يفتقد العديد من الإخوة والأقارب، فضلا عن مئات الأطفال الذين باتوا أيتاما.
هناك ارتياح واضح لرحيل قوات حفتر وميليشيا الكانيات، لكن الشكوك – سواء في بعض أهالي ترهونة أو في مؤسسات الدولة بشكل عام – لا تزال قائمة بقوة.
ووفقًا للهيئة العامة للبحث والتعرف على المفقودين في طرابلس، فقد تم الإبلاغ عن فقدان حوالي 270 شخصا في ترهونة. لكن مدير التعاون الدولي بالمنظمة، محمد زليتني، يقدر أنه لم يتم الإبلاغ عن 150 آخرين حتى الآن، مع استمرار الخوف من الأعمال الانتقامية في المدينة.
على الرغم من فرار عائلة الكاني في حزيران/ يونيو، إلا أن الخطر لا يزال قائما، حيث يشكو السكان من تلقيهم مكالمات هاتفية من الإخوة الكاني، يهددونهم فيها بالانتقام إذا كشفوا عن جرائمهم، ويؤكدون عزمهم على العودة من المناطق التي هربوا إليها في شرق ليبيا.
الإخوة الكاني يحكمون ترهونة
لا يبدو محمد الكاني كأمير حرب. كان الأخ الأكبر سنا والأكثر هدوءًا والأفضل تعليما من بين إخوته السبعة، وكان الكاني الوحيد الذي عمل في وظائف ذات رواتب جيدة نسبيًا، ضمن أجهزة الأمن وفي شركة النفط الحكومية. لكن خلف ذلك الوجه الهادئ، يختفي الجانب القاسي الذي يصعب التنبؤ به.
نظرا لأن محسن كان يريد الإستقلالية ويحتقر زملاءه في جيش حفتر، فقد كان مصدر إزعاج
في هذا الشأن، أكد جليل حرشاوي، المحلل والخبير في شؤون ترهونة، لموقع “ميدل إيست آي” أنه كان الرجل المفكر الذي أصبح بمثابة القائد، مثل آل باتشينو في فيلم “العراب”، ولطالما كان محمد العقل المدبر، الذي نادرا ما يلطخ يديه بالدماء. أما الأخوة الآخرون، فكانت مهامهم تنفيذ المهام بالأساس وتعتمد أكثر على الجهد البدني، بينما كان محمد العقل المدبر وراء العمليات. إذا أجريت محادثة مع محمد، فلن تشعر بأنك تحدثت للتو مع زعيم عصابة تسبب في قتل مئات الأشخاص”.
إلى جانبه محسن، وهو عسكري عنيد قاد هجمات الكانيات على طرابلس، سواء أثناء هجوم حفتر أو في صيف 2018، عندما هاجمت عائلة الكاني العاصمة في نزاع حول موارد الدولة.
ونظرا لأن محسن كان يريد الإستقلالية ويحتقر زملاءه في جيش حفتر، فقد كان مصدر إزعاج، حيث حصل على الأسلحة من حفتر ورفض تطبيق أوامره.
وبسبب ذلك، ظهرت رواية تفيد أن عناصر من جيش حفتر سهّلت جزئياً مقتله في ظروف غامضة في شهر أيلول/ سبتمبر مع شقيقه الأصغر، وهو ما أدى إلى رد فعل انتقامي وإعدام عشرات المعتقلين.
وكان الرجل الذي قاد حملة القمع في المدينة هو عبد الرحيم الكاني الذي يشبهه الحشوي برئيس جهاز المخابرات أو الشرطة السرية.
وكانت مهمة عبد الرحيم، الرجل ذو الرأس الحليق، الحفاظ على نفوذ عائلة الكاني في ترهونة بالتزامن مع هجوم طرابلس.
مجموعة صور من مواقع التواصل يظهر فيها محمد ومحسن وعبد الرحيم الكاني.
كسب الإخوة الكاني ثروتهم من عدة مصادر، من مصنع الأسمنت ومن المزارع ومن الاستيلاء على الأموال التي تحولها حكومة طرابلس إلى البلدية. كما قاموا كذلك بابتزاز السكان وحصلوا على الأموال لإطلاق سراح الأشخاص الذين يتم اختطافهم بشكل عشوائي.
ولكن مثل رجال المافيا، لعب الإخوة كذلك دور المصلحين، حيث قدموا تبرعات ومساعدات لسكان ترهونة الذين عانوا أوضاعا صعبة بسبب انهيار الاقتصاد الليبي.
