“مملكة الخوف” السعودية.. بعد مقتل خاشقجي وحملات القمع المتصاعدة

مر عامان على مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي الذي شغلت جريمة قتله العالم ودفعت المملكة العربية السعودية إلى منحدر وعر، إذ كان ارتكاب هذه الجريمة بليغ الأثر على مملكة آل سعود، فقد ساهمت في تعرية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أمام الرأي العام، بعد أن أكدت العديد من التقاريرضلوعه في تصفية خاشقجي.
بثّ مقتل الصحفي خاشقجي الخوف في قلوب السعوديين داخل البلاد وخارجها، الأمر الذي دفعهم إلى اتخاذ إجراءات وقائية للاحتماء من بطش محمد بن سلمان المتزايد، فمنذ تاريخ 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، تغيّر وجه السعودية على كافة الأصعدة أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا بشكل كبير، وهو التغيّر الذي أعقب الحياة الجديدة التي أتى بها محمد بن سلمان منذ وصوله إلى ولاية العهد في يونيو/ حزيران 2017.
إذ كانت الاعتقالات التعسفية للصحفيين المطالبين بالإصلاح سياسةً عامة في السعودية، إلا أن مقتل خاشقجي على يد فريق بن سلمان، أعطى نقطة تحول في مسيرة الحياة الصحفية في المملكة التي تعتقل إلى الآن صحفيين كانوا قد عبروا عن بعض الأراء مثل خالد العلكمي وزهير كتبي وسامر الثبيتي وغيرهم.
وذلك عدا عن الحملة التي نفذتها المملكة في أبريل/ نيسان 2019 ضد نشطاء وكتاب ومدونين وصل عددهم إلى 15 معتقلًا، ويضاف إلى ذلك ما تفيد به منظمة “مراسلون بلا حدود” بأن 30 صحفياً ومدوناً تم اعتقالهم في عهد بن سلمان.
الهلع ينتشر بعد مقتل خاشقجي
خلق ابن سلمان حالة من الخوف والهلع، حتى باتت السعودية مقبرةً للرأي، فلا يتجرأ أحدٌ على انتقاد السياسات المنتهجة تجاه اليمن أو المصالحة مع قطر أو حتى انتقاد التطبيع، كما أصبحت المؤسسات السعودية أداة لدى ولي العهد لقمع الأراء المخالفة وضربها، إذ تحدثت بعض التقارير أن الأمير محمد مهتم “بإنشاء مؤسسات تهتم بشراء أو تطوير برامج تجسس لمراقبة الصحفيين والإعلاميين والمعارضين لسياساته داخل وخارج المملكة”.
أدت هذه الأحداث المتلاحقة في المملكة إلى خوف ورعب ساد بين السعوديين تجاه السياسة العامة لابن سلمان، وهو الأمر الذي تساءل عنه سابقًا الصحفي المغدور جمال خاشقجي في إحدى مقالاته قائلًا: “لماذا ينتشر هذا المناخ من الخوف والترهيب، فيما يعدُ زعيم شاب (ابن سلمان) يتمتع بكاريزما بالإصلاحات التي طال انتظارها لتحفيز النمو الاقتصادي وتنويع اقتصادنا؟”.
وبحسب تقارير صحفية فقد بدأت شريحة من السعوديين باتخاذ إجراءات تؤمن لهم الحماية من ولي العهد، وهذه الشريحة تزيد اتساعًا يومًا بعد يوم، إذ يقول كاتب الشؤون الخارجية في صحيفة واشنطن بوست ديفيد أغناتيوس إن مواطنون سعوديون أخبروه أنهم “لا يأخذون هواتفهم في التجمعات التقليدية المعروفة باسم الديوانيات، حتى لا يتم اعتراض محادثاتهم بشكل سري”، مشيرًا إلى أنهم “يشترون أرقام هواتف أمريكية هربًا من مراقبة ولي العهد”، ووفقًا لمداخلة شخص سعودي للصحفي الأمريكي فإن “الناس خائفون، وهناك الكثير من المعارضة الصامتة”.
