خلال الربيع العربي، ابتعدت قطر عن دورها التقليدي في السياسة الخارجية باعتبارها وسيطاً دبلوماسيّاً، لقبول التغيير في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ودعم الدول التي تمرّ بمراحل انتقالية. رأى اللاعبون الإقليميّون أن قطر تبالغ في مقاربتها، وازداد التشكيك في دوافع الدوحة السياسية. تتأقلم القيادة القطرية الجديدة، التي استلمت سدة الحكم في حزيران/يونيو 2013، مع هذا الواقع عبر العودة إلى اعتماد سياسة خارجية أكثر براغماتية، ومعالجة تداعيات دعمها للحركات الإسلامية في المنطقة.
لعبت قطر دوراً حيوياً في الأشهر الأولى الصاخبة من الربيع العربي. إذ هي بلورت، عبر شبكة الجزيرة الفضائية، سرديات الاحتجاج البازغة، كما أنها عبأت الدعم العربي، بداية لصالح التدخّل الدولي في ليبيا في آذار/مارس 2011، ثم لاحقاً لفرض العزل الدبلوماسي على نظام بشار الأسد في سورية. وفي خضم مرحلة من الغموض والشكوك، قدّمت قطر صورة لبلد مستقر ومزدهر، حتى حين تمدّدت الاحتجاجات إلى دول مجلس التعاون الخليجي.
علاوة على تعزيزه وتمليعه صورة قطر في أنحاء العالم، أشاع هذا الاستقرار الثقة في صدور قادة البلاد – الأمير حمد بن خليفة آل ثاني ورئيس الوزراء حمد بن جاسم آل ثاني- وحفّزهم على دعم قوى الإسلام السياسي الصاعدة في الدول التي تمرّ في مراحل انتقالية، وأيضاً على تزعم التفاعل الإقليمي مع الانتفاضة في ليبيا وسورية تحت شعار السعي إلى إيجاد حلول عربية للمشاكل العربية.
امتلكت قطر، على وجه الخصوص، القدرة على تحويل الكلمات إلى أفعال، لأنها تسنّمت الرئاسة الدورية للجامعة العربية في الفترة 2011-2012، وشعرت براحة أكبر من الدول المجاورة إزاء رياح التغيير السسياسي في الدول التي لفح وجهها الربيع العربي. مثل هذه السياسات توّجت عقداً ونصف العقد من السياسة الخارجية القطرية. ففي السنوات التي سبقت الربيع العربي، راكم قادة قطر شهرة متنامية بوصفهم وسطاء دائمين، بهدف توفير مساحة ومكانة لهم في الدبلوماسية الإقليمية. إضافة إلى ذلك، مكّن القرار بعيد النظر، الذي اتُّخِذ في أوائل التسعينيات لبناء البُنى التحتية للطاقة، قطر من مراكمة وإطلاق أشكال معتبرة من القوة الناعمة. فالعقود طويلة الأمد الخاصة بالغاز الطبيعي المسال، ربطت حاجات الشركاء الخارجيين إلى أمن الطاقة بالاستقرار الداخلي في قطر، هذا في حين كانت تُستثمَر تراكمات ضخمة من الرساميل في كلٍّ من قطر والخارج في شكل استحواذات لها رنين واستثمارات تجذب الانتباه. وقد سمحت العقود طويلة الأمد لقطر بتنويع علاقاتها الدولية، من خلال جعل مروحة من البلدان لها مصلحة في الاستقرار القطري. وشكّل تقاطع هذه العوامل والتوجّهات أُسُس صعود قطر كقوة إقليمية ذي باعٍ دوليٍّ منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وأضفى الواقعية على الزعم بأنها أحد مراكز الشرق الأوسط الجديد.
بيد أن النجاح الأوّلي لقطر في تشكيل التفاعل الإقليمي مع الانتفاضات، لم يكن مقدَّراً له أن يستمر. فمع تباطؤ عمليات التغيير في العالم العربي، بدأ أمير قطر الجديد الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يواجه مروحةً مختلفةً من التحديات لم يعاينها سلفه، خصوصاً بعد إعادة تثيبت السلطوية في مصر على إثر إطاحة حكم الإخوان في تموز/يوليو 2013. وفي ضوء الحملة المتواصلة التي شنّتها السعودية والإمارات العربية المتحدة لتقويض جماعة الإخوان المسلمين في مصر مع تفرّعاتها الإقليمية، تمّ وضع الدعم القطري لإخوان مصر تحت الرقابة المكثّفة في الرياض وأبو ظبي. وتواجه حكومة قطر الجديدة الآن المهمة الصعبة المتعلقة بتخفيف دعم الحكومة السابقة العلني للإسلام السياسي، وفي الوقت نفسه إعادة تحديد طبيعة انخراطها مع الشركاء الإقليميين والدوليين.
صحيح أن النخب الجديدة في قطر تقول إن شيئاً لم يتغيّر في أعقاب إطاحة الحكومة المدعومة من الإخوان في مصر، إلا أن سلوكها على المسرح العالمي بعد حزيران/يونيو 2013 يشي بعودةٍ إلى مقاربات أكثر حذراً في المنطقة. فقد سعى الأمير تميم إلى موازنة عملية الحفاظ على استقلالية قطر في صنع القرار، مع اتخاذ إجراءات حصيفة لبناء الثقة التي لايزال يتعيّن عليها تهدئة روع وقلق زميلاتها في مجلس التعاون الخليجي.
وهكذا، وفي حين أن القيادة القطرية في ظل الأمير تميم عدّلت تكتيكاتها، إلا أن الحكومة لاتزال تواجه ردود فعل مضادّة على سياساتها إزاء الربيع العربي. وإذا ما أرادت قطر تجاوز إرث الربيع العربي واستعادة سمعتها كوسيط ودبلوماسي، فسيكون عليها أيضاً التخلّي عن القيادة الإقليمية، والعمل بدلاً من ذلك كمسهّل للحوار والمفاوضات الهادئة بين الأطراف التي لاتستطيع الانخراط في اتصالات مباشرة مع بعضها البعض. وهذا يوفّر فرصاً جديدة للتعاون الأميركي مع قطر، فيما تدخل عمليات الانتقال السياسي عبر الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مرحلة جديدة ملتهبة وعصية على التنبؤ.
على الرغم من البداية الصاخبة للعام 2014، ومع اقتراب العام الأول المليء بالتحدّيات من نهايته بالنسبة إلى القيادة الجديدة، ألمح تطوّران اثنان إلى عودة دور قطر كطرف محاور في تسهيل الاتصال غير المباشر بين الأطراف المتباعدة. أشارت الحالتان إلى أن المسؤولين القطريين بدأوا بالعودة إلى الأصول وباتوا يعطون الأولوية لمقاربة أكثر هدوءً وتحفّظاً تجاه الوساطة بعيدة كل البعد عن جعجعة مغامرات أسلافهم الملفتة للأنظار في الساحة الإقليمية.
تمثّل التطور الأول في مشاركة قطر في ترتيب صفقة تبادل الأسرى التي تم فيها إطلاق خمسة من سجناء طالبان ووضعهم في عهدة قطر، في مقابل الإفراج عن الرقيب في الجيش الأميركي باوي بيرغدال. وكانت قطر قدّمت نفسها منذ فترة طويلة بصفتها وسيطاً محتملاً بين الحكومة الأفغانية وبين حركة طالبان، على الرغم من أن محاولة لتسهيل الحوار جرت في حزيران/يونيو 2013 كانت قصيرة الأجل وفاشلة في نهاية المطاف. حدث الاختراق في أواخر أيار/مايو 2014 بعد أشهر من التحضير المضني الذي، على حدّ تعبير وزير الخارجية الأميركي جون كيري، “يجسّد مدى أهمية شراكتنا مع قطر، هذه الشراكة التي ستبقى”. وقد أصدر الرئيس الأميركي باراك أوباما وزعيم طالبان الملا عمر بياناً يشكران فيه علناً أمير تميم على المساعدة التي قدمها في التوسّط للتوصّل إلى الاتفاق. وتكمن الميزة النسبية لقطر على صعيد الوساطة في قدرتها على العمل كوسيط في المفاوضات غير المباشرة، وكونها قناة اتصال خلفية بين الأعداء الألدّاء وتحقيق التوازن في العلاقات مع مجموعة واسعة من الخصوم المتعادين.
ثمّة أنماط مماثلة تبدو واضحة في تطوّر آخر جدير بالملاحظة، يتمثّل في بحث قطر عن حلّ عن طريق الوساطة للعنف المتصاعد في غزة. فقد نشطت الدوحة في المحاولات الإقليمية لتأمين وقف لإطلاق النار بين إسرائيل، التي حافظت على علاقات تجارية متميّزة معها، وحركة حماس التي استقرّ زعيمها خالد مشعل في الدوحة منذ فترة طويلة. خلال حرب غزة التي اندلعت في تموز/يوليو 2014، شارك تميم والعطية بنشاط في الدبلوماسية المكّوكية. وكان من بين زوار قطر الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ووزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي يعتقد أنه اجتمع مع مشعل زعيم حماس أثناء وجوده في الدوحة، في حين عقد العطية مشاورات ثلاثية مكثّفة مع داود أوغلو وكيري في باريس. بالإضافة إلى ذلك، من المفيد القول إنه في مرحلة ما، اتصل كيري هاتفياً بالعطية وطلب من الدوحة استخدام نفوذها للتوسّط لدى حماس. وهذا يوضح كيف يمكن لقطر أن تلعب دوراً إيجابياً من خلال نقل الرسائل بين حماس وبين المجتمع الدولي وتسهيل تدابير بناء الثقة بين جميع الأطراف المتنازعة.
قد يستغرق الأمر سنوات كي تستعيد قطر تماماً قدراً من الثقة بين الشركاء الإقليميين، بيد أن الطريق يبدو مفتوحاً أمام المسؤولين القطريين لبدء إعادة بناء سمعة بلدهم كوسيط قادر على سدّ الفجوات. وبما أن الأحداث في معظم أنحاء العالم العربي أصبحت أكثر تقلّباً ولايمكن التنبؤ بها، فإن في وسع صنّاع السياسة الأميركيين، على وجه الخصوص، العمل مع قطر للحفاظ على خيارات للاتصال عبر القنوات الخلفية، وحتى عبر دبلوماسية المسار الثاني (البديل) للحدّ من التوتر وعدم اليقين، إذا ومتى سنحت الفرصة.
وإذا كانت قطر تسعى إلى استعادة سمعتها (وتحقيق الاستفادة القصوى) في مجال الوساطة بطريقة تتفوّق على قدرتها المؤسّسية المحدودة، فقد يحتاج المسؤولون في الدوحة إلى التراجع خطوة إلى الوراء والسماح للآخرين بتولّي زمام القيادة، وهو الأمر الذي قد لايرغبون في القيام به. وبالنظر إلى أن ضجّة إعلامية رافقت النجاحات التي تحققت في مجال الوساطة في ظل القيادة السابقة وشكّلت جزءاً من الجهود القوية لتمييز الدولة ووضع قطر على الساحة الدولية، فإن القيام بدور منفصل قد لايكون مستساغاً، على الرغم من أنه يوفر مساراً أكثر استدامة على المدى الطويل. لكن النهج المتحفظ الذي ميّز حالتي باوي بيرغدال وغزة قد يشير إلى أن القادة القطريين، على أقلّ تقدير، قد استوعبوا دروس الربيع العربي، وأعادوا تقويم سياستهم وفقاً لذلك.
من التقرير المنشور على موقع كارنيجي للأبحاث: قطر والربيع العربي: الدوافع السياسية والمضاعفات الإقليمية