بين سنة 2015 ولحظة الانضمام إلى جيش حفتر، سيطرت عائلة الكاني على ترهونة بالقوة ومارست العنف ضد خصومها وقامت أحيانا بعمليات تصفية. وإلى أن انطلق هجوم حفتر على طرابلس، وفّر حكمها الصارم حدََا أدنى من الاستقرار في المدينة.
وفي هذا السياق يقول الحرشاوي “إذا كنت تعيش في ليبيا سنة 2015، سترى حيثما نظرت أنك تعيش كابوسا. فطرابلس كانت خطيرة للغاية، وتنظيم الدولة كان موجودا في سرت وصبراتة، كما كانت هناك جثث على شواطئ مدينة زوارة وكان الأمر مروعا في كل مكان”. وأضاف “كانت ترهونة رائعة للغاية، آمنة وهادئة مثلها مثل كوريا الشمالية”.
راهن الإخوة الكاني على أن دعم حفتر لن يؤدي إلا إلى زيادة ثروتهم ونفوذهم، لكنه كان رهانًا خاسرا.
نهاية مأساوية
بحلول 13 تشرين الثاني/نوفمبر سنة 2019، لم تكن الأمور تسير على ما يرام بالنسبة لحفتر أو ميليشيا الكانيات.
فقد مات محسن، واستعادت حكومة الوفاق سيطرتها على مدينة غريان، كما أظهر هجوم جريء على حي في منطقة الداوون في ترهونة قبل شهر من ذلك التاريخ، أن الكانيات كانوا في خطر.
تزايدت حينها حالات الاختفاء، لذلك عندما تلقى أحمد سعيد عبد الحفيظ اتصالاََ قلقََا من شقيقه في ذلك المساء، كان يخشى حدوث الأسوأ.
فقد أحمد سعيد عبد الحفيظ خمسة أشقاء وصديقًا مقربًا من ميليشيا الكانيات المتحالفة مع جيش حفتر.
يقول عبدالحفيظ “كانت المكالمة قصيرة وكل ما تمكن من قوله هو أنه قد “تم توقيفي في سيارتي”، وانقطع الاتصال. أدركت على الفور أن عائلة الكاني احتجزته، وعلمت أن الأمور لن تنتهي بشكل جيد”.
لم تكن تلك المرة الأولى التي يواجه فيها عبد الحفيظ، البالغ من العمر 39 عامََا، ميليشيا الكانيات. فقبل سنيتن، ابتزوه وأجبروه على شراء الإبل بثمن باهظ. لكنه كان دائما يتعامل معهم بشكل جيد. وفي تلك المرة أيضا، كان يعتقد أن المال يمكن أن يجنبه المتاعب.
“حوالي الساعة 12 صباحًا، ذهبت إلى منزل عائلتي، ووجدت بقية إخوتي وطلبت منهم جمع أكبر قدر ممكن من المال لدفع الفدية”.
عاد إلى المنزل وأطفأ جميع الأنوار واستلقى بجانب زوجته، محاولا أن لا يلفت الأنظار إلى أنه موجود في المكان. وبعد ليلة مؤرقة سمع أخبار مروعة عن اعتقال بقية إخوته، وعرف أنه يجب عليه الهروب، فتسلل من ترهونة وسار 80 كم شمالاً إلى مدينة تاجوراء بمساعدة صديق اُعتقل لاحقََا لأنه ساعده.
في هذا الصدد، يقول عبد الحفيظ وهو جالس في غرفة الاستقبال بمنزل أسرته، والذكريات ترهق وجهه الشاحب “كل ما فعلوه لم يكن معقولا. لا يمكنك حتى قياس سلوكهم الإجرامي، لم يكن هناك ما يوقفهم”. ويضيف ” فقدت خمسة أشقاء وصديقا عزيزا بسبب عائلة الكاني. لم يكن هناك سبب واضح لاعتقالهم، فنحن تجار ولسنا من القاعدة أو من الإخوان المسلمين”.
مثل كثير من سكان ترهونة الذين أُجبروا على الفرار، هرع عبد الحفيظ عائداً إلى مسقط رأسه في اليوم الذي غادرت فيه الكانيات، وقال متحدثا عن عودته “عندما دخلت منزل عائلتي أُغمي على والدتي مرتين. كنت أصرخ “أين إخوتي، أين إخوتي؟” كنت أعلم أن هناك شيئا ما غير طبيعي”. حتى عندما فُتحت السجون، لم يكن هناك أثر لأخوته.