ولفت أغناتيوس إلى أن “قبضة بن سلمان على السلطة تبدو قوية كما كانت دائماً، ويرجع ذلك جزئياً إلى مناخ الخوف بعدما سحق المعارضة داخل العائلة المالكة، وأرهب الأمراء والأثرياء السعوديين الآخرين من خلال الاستيلاء على أصولهم”.
يأتي ذلك كله على خلفية عمليات التجسس التي يقوم بها ضد معارضيه واعتقالهم، فـ”لم تترك السعودية طريقة للتجسس إلا واتبعتها، إذ كانت محكمة أمريكية قد اتهمت اثنين من الموظفين السابقين في شركة تويتر، وشخصاً سعودياً ثالثاً، بالتجسس لحساب المملكة على حسابات منتقدين لسياساتها”.
بين اعتقالات الأمراء السعوديين في الريتز عام 2017 ومقتل خاشقجي 2018 سعت بعض العائلات السعوديّة إلى الحصول على جنسيات أجنبية، وقد كشفت صحيفة مالطية أن 62 سعوديًا أصبحوا مواطنين مالطيين، بعد دفعهم لملايين اليوروهات ثمنًا للجوازت المالطية.
وفي تصريحه لموقع المونيتور قال المحامي الكندي ديفيد ليسبيرانس “لدي عملاء أفلتوا من واقعة فندق ريتز كارلتون؛ لأنهم كانوا حذرين بما يكفي لتأمين جنسية ثانية لأنفسهم مسبقًا، اللحظة التي قرروا فيها الاستعانة بخدماتي تعني أنهم استشعروا الخطر”. كما كشف تحقيق صحفي أن طلبات الحصول على الجنسية من السعودية ارتفعت منذ صعود ولي العهد محمد بن سلمان إلى السلطة.
إضافةً إلى شراء الجنسيات، يعمل السعوديون على شراء عقارات خارج المملكة نتيجة الخوف من المستقبل المجهول في ظل حكم ابن سلمان، حيث جاءت السعودية في المرتبة الثانية بين قائمة أكثر مبتاعي العقارات في تركيا، وأشارت بعض الدراسات إلى أن نسبة الاستثمار السعودي في المجال العقاري التركي قد وصل إلى 30% تقريبًا من حجم الاستثمار العقاري التركي ككل.
يُذكر أنه بعد عملية الريتز انتقل رجال الأعمال السعوديون والمقيمون العرب في المملكة إلى تركيا، وبهذا الصدد تعمل السلطات السعودية وتحت حجج متعددة على تحذير مواطنيها من الاستثمار في تركيا.
لم يرق لابن سلمان ازدياد الإقبال السعودي على العقارات التركية أو حتى المنتجات التجارية، حيث حذرت السلطات السعودية مواطنيها من السفر بقصد السياحة إلى تركيا، كما قررت السلطات السعودية منع شراء السلع المصنعة في تركيا، بعد حظر غير رسمي فرضته قبل ذلك.
ابن سلمان مستمر بانتهاك الحريات
لم يرتدع محمد بن سلمان من مقتل جمال خاشقجي، بل أصرّ على أن يستمر بأفعاله غير المحسوبة، فقد كشفت صحيفة الغارديان أن ولي العهد السعودي له علاقة مباشرة باختراق هاتف جيف بيزوس مؤسس شركة أمازون ومالك صحيفة واشنطن بوست، وحمل مسؤولون من الأمم المتحدة السعودية بعملية الاختراق داعين واشنطن ولندن بالتحقيق بالقضية.
