“الإسلام يعيش اليوم أزمة في كل مكان بالعالم، وعلى فرنسا التصدي للانعزالية الإسلامية الساعية إلى إقامة نظام مواز وإنكار الجمهورية الفرنسية”.. بهذه الكلمات جدد الرئيس إيمانويل ماكرون هجومه المعتاد على الإسلام، مستفزًا مشاعر مئات الملايين من المسلمين في مختلف دول العالم.
وفي خطاب له غرب باريس، أعلن الرئيس الفرنسي عن سياساته ضد ما سمّاه “التشدد الإسلامي الذي يتخذ العنف منهجًا له”، طارحًا مشروع قانون ضد “الانفصال الشعوري” بهدف “مكافحة من يوظفون الدين للتشكيك في قيم الجمهورية”، فيما تم تفسيره على أنه استهداف للجالية المسلمة في بلاده على وجه التحديد.
تأتي تصريحات ماكرون بعد أيام قليلة من تصريحات شبيهة لوزير الداخلية جيرالد دارمانان قال فيها إن بلاده “في حرب ضد الإرهاب الإسلامي”، تعقيبًا على الهجوم الذي استهدف المقر القديم لصحيفة شارلي إيبدو الساخرة، وأسفر عن إصابة شخصين بجروح خطيرة.
لم تكن عنصرية ماكرون تجاه الإسلام أو كما يسميه هو “الإسلام المتشدد” الأولى من نوعها، والمتابع له منذ وصوله للسلطة في مايو/آيار 2017 يجد أنه لم تلح فرصة لمهاجمة الإسلام بسبب أو دون إلا واستغلها، حتى بات هذا النهج إستراتيجية دفاعية يلجأ إليها كلما زادت الضغوط الداخلية عليه.
جهل فاضح
ندد قيادات وعلماء العالم الإسلامي بتصريحات ماكرون العنصرية ضد الإسلام، معتبرين أنها تنم عن جهل فاضح بتعاليم الدين وأحكامه السمحة، متهمين الرئيس الفرنسي بالهجوم المتكرر بين الحين والآخر على الدين الإسلامي دون علم أو دراسة لمضمون مثل تلك التصريحات.
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين علي محيي الدين القرة داغي في رده على تلك التصريحات خاطب ماكرون بأن “الإسلام لا يتحمل وزر قيادات كرتونية مزيفة من صناعتكم”، مشددًا على أن الدين الإسلامي لا يمر بأي أزمات، مضيفًا “السيد الرئيس لا تقلق على ديننا فهو لم يعتمد في يوم من الأيام على دعم سلطة، ولا رفع سيفًا في وجه من عارضه ليفرض رايته” وذلك كما جاء في تغريدة على حسابه الشخصي على “تويتر” أمس الجمعة.
السيد الرئيس ماكرون:
لا تقلق على ديننا فهو لم يعتمد في يوم من الأيام على دعم سلطة ولا رفع سيفاً في وجه من عارضه ليفرض رايته
الإسلام حقائق وجودية خالدة تملك حلاً للمشاكل المستعصية على السلطات
هو دين الله وليس نظام حكم يعتمد على مزاج الناخبين ولا تزييف الوعي pic.twitter.com/SPemTrZPXw
— د. علي القره داغي Dr. Ali Al Qaradaghi (@Ali_AlQaradaghi) October 2, 2020
واختتم الأمين العام تعليقه برسالة وجهها للرئيس الفرنسي “السيد الرئيس ماكرون: أنتم في أزمة، أزمة انتكاس أخلاقي وإنساني وسياسي ولا يتحمل الإسلام وزر قيادات كرتونية مزيفة صنعت الأزمات برعاية منكم.. نحن نشفق على حاكم ما زال يعيش أزمة وشبح حروب دينية، يعيش في قرونها الوسطى ونحن في القرن الحادي والعشرين”.
الموقف ذاته تبناه شيخ الأزهر أحمد الطيب، الذي حذر هو الآخر من التأثيرات السلبية لاستخدام مثل تلك المصطلحات التي تحمل اتهامات وهجوم على الإسلام “لما يترتب عنه من إساءة بالغة للدين الإسلامي والمؤمنين به، ومن تجاهل معيب لشريعته السمحة”.
الطيب في سلسلة تغريدات له طالب “عقلاء الغرب من مسؤولين ومفكرين وقادة رأي بضرورة الانتباه إلى أن إطلاق تلك المصطلحات المضللة لن تزيد الأمر إلا كراهية وتعصبًا وتشويهًا لمبادئ الأديان السمحة التي تدعو في حقيقتها لنبذ العنف والحث على التعايش السلمي بين الجميع”.
يعرب #الإمام_الأكبر أ.د/ أحمد #الطيب #شيخ_الأزهر عن استنكاره وغضبه الشديد من إصرار بعض المسئولين في دول غربية على استخدام مصطلح الإرهاب الإسلامي غير منتبهين لما يترتب على هذا الاستخدام من إساءة بالغة للدين الإسلامي والمؤمنين به، ومن تجاهل معيب لشريعته السمحة وما تزخر به من مبادئ pic.twitter.com/d6PyiJvS9w
— الأزهر الشريف (@AlAzhar) October 1, 2020
مسلسل من الهجوم
في الـ18 من فبراير/شباط الماضي أعلن ماكرون في أثناء زيارته لمدينة مولوز “شرق” خطته لتشديد الحرب ضد ما سماه “الانفصال الإسلامي في الأحياء” حيث اشتملت على أربع نقاط رئيسية، أبرزها تحرير المدارس والمساجد من التأثيرات الأجنبية وتخلي البلاد عن الدعاة القادمين من الخارج الذين يتقاضون رواتب من المنح والمعونات التي ترسلها الدول الإسلامية للجاليات وعلى رأسها تركيا والجزائر.
كذلك محاولة القضاء على المرتكزات الدينية التي وضعها المسلمون هناك سواء في التعليم أم التنشئة أم الحياة العامة، بما يقضي على أي مظهر مميز للإسلام داخل البلاد بحجة المساواة والانتصار لعلمانية الدولة، هذا بخلاف تكفل الدولة بالأنشطة الثقافية والترفيهية داخل المناطق ذات الكثافة الإسلامية الكبيرة بعيدًا عن الجمعيات الإسلامية التي كانت تؤدي هذا الدور.
وفي الـ24 من أكتوبر/تشرين الأول 2019 صرح ماكرون بعدم قبول ارتداء الحجاب في المناطق العامة معتبرًا أن من يحاولون إقحامه في بعض المناطق الفرنسية يسعون لتأسيس طائفية مرفوضة، وذلك خلال مؤتمر عقد في هذا التوقيت تناول وضع المحجبات في الأراضي الفرنسية.
وكان الهجوم قد تصاعد أكثر بعد التصريحات السابقة في 8 من الشهر ذاته في أثناء تشييع جثمان بعض رجال الأمن الفرنسيين الذين قلتوا على أيدي زميل لهم في مركز الشرطة الرئيسي بباريس في الـ3 من الشهر، حينها دعا ماكرون خلال خطاب ألقاه في مراسم التشييع بضرورة أن يكون المجتمع الفرنسي يقظًا ضد ما سماه “التشدد الإسلامي”.
وكثيرًا ما طالب الرئيس مواطنيه أكثر من مرة بمساعدته فيما يزعم بأنه “الشر الإسلامي” وذلك بالإبلاغ عن أي شخص مسلم تحمل تصرفاته الريبة والشك، في خطوة أحدثت شرخًا كبيرًا في تماسك المجتمع الفرنسي الذي زادت معدلات الاحتقان بداخلة جراء بذور الفتنة التي ألقاها ماكرون.
وقد كشف الرئيس المثير للجدل عن خطته الرئيسية تجاه الإسلام في 9 من يوليو/تموز 2018 خلال كلمة له ألقاها أمام حشد من البرلمانيين في قصر فرساي، حين أعلن أنه منذ خريف هذا العام سيضع قواعد عامة لتيسير شؤون المسلمين في بلاده طبقًا لقوانين الجمهورية، وبما يعزز علمانية الدولة بعيدًا عن أي راديكالية تهدد أمن واستقرار البلاد.
الإسلام المدجن
في أواخر 2018 قدم الباحث السياسي حكيم القروي مستشار الرئيس للشؤون الإسلامية والمقرب من ماكرون تقريرًا أعده معهد مونتان للدراسات السياسية والاجتماعية في باريس تضمن بعض المقترحات الخاصة بمكافحة التطرف الذي يراه – مستشار ماكرون – متزايدًا بين الجالية المسلمة في فرنسا.
المقترحات في مضمونها تذهب إلى الرغبة في الحصول على “إسلام مدجن” يخدم الأجندة الفرنسية ولا علاقة له بالإسلام التشريعي والحكمي المعروف والمنزل، ومن أبرز ما قُدم إنشاء جمعية إسلامية تهدف إلى جمع ما يكفي لرواتب الأئمة وبناء وإصلاح دور العبادة وأن تكون تحت إشراف الحكومة مع غلق كل منافذ التمويل والمنح المقدمة من الدول الإسلامية في الخارج.
هذا بجانب إعادة النظر في وضعية اللغة العربية في المدارس الحكومية الفرنسية، مع التشديد على تعزيزها بحيث تخدم أكبر قدر من أطفال المسلمين لا سيما بعد التقارير التي أشارت إلى زيادة أعداد المتعلمين للعربية في المساجد مقارنة بأعدادهم في المدارس، وهو المقترح الذي يود سحب البساط من تحت المساجد لحساب السلطات الرسمية.
المراقبون اعتبروا هذا التقرير الذي استعان به ماكرون في وضع إستراتيجية التعامل مع الجالية المسلمة أول لبنة في بناء مخطط الهجوم على الإسلام باسم مكافحة الإرهاب والتطرف، وحاول الوصول تدريجيًا بالإسلام كدين سماوي إلى القوانين العلمانية الفرنسية بما يُخرج في النهاية إسلام مدجن يخدم التوجهات الفرنسية كما أشرنا سابقًا.
“الاسلام يعيش ازمة في كل مكان.. شاهدوا صديقتنا تونس وهي ليست النموذج الوحيد”.. الرئيس الفرنسي، امانويل ماكرون، في هجمة عنصرية جديدة على الاسلام تعمّد من خلالها الاساءة الى تونس pic.twitter.com/gpXdvAHei5
— مجلة ميم (@MeemMagazine) October 2, 2020
طوق النجاة لماكرون
عانى ماكرون ولا يزال من تدهور شعبيته بصورة لم يعانها رئيس فرنسي آخر، وذلك رغم المحاولات الحثيثة التي يبذلها لإظهار إمساكه بزمام الحكم حتى لو على حساب مقدرات الفرنسيين، البداية تعود إلى سبتمبر 2017 حين خرج قانون العمل للنور، الذي كان المسمار الأول في نعش جماهيرية الرئيس الشاب.
القانون تضمن بنودًا مجحفة، اعتبرها الفرنسيون تهديدًا لحياتهم المعيشية، منها تخفيض عدد ساعات العمل الأسبوعية من اثنتين وأربعين ساعة إلى خمس وثلاثين، مع منح صاحب العمل حق الاستغناء عن العمال العاملين لديه دون إبداء أسباب، ما يعطي له الشرعية القانونية للفصل التعسفي، هذا بخلاف رفع سن التقاعد من 62 إلى 65 عامًا.
تبع ذلك ضريبة القيمة المضافة على السيارات التي تسير بوقود الديزل، التي أقرها في نوفمبر 2018، ما تسبب في زيادة رقعة الاحتجاجات الشعبية ضده فيما سميت بـ”احتجاجات السترات الصفراء” التي تشتعل بين الحين والآخر، في ظل زيادة خريطة الداعمين لها من كل مدن البلاد.
وأمام تلك الوضعية ما كان أمام الرئيس الفرنسي إلا أن يغازل بعض التيارات السياسية والمجتمعية في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر استعادة ولو جزء بسيط من الشعبية المفقودة، فلم يجد أفضل من العنصرية ضد الإسلام لمغازلة أنصار اليمين المتطرف، لا سيما بعد النفوذ الكبير الذي حققه هذا التيار في أوروبا بصفة عامة في الآونة الأخيرة.
ومن خلال إستراتيجية “الهروب للأمام” كان ماكرون على موعد بين الحين والآخر مع “الإسلاموفوبيا” في محاولة لغض الطرف، محليًا ودوليًا، عن الانتهاكات التي يمارسها بدعم الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة، إما بالدعم السياسي أو العسكري من خلال التزويد بالسلاح، وهو ما تم توثيقه مع الجنرال الليبي خليفة حفتر.
ويسعى ماكرون لتجنب مصير الرئيس السابق فرانسوا أولاند الذي تسببت الهجمات التي تبناها تنظيم الدولة “داعش” بين عامي 2015 و2016 في خسارته للرئاسة، وعليه يكثف من جهوده لإبراز سياسته المعادية للمد الإسلامي ومحاولة تدجينه بشتى السبل حتى يتحول إلى أداة داعمة للرجل وسياساته الداخلية وليس خنجرًا جاهزًا للطعن في الظهر في أي وقت.
وفي الأخير.. تبقى التصريحات العنصرية المعادية التي يطلقها الرئيس الفرنسي بين الحين والآخر طوق النجاة السياسي أكثر منها انعكاس لعقيدة أو موقف ديني، إذ يضمن بها دعم أنصار اليمين المتطرف والموالين له، كذلك غض طرف المجتمع الدولي عن جرائمه المرتكبة في الخارج، إضافة إلى التغطية – من خلال تضخيم تلك المواقف العدائية – على حجم وتأثير الاحتجاجات الشعبية التي يواجهها في الداخل.