يقول عبد الحفيظ “الكانيات متوحشون وليسوا بشرََا. لقد سمعنا تقارير تفيد أن هناك أشخاص تم رميهم للأسود”.
معتقلات التعذيب في ترهونة
لعدة أسابيع، سرت الشائعات عن السجن الذي أقامته ميليشيا الكانيات في مختبر زراعي قبل مغادرتها ترهونة، وكانت عائلة المكاني على علم بذلك.
وفي كانون الأول/ديسمبر، أقاموا تحصينات أرضية ترابية على الجانبين، خوفََا من تعرضهم لهجمات انتقامية من عائلات المحتجزين هناك.
صورة لمحسن الكاني على جدران أحد المعتقلات التابعة للكانيات.
عندما استولت قوات حكومة الوفاق الوطني في النهاية على المركز، وجدت سبع غرف صغيرة مساحتها متر مربع، كانت كل واحدة تتسع بالكاد لرجل محني الظهر. وفوق الغرف مباشرة، كانت توجد أكوام من الرماد بسبب الحرائق التي أشعلها الكانيات لتحويل الحجرات الصغيرة إلى ما يشبه الأفران.
في هذا السياق يقول محمد كشر “عندما اكتشفنا هذا المكان وجدنا رجلاً تم وضعه داخل أحد الأفران. كان على قيد الحياة ولكن في حالة مزرية، ورفض الخروج معتقدََا أننا من الكانيات وأن ذلك كان مقلبا”.
اكتسى جزء كبير من المبنى باللون الأسود بسبب الحرائق التي أشعلها سكان ترهونة عندما أدركوا أنه لا يمكنهم العثور على أقاربهم، لكن المراتب وبصمات الأصابع على الجدران تشير إلى أن الزنزانات تم استخدامها سابقََا.
ويقول علي أبو زويد، الذي احتُجز في إحدى هذه الغرف لمدة 45 يومًا لم يكد ينطق خلالها كلمة واحدة إلى بقية المعتقلين عن يمينه ويساره، “بقينا صامتين تمامًا أثناء وجودنا هناك، لأنه لم يعتقد أحد أنه سيكون من الآمن التحدث مع بعضنا البعض”.
ليس من الواضح تمامََا سبب اعتقاله واحتجازه هناك، لكن أن أبو زويد يعتقد أنهم احتجزوه بسبب قتاله إلى جانب حكومة الوفاق الوطني ضد تنظيم الدولة في سرت سنة 2015، ثم رفضه حمل السلاح ضدهم في طرابلس.
خسر أبو زويد 30 كيلوغراماً من وزنه خلال شهر ونصف. واقفََا خارج زنزانته السابقة، قال متحدثا عن تلك الفترة “عندما كانوا يأخذون أحدََا للاستجواب، كنا نسمع طلقات نارية.. في بعض الأحيان كان السجناء يعودون إلى زنزاناتهم، وفي بعض الأحيان يُقتلون. وبين الحين والآخر كانوا يشعلون النيران فوق الغرف – وكل هذا يعتمد على مزاج حراسنا”.
احتُجز علي أبو زويد في هذه الزنزانة الشبيهة بالفرن لمدة 45 يومًا.
كما استخدم الكانيات فرعًا أمنيًا سابقًا بوزارة الداخلية كمركز للاحتجاز، اعتقلوا فيه غالبية السجناء، وتم حشر العشرات في ستة غرف مليئة بالزجاجات البلاستيكية المستخدمة كمراحيض. في إحدى الزنزانات، تجد أحذية الأطفال زاهية الألوان متناثرةً على الأرض.
على غرار معتقل المخبر الزراعي، لا يزال غالبية الأفراد الذين احتجزوا هنا في عداد المفقودين. ويقتصر ما تركه الكانيات خلفهم، على فلقة كانت تُستخدم في ضرب أقدام المعتقلين، ولوحة على الجدران لمحسن الكاني.
تم حفر أسماءٍ أشخاص وأماكن وبعض التواريخ على الأبواب المعدنية الثقيلة التي احتُجز خلفها سكان ترهونة. يعتقد المسؤولون الذين يحققون في حالات الاختفاء أن تلك التواريخ تدل على الأيام التي حدثت فيها وقائع بارزة، مثل عمليات التصفية. كما أن هناك بعض النقوش التي قد تشير إلى أعداد القتلى آنذاك.
