بعد الحديث عن شعوب الشمال، نتوجه هذه المرة إلى الجنوب، حيث شعب بوشمن البدائي الذي يتوزع بين العديد من دول جنوب القارة الإفريقية، مقاومًا جهود المؤسسات الحكومية والدولية في التوطين والتسكين.
في هذا التقرير، ضمن ملف “حكايا شعوب”، سنتطرق إلى الحديث عن هذا الشعب الذي يعتبر من أقدم الجماعات العرقية في إفريقيا، فيه سنغوص قليلًا في خصائص شعب “البوشمن” وطريقة عيشه وعاداته وطقوسه.
سكان صحراء كالاهاري
حتى أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، لم يكن العالم يعلم شيئًا عن شعب “البوشمن” إلى أن ظهر كتاب لورانس فان در بوست بعنوان “مملكة كالاهاري المفقودة“، في ذلك الوقت كشف فان در بوست النقاب عن هذا الشعب البدائي الذي يسكن أراضٍ قاحلة شاسعة في قلب إفريقيا.
اكتشف لورانس فان در بوست شعبًا يعيش في صحراء كالاهاري التي تتوزع بين بتسوانا ونامبيا وجنوب أنغولا وزامبيا وزيمبابوي وليسوتو وجنوب إفريقيا، اكتشف رجالًا متحمسين للموسيقى والرسم في محمية أُنشئت خصيصًا لحماية أراضي الأجداد، وكذلك الحيوانات البرية التي يعتمدون عليها.
هم ليسوا سود البشرة، لكنهم قريبون من البشرة الصفراء الفاتحة إلى حد يذكرنا بأعراق آسيا، شكل عيونهم ضيق ومائل قليلًا، أما حجمهم فهو متوسط على عكس جميع السكان من حولهم، ووجوههم معبرة بشكل خاص ونظراتهم تعبر عن مجلدات تروي ما مروا به في تاريخهم وتسلط الضوء على هشاشة جذورهم.
تعرض “البوشمن” لثلاث موجات من الطرد: الأولى سنة 1997 أما الثانية فسنة 2002 والأخيرة سنة 2005 حيث تم طرد معظم البوشمن من المحمية
يطلق بعض هؤلاء على أنفسهم اسم “الساي بوشمن” التي تعني “رجال الأحراش”، وأحيانًا يسمون أنفسهم بـ”السان” أي الوافدين وهذا التعبير تطلقه عليهم قبائل الهوتنتوت، مع أن بعض البوشمن يعتبرون هذه التسمية مهينة، ويُطلَق عليهم أيضًا اسم “شعب الأدغال” و”الباساروا”.
يبلغ عدد شعب “البوشمن” حاليًّا نحو 100 ألف نسمة، وتشير بعض كتب التاريخ إلى أن مجموعات البوشمن عاشت في مناطق جنوب إفريقيا منذ ما يقارب 22 ألف عام، ما يجعلهم من أقدم المجموعات العرقية، إن لم تكن الأقدم على الإطلاق في إفريقيا.
ينقسم البوشمن إلى عدة مجموعات فرعية يتم إنشاؤها على أراضيهم، وتنقسم كل مجموعة فرعية إلى مجتمعات عائلية مكونة من عشرات الأشخاص يستقرّون حول نقاط المياه في موسم الجفاف ويتنقلون في أوقات أخرى بين أماكن عدّة.
لا يزيد معدل طول الفرد الواحد من جماعات البوشمن، نحو 145 سم، ويمتاز أفرادها عن غيرهم بالأنف القصير الواسع غير المنخفض، والوجه العريض، والفك السفلي البارز، والرأس المستدير، والشعر المفلفل ذي الملمس الصوفي، والعينين المائلتين ذاتي الشكل الموزي.
تهميش متواصل
وصف بعض قضاة بتسوانا وضع شعب البوشمن بأنه “قصة مؤلمة من المعاناة واليأس”، حيث عرف هذا الشعب من قديم الزمان تهميشًا كبيرًا، فقد اضطهدهم “البانتو” و”البوير”، ثم همشهم المستوطنون البريطانيون، ما دفعهم إلى التوجه للأراضي القاحلة، حيث أرض الأجداد.
نزلوا في واحدة من أكثر الأراضي غير المؤهلة في العالم، صحراء كالاهاري المحصورة بين حوضي نهري الزمبيزي والأورانج في جنوبي إفريقية، إلا أنهم ما زالوا يخاطرون بالهجرة، خاصة أن حكومات المنطقة تقول إنها تريد دمجهم في ركب الحضارة والتمدن.
تواصل حكومات المنطقة بلا هوادة، خاصة بتوسوانا، اضطهاد شعب البوشمن من أجل طردهم من أراضيهم، حيث يحظر عليهم الصيد وهم ملزمون بتقديم طلب للحصول على تصريح لدخول المحمية التي يسكنون فيها، ما جعلهم على حافة الانقراض.