أعلن بيزوس بعد الحادثة عن محاولة لابتزازه بالتهديد بنشر “صور حميمة”، وألمح حينها إلى استياء السعودية من تغطية صحيفة واشنطن بوست لمقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، الذي كان يكتب مقالات للصحيفة
وبعد مقتل خاشقجي ساءت العلاقات بين بيزوس والرياض، وبحسب صحيفة الغارديان فإن بن سلمان أرسل رسالة مشفرة إلى بيزوس تحوي فيروسًا تم من خلاله اختراق الهاتف واستخراج البيانات منه.
بعيدًا عن قصة بيزوس، برزت في الأشهر الأخيرة قضية ضابط المخابرات السعودي السابق سعد الجبري والذي خرج مطالبًا محمد بن سلمان بتعويضات على خلفية محاولات تصفيته بأمر من ولي العهد، ويذكر أن الجبري لم يكن معارضًا لابن سلمان، إلا أنه كان اليد اليمنى لولي العهد السعودي السابق نايف بن عبد العزيز آل سعود المُزاح من منصبه لصالح ابن سلمان.
جاء في دعوى الجبري أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يقف وراء محاولة اغتياله بهدف إسكاته وذلك بعد أسبوعين من اغتيال الكاتب جمال خاشقجي، وتضمنت وثائق تم نشرها أن “فرقة النمور” المكلفة بالاغتيال حاولت دخول كندا بتأشيرات سياحية، إلا أن السلطات الكندية اشتبهت في أعضاء الفريق الذين حاولوا التمويه بادعاء عدم معرفة بعضهم البعض، ولم تسمح إلا لأحدهم بالدخول.
وتضمنت الدعوى القضائية نص رسالة من ابن سلمان يطلب فيها من الجبري العودة خلال 24 ساعة وإلا سيقتل. وتشير وثائق الجبري إلى وجود فريق من المرتزقة الشخصيين تحت مسمى “فريق النمور” لتصفية المعارضين السعوديين تحت إشراف ولي العهد.
تضيف الصحيفة الأمريكية التي كان جمال خاشقجي أحد أبرز كتابها: “محمد بن سلمان استمر في حبس الأمراء ورجال الأعمال والنشطاء الذين يعتبرهم مصدر تهديد، من دون عناء توجيه الاتهامات إليهم حتى”. وتشير إلى أنه “لم يُطلق سراح أي من الناشطات في مجال حقوق المرأة الذي يبلغ عددهن أكثر من عشرين ناشطة ممن تعرضن للاعتقال منذ عام 2018 بشكل كامل”.
مع مرور الذكرى الثانية لمقتل خاشقجي وبعد هذا الكم من ملاحقة المعارضة السعودية في الخارج، مرّرت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي قانون حماية المعارضين السعوديين، وقال عضو الكونغرس الأميركي جيري كونولي، إنه “صاغ القانون لمحاسبة السعودية على قتل جمال خاشقجي واعتداءات أخرى ضد منتقدي المملكة”.
يضيف عضو الكونغرس الأمريكي: “إن القانون يبعث برسالة قوية وواضحة بأن الولايات المتحدة تعارض الإعادة القسرية للمعارضين والمنتقدين السعوديين في الخارج أو ترهيبهم أو قتلهم”، موضحًا أن القرار “سيضمن أن الولايات المتحدة لن تسمح بأي حال من الأحوال بمثل هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان”، مشيرًا إلى أن “عدم اتخاذ إجراء وغضّ الطرف عن هذه الانتهاكات لن يؤديا إلا إلى تمكين حملة التخويف السعودية العالمية”.
بالنهاية، دفع مقتل خاشقجي ولي العهد محمد بن سلمان إلى أن يكون أكثر عنفًا وتهورًا تجاه معارضيه، حتى ارتبط اسم السعودية بالخوف وانعدام الشعور بالأمان، سواء بالنسبة إلى المعارضين السياسيين أو المواطنين العاديين، أو أصحاب النفوذ المالي، وذلك إلى جانب حقيقة أخرى وهي أن العدالة لخاشقجي وغيره من ضحايا هذا النظام الوحشي لم تتحقق بعد.