إرث ثقيل
لا يزال سكان ترهونة يدفعون ثمن ما أصاب النسيج الاجتماعي للمدينة، حيث خلقت ميليشيا الكاني الكثير من العداوة بين السكان. يقول أولئك الذين تمكنوا من الفرار من المدينة إنهم ضحية الشائعات المغرضة.
ولكن بالنسبة لنساء مثل غزالة علي أونيس، التي شاهدت قوات الكاني وهي تخطف سبعة من أبنائها، فإن إعالة 40 حفيدا تشكل معاناة حقيقية. تقول أونيس وهي تمرر أصابعها على شعر أحد الأطفال “هذا أكبر الرجال سنًا لدينا الآن، عمره 13 سنة”.
محاطة بالأطفال، تتطلع أويس إلى السماء وترفع ذراعيها، وتقول بصوتٍ يائس “لا أريد المال أو الطعام. لا أريد سوى أبنائي، ولو واحدًا فقط”.
دون العثور على جثة، قد يكون تجاوز الماضي شيئا شبه مستحيل من الناحية النفسية، ناهيك عن الجانب الاقتصادي. بموجب الشريعة الإسلامية، لا يمكن للمرأة أن تتزوج مرة أخرى حتى يتم التأكد من وفاة زوجها. إلا أنه مع فقدان الكثيرين، وظهور الجثث الكثيرة التي لم يتم التعرف عليها بعد، لا تستطيع العديد من نساء ترهونة طي الصفحة واستئناف حياتهن مع معيل جديد.
تقول أونيس: “عليّ الآن أن أفعل كل شيء بنفسي، وأن أقدم كل ما لدي لأحفادي وأمهاتهم”.
على الرغم من مرور أسابيع منذ آخر مرة قامت فيها ميليشيا الكاني بالتجول في هذه الشوارع، إلا أن حالة التوتر والخوف مازالت تسيطر على السكان.
أخبر السكان موقع ميدل إيست آي أنهم يتجنبون الإبلاغ عن الأقارب والأصدقاء المفقودين لأنه لا يزال من الممكن رؤية بعض المتواطئين مع عائلة الكاني يحومون حول مبنى البلدية.
أصبحت رؤية رجال مسلحين مشهدا صادما لأطفال عائلة جاب الله، إذ ينفجرون بالبكاء ويختبئون في كل مرة تمرّ فيها الأجهزة الأمنية أمام منزلهم.
أصيب طارق علي جاب الله برصاصة في الشارع أمام ابنه الصغير في كانون الأول/ ديسمبر. وفي اليوم التالي، اعتقلت ميليشيا الكاني 10 أفراد آخرين من العائلة. وقد نُقل أن قائد العملية، صبري الغرب، وهو من الموالين سابقا لنظام القذافي، أمر رجاله قائلا “لا تتركوا أي رجل”.
ربيعة جاب الله، الثالثة من اليمين، ونساء أخريات من عائلتها.
قالت ربيعة جاب الله وهي تكبح دموعها “لقد فقدت زوجي وأربعة أشقاء وعمي وأربعة من أقربائي. ما زلت مذعورة”. وتبعتها فتاة مراهقة تجلس خلفها قائلة “أصيب أخي بالرصاص”.
وأضافت أخرى: “أبي مفقود. أشتاق إليه. لدي أحلام، وأردت أن أصبح طبيبة، لكن لا يمكنني القيام بذلك من دونه”.
أعمال انتقامية
شهدت الأيام التي تلت سيطرة قوات حكومة الوفاق الوطني على ترهونة حالة من الفوضى، حيث سُجلت عمليات نهب وحرق واعتقالات وثقتها منشورات المقاتلين المنتصرين على مواقع التواصل الاجتماعي.
تم إطلاق النار وقتل الأسود التي كان يرعاها محسن الكاني، والتي يُشتبه بأنه كان يطعمها جثث ضحاياه في منزله المهجور.
قالت مصادر من المدينة لموقع ميدل إيست آي حينها إنه تم تنفيذ عمليات إعدام خارج نطاق القانون. وعلى الرغم من أن مصادر في غرب ليبيا اعترفت أن أعداد ضحايا عمليات القتل الانتقامية قد تكون بالعشرات، إلا أن الكشر يصر على مقتل شخصين فقط في نزاع بين العائلات.
استغلت وسائل الإعلام الموالية لحفتر تلك الرواية، إذ تجاهلت المقابر الجماعية وألقت باللوم على المرتزقة السوريين، كما نأت بنفسها عن ميليشا الكاني.