في أوائل الثمانينيات، تم اكتشاف رواسب كبيرة من الماس في المحمية، بعد ذلك بوقت قصير، زار المسؤولون الحكوميون المحمية وأخبروا آل بوشمن أنه يتعين عليهم المغادرة بسبب وجود هذه الرواسب في أراضيهم.
تعرّض البوشمن لثلاث موجات من الطرد: الأولى سنة 1997 أما الثانية فسنة 2002 والأخيرة سنة 2005 حيث تم طرد معظمهم من المحمية وتفكيك أكواخهم وإغلاق مدرستهم ومراكزهم الصحية وتدمير مصادر المياه.
يعيش هؤلاء حاليًّا في معسكرات إعادة توطين خارج المحمية، ونادرًا ما يُسمح لهم بالصيد، ويتم القبض عليهم وضربهم عند ضبطهم متلبسين، حتى إنهم أصبحوا يعتمدون على الحصص الغذائية التي توزعها الحكومة.
في عام 2006، كسب شعب البوشمن دعوى قضائية ضد الحكومة البتسوانية للعودة إلى أراضيهم، إلا أن الحكومة لم تدخر أي جهد لمنعهم من الوصول إليها مرة أخرى، من خلال حرمانهم من الوصول إلى آبار المياه الموجودة هناك.
تهدف هذه السياسة إلى ترهيب وإرهاب شعب البوشمن البدوي، حتى لا يغادروا معسكرات إعادة التوطين التي خصصتها لهم الحكومة، ولجعل الحياة مستحيلة بالنسبة لأولئك الذين اختاروا العودة إلى أراضي أجدادهم.
صيد الحيوانات وجمع الثمار
يُعرّف البوشمن أنفسهم على أنهم “أولئك الذين يتبعون البرق”، لأنهم يتنقلون وفقًا لتساقط الأمطار ليتغذوا على الفاكهة ويصطادوا الحيوانات، فهذا الشعب البدائي يعيش علي صيد الحيوانات وجمع الثمار، لا يزرع ولا يربي حيواناته.
يعيش شعب البوشمن، مثل أسلافهم، عرايا في مستعمرات متناثرة وفي ملاجئ خشبية مؤقتة ويمتازون بمهارة الصيد بالحراب والسهام المسمومة والأقواس الطويلة الرفيعة والرماح والفخاخ ويتناولون بيض النعام في بعض الأماكن بصحراء كالاهاري.
يؤمن البوشمن ببقاء الروح عادة في الجنة، لكن في بعض الأحيان تأتي الأرواح الشريرة أو “الأشباح” لتزعج عالم الأحياء
وجد هذا الشعب البدائي، منذ آلاف السنين مصدر رزقه في الصحراء بفضل معرفته الكبيرة بها ومهاراته المتعدّدة، فهو يصطاد بشكل رئيسي عدة أنواع من الظباء، لكن طعامه اليومي كان دائمًا في الغالب فواكه الصحراء والتوت.
يصنع آل بوشمن سمًا من يرقة الخنفساء، يمكن الاحتفاظ به لعدة أسابيع، فيغطي الصيادون رؤوس سهامهم بعناية لأنه لا يوجد ترياق لهذا السم، ومع أن الحوادث نادرة جدًا، لكنها تحدث أحيانًا فيصاب أحد الصيادين بالسم.
عند إصابة الفريسة بهذا السهم المسموم، ستصاب بالشلل خلال ساعات، وستستمر الفريسة المصابة في طريقها وستستغرق ثلاثة أيام حتى تستسلم، في ذلك الوقت يبقى عناصر البوشمن يراقبونها ويتتبعون أثرها، فهم “ملوك فن التتبع”.
عالم الأرواح
مجتمع البوشمن ليس هرميًا ولا تهيمن عليه قوة مركزية، فهو مبني حول قادة الأسرة أو قادة الصيد، يقوم على قيم مثل المساواة والتكامل والمسؤولية، ومع ذلك فإنهم لا يمارسون أي عبادة، فهم يتشاركون في الروحانية والمعتقدات التي يتواصل فيها الشامان مع الآلهة أو أرواح الموتى في أثناء جلسات النشوة.
يؤمن البوشمن ببقاء الروح عادة في الجنة، لكن في بعض الأحيان تأتي الأرواح الشريرة أو “الأشباح” لتزعج عالم الأحياء في شكل مرض جسدي، يؤثر على أحد أفراد المجتمع على وجه الخصوص أو حتى يؤثر على المجتمع بأكمله من خلال محاولة تقويض وحدته.
