السينما واجهت نوعًا من التبعثر وشيئًا كبيرًا من النمطية، بيد أنها نجت من الركود والابتذال، بما في أيدي صناعها من مهارة، وبما في قلوبهم من شغف، وبما في رؤوسهم من فلسفة وحب، يؤهلهم أن يكونوا طوق نجاة مؤثر في شعوب كاملة، وكأنها محور الرحى الذي يدور حولها الناس مستهلكي الروح، ساقطي العزم، مصوبين أعينهم حول أفلامها ومدارسها وموجاتها، ليتطوروا بها ومعها.
والحق أن وجاهة السينما الحقيقية تقع في مدارسها وحركاتها التي سادت العالم بمختلف موجاتها وأساليبها، مذ بداية “الانطباعية الفرنسية”، مرورًا بـ”التعبيرية الألمانية”، و”الحركة السينمائية السوفيتية” التي كان لها دور كبير في خلق نوع جديد من السينما عبر القطع والمونتاج، ثم “الحركة البريطانية التوثيقية” المؤثرة، ثم العودة مرة أخرى إلى فرنسا بـ”الواقعية الشعرية” التي سادت العالم، وثمة “الحركة الواقعية الإيطالية الجديدة” وهي واحدة من أعظم مدارس السينما على الإطلاق، ثم “الموجة الفرنسية الجديدة” التي هي موضوعنا اليوم، التي جئنا اليوم لنسلط الضوء عليها، ورغم أهميتها الهائلة سواء على المستوى النظري والنقدي مساهمة في تغيير وجه السينما في العالم، أم على مستوى الصناعة والإنتاج والأفلمة التي وجهت الأنظار لأفكار تم عرضها بحرفية عالية، بيد أنها وللأسف، تكاد تكون منسية الآن.
جان كوكتو في فيلم 400 ضربة
عندما صدر فيلم “400 ضربة” عام 1959، لم يحتف به العالم لأنه يحمل قيمة فنية وجمالية عالية فقط، بل لأنه شكل وعيًا جماهيريًا كبيرًا بالموجة الفرنسية، وأحاط ذاك الوعي العالم الفني بجودة ومعلومية فريدة، مشتملًا المهرجانات، مقارعًا أفضل مخرجي السينما العالمية بلا استثناء، وحاصدًا الجوائز التي كان أبرزها حصوله على جائزة أفضل مخرج بمهرجان “كان السينمائي” في دورته الـ12، بجانب ترشحه “للسعفة الذهبية” تحت أنف أعظم شخصيات فرنسا في تلك الحقبة جان كوكتو وفي حضور المخرج العظيم لويس بونويل، لذلك شكل هذا الفيلم على وجه الخصوص، صحوة الموجة الفرنسية من طور المهد، وانتقالها لعنفوان شبابي صارم ومشتعل.
نزعته للنقد الاجتماعي والجنوح للتغيير، أدت لصنعه فيلمًا من أفلام البطل المهزوم ــ AntiHero، استقبله العالم على أنه تحفة فنية يستشهد بها الآن، فأن يكون البطل طفلًا في مستهل حياته يحاول مصارعة العالم بمفرده، فالنتيجة ستكون توجيه “تروفو” صفعة من صفعاته لكل المؤسسات الاجتماعية في فرنسا، سواء الصغيرة منها (الأسرة) أم الكبيرة (الإصلاحيات) بجانب، طبعًا، إسقاط القصة بشكل واضح وجلي على ذاته، أشبه بإنتاج سيرة ذاتية عن حياته، ولا يستطيع أي شخص أن يفصل البطل عن المخرج، فهما شيء واحد، غارق في الذاتية.
العديد من النقاد يعتبرون الموجة الفرنسية الجديدة، خرجت من ضلع الواقعية الإيطالية، وهذا الفيلم يثبت بعضًا من ذلك
فطفولة تروفو القاسية التي كانت تتأرجح بين التشرد والإصلاحيات الاجتماعية جعلته يصيغ تلك الرسالة التي تحمل من الدخيلة أكثر مما تحمل من الخيال، ويتضح هذا بالثأر الرابض بين المخرج والإصلاحيات الاجتماعية، التي لم تكن إصلاحًا ولا تهذيبًا، فيوجه لها العين بطريقة عنيفة واضحة في العديد من لقطات الفيلم.