ومع ذلك، لا يزال مقاتلو الكاني وعائلاتهم – والبالغ عددهم حوالي 15000 شخص- في ضيافة حفتر في شرق ليبيا.
صاهر عبد الرحيم الكاني عائلة من إحدى القبائل الكبيرة في مدينة أجدابيا التي شارك مقاتلوها إلى جانب ميليشيا الكاني في الهجوم على طرابلس، كما نُقل أنه سافر إلى ألمانيا لتلقي العلاج.
مع ذلك، لا يبدو أن عائلة الكاني موضع ترحيب في الشرق. وتنقل التقارير أن القائد في جيش حفتر محمود الورفلي، المطلوب من قبل المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، رفض السماح لعائلة الكاني بالاستقرار في بنغازي.
في هذا الإطار، يقول المحلل حرشاوي “لا يتقبلهم أحدٌ هناك، لكونهم قنبلة توشك على الانفجار. إذا ذهبتم إلى الحرب معًا، ثم تبين أن النتائج كانت كارثية على كل المستويات، عندئذ سوف تكرهون بعضكم البعض”.
على الرغم من ذلك، أشاد حفتر وداعموه، بما في ذلك وسائل الإعلام الإماراتية، بميليشيا الكاني خلال هجوم طرابلس وشددوا على شرعيتها كجزء من الجيش الليبي.
في إحدى مراحل الهجوم على طرابلس، تم دمج ميليشيا الكاني مع اللواء 22 ضمن اللواء التاسع، مما عزز مكانتها في صفوف قوات حفتر.
يقول حرشاوي “أنا متأكد من أن حفتر لم يتلق رسالة نصية في كل مرة يُقتل فيها طفل، بالطبع لا، لكن هذا لا يقلل من من مسؤوليته وتواطؤه. بإمكانك وصفه بالتورط غير المباشر، إذا شئت.. لكنه يبقى تواطؤًا مع مجرم يعرف الجميع حقيقة ارتكابه لتلك الفظائع”.
حذاء كعب عال بالقرب من سيارة مليئة بالثقوب نتيجة طلقات رصاص.
صرحت فاتو بنسودا، المدعي العام بالمحكمة الجنائية الدولية، بأن العثور على رجال ونساء وأطفال في مقابر جماعية في ترهونة “قد يشكل دليلاً على جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية”.
من جهته، قال مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لموقع ميدل إيست آي إنه “يتابع هذه المسألة تحديدًا مع السلطات الليبية المختصة، وفقًا لمبدأ التعاون، من أجل التحقيق في هذه المقابر الجماعية”.
في غضون ذلك، وصف الجيش التابع لخليفة حفتر المقابر الجماعية بأنها “جرائم ضد الإنسانية”.
وأضاف المتحدث باسم قوات حفتر، اللواء أحمد المسماري، في لقاء مع موقع ميدل إيست آي أن تلك الجرائم “ارتُكبت قبل أن يشن الجيش هجومه على طرابلس، عندما كانت ميليشيا الكاني تابعة لقوات حكومة الوفاق الوطني”.
لا يلتزم المسماري بإرسال أي مطلوبين في أراضي الجيش الوطني الليبي إلى لاهاي إذا طلبت المحكمة الجنائية الدولية ذلك، ولم يجب على أسئلة حول ما إذا كانت قوات حفتر تتحمل المسؤولية عن الجرائم التي ارتكبتها الميليشيات التي تقاتل تحت رايتها.
في ترهونة، هناك قناعة تترسخ يوما بعد يوم أنه لا يمكن استعادة رفات جميع المفقودين في المدينة إلا إذا كشفت ميليشيا الكاني عن مكان وجودهم. يقول الكشر في هذا السياق “يعرف أولئك الموجودون في الشرق مكان دفن الجثث”.
وبالنسبة للناجين من سكان ترهونة مثل ربيعة جاب الله، يقع على عاتق حفتر عبء الاعتراف بجرائم القتل التي ارتكبت في عهده والتوقف عن توفير الغطاء للمسؤولين عنها. تقول ربيعة: “نريد أن تضغط الأمم المتحدة على حفتر. كل ما نريده هو أن يتم تقديم المجرمين الذين فروا إلى الشرق أمام العدالة. سوف يفعلون في الشرق ما فعلوه هنا”.
المصدر: ميدل إيست آي