يجتمع الأهالي في الليل للاحتفال، يقوم الشامان بأداء نوع من الرقص – يعرف باسم “رقصة الغيبوبة” أو “رقصة الشفاء” – يدخل خلالها المعالج في حالة من النشوة المضاعفة، وهو ما يسمح له بربط قوته الروحية الشافية بالمجتمع، حتى يتدخل لمعالجة وإبعاد المصيبة من خلال التأثير على روح المصاب واستخلاص العنصر الخبيث من جسمه.
في بعض الأحيان يربطون القرابين بأرواح الحيوانات بالأشجار، أو يستخدمون الطبول للتواصل مع أرواح الحيوانات والأسلاف. في هذه الحفلة تجلس النسوة في دائرة حول النار يغنّين الأغاني الطبية بأصوات مزيفة ويصفقن بأيديهن بإيقاع حاد ومتقطع، فيما يرقص الرجال المعالجون في صف واحد حول النار متخذين خطوات قصيرة للغاية متقابلة مع إيقاعات الغناء والتصفيق، وتُصطحب حركة الرجال بصوت حاد صادر عن شرانق جافة مقيدة بأرجلهم.
ويُنظر إلى الشامانية، في كثير من بقاع العالم، باعتبارها ظاهرة دينية قديمة، انتشرت في دول عديدة من العالم، وهناك أنواع من الشامانية، تنحصر بين كونها نوع من التواصل مع اللامرئي حيث يتمكن ممارسوها من معرفته ورؤيته، وكونها ذات وظيفة اجتماعية تقوم على الاعتراف الاجتماعي بالشاماني كمتلق للعالم الآخر بناء على طلب.
زينة ورسم وموسيقى
رغم الاضطهاد الكبير الذي يواجهونه، فلشعب البوشمن فنونهم كالرسم ونقش صور الحيوانات فوق جدران الكهوف التي يعود تاريخها إلى أكثر من 40000 عام والصخور، وتتميز رسوماتهم بالدقة المتناهية والتناسق الهندسي الرائع والتعبير الرمزي المتقن، وقد كانوا يقيمون هذه الأعمال طوال تاريخهم.
كانت هذه الرسومات تصور حفلاتهم الطقوسية والروحية ورقصاتهم التقليدية ومشاهد الحرب، كما تصور مراحل صيدهم وطرقه والأساليب المتبعة في ذلك، وقد كانت هذه الثقافة ذات أهمية كبيرة للباحثين في السنوات الأخيرة، حيث تعمل العديد من المشاريع والجمعيات على اكتشافها من خلال السياحة المجتمعية.
يشكل شعب البوشمن الرابط الحي الوحيد الذي يصلنا بإفريقيا القديمة، فالطباع البرية والبدائية لمعظم هذا الشعب أبت أن تستسلم لرغبات حكومات المنطقة
ليس هذا فحسب ما يميّز شعب البوشمن، فلنسائه ما يقولن في هذا الموضوع أيضًا. وترتدي جميع نساء البوشمن تقريبًا قلائد أو زينة في شعرهن، يصنعنها بأنفسهن من اللؤلؤ والبذور التي يتم جمعها من قشر بيض النعام والبرية.
يتم وضع هذه الزينة في الظل على جلود قديمة مستعملة، وهي توضح للزوار كيف تثقب النساء قطع الأصداف ثم يضيفن إليها أنواعًا مختلفة من “اللؤلؤ” لإنتاج المجوهرات التي يرتدينها بفخر أو التي يبيعنها.
أما موسيقى البوشمن فهي عديدة، حيث هناك العديد من الموروثات الموسيقية المختلفة بقدر ما توجد مجموعات مختلفة من هذا الشعب، ومع ذلك، فإنهم يتشاركون في العديد من السمات، وتتميز موسيقاهم بتعدد الأصوات المتناقضة المعقدة القائمة على تراكب أصوات مختلفة، لكل منها لحن وإيقاع متباين.
يتم تنظيم الأغاني في مجموعات مرتبطة بظروف اجتماعية محددة مثل الشفاء وطقوس الصيد وجني الثمار، وتشير كل مجموعة من هذه المجموعات إلى فئة واحدة أو أكثر تحددها السمات الموسيقية المميزة، فالموسيقى بالنسبة للبوشمن، فن حي يشمل عمليات الخلق والاختفاء والتحول وإعادة التكوين.
يشكل شعب البوشمن الرابط الحي الوحيد الذي يصلنا بإفريقيا القديمة، فالطباع البرية والبدائية لمعظم هذا الشعب أبت أن تستسلم لرغبات حكومات المنطقة، حيث حافظ على طبيعته الترحالية وتقاليده القبلية، حتى علاجاتهم واستخدامهم الشعوذة فإنهم يتوارثونها جيلًا وراء جيل.