إذا دققنا النظر في الفيلم، سنجد مدى تأثير “الحركة الواقعية الإيطالية” على هذا الفيلم بالذات من كل أفلام الموجة الفرنسية، والعديد من النقاد يعتبرون الموجة الفرنسية الجديدة، خرجت من ضلع الواقعية الإيطالية، وهذا الفيلم يثبت بعضًا من ذلك، فالمشهد الافتتاحي في الفيلم يشبه إلى حد كبير مشهد القطار في فيلم “Umberto D” الصادر عام 1952، للمخرج الإيطالي العظيم فيتوريو دي سيكا، وفي كلا المشهدين تظهر معالم المدينة ووجهاتها المميزة خلال وضع الكاميرا في مركبة متحركة، سواء قطار أم شاحنة، وكلا المشهدين يحاول نقل حالة عاطفية من الحزن والتأمل والصمت المباغت والثقيل على الشخصيات، لكن في سياق وسيناريو مختلف.
لم يكن فيلم تروفو “AntiHero” عاديًا، بل تلاعب بالمشاهد بمنطق التطهير عند أرسطو، فالمأساة عند أرسطو ليست سرد الحكاية بطريقة مؤثرة فحسب، إنما سرد الحكاية بغرض تخويف المشاهدين وبالتالي تحريك الصواب بداخلهم، فخوفهم من الشيء سيجعلهم يتعرفون عليه بشكل أفضل، ثم تطهير نفوسهم منه، ومجانبتهم تلك الأفاعيل فيما بعد، وهذا ما حدث في الفيلم، بتوجيه النص والصورة لعقل المشاهد، والتنقل بين مشاعر الإشفاق والتخاذل والنفور من أفعال ووقائع (أنطوان) ولفت الانتباه لخلفيته الأسرية والاجتماعية، ستحفز المتلقي إلى تفكيك الحكاية وفهم المعضلة.
بناء دوافع الشخصية الرئيسية – إذا اعتبرنا الفيلم One Man Show – كان عشوائيًا قليلًا، بما يخضع له عقل الطفل من أهواء ورغبات لحظية أو عواطف تنتج عن مواقف حدثت للتو، غير أن اللاوعي الذي يشكله الفيلم لدى المشاهد أو حتى الشخصية الرئيسية هو واقع ضبابي، فالفتى لا يرى ملامح نجاحه في التعليم رغم ذكائه، والمشاهد هو الآخر يشارك البطل الشعور بالغضب والنفور والتشاؤم، ولا يجد في منظومة الأسرة ما يكفي من الفهم والمبادرة ليمحي مستقبل الفتى الذي يتجه للهلاك.
لذا يبني تروفو ويؤسس لشعور أصيل بالخطر تجاه مستقبل الفتى الطائش، ويكثف الظروف التي تدفع الفتى لتتبع أهواءه، لا أوامر الكبار التي يعتبرها البعض صوابًا رغم تعنتها ضده، فالشريط السينمائي يعرض تكلفًا مدرسيًا، يظهر واضحًا في إسراف المعلم بأوامر الضبط والضرب والتعنت، وعلى الناحية الأخرى، نجد إرخاءً وإهمالًا لتربية الفتى والعناية به، سواء لمشاغل الحياة الرأسمالية أم لنبذ والديه له كشيء غير مرغوب فيه.
ما يميز فيلم تروفو وأي فيلم في الموجة الفرنسية الجديدة، هو الواقعية
كل هذه أسباب لتخبط الفتي في الظلام والبحث عن الحرية والراحة كغاية، بيد أنه لم يجدها لا مع أسرته ولا في المدرسة ولا في منزل صديقه المخلص، ما دفعه لتعويض نقاط ضعفه باكتساب المال، والمال في ذلك العالم يعني القوة، والقوة تحتاج إلى الجسارة والجرأة، لكن في ماذا، في السرقة! مما استدعى العقاب في التو والحال.
شعر الفتى بالندم، لكنه لم يشعر بالخذلان إلا في لحظة منع صديقه من زيارته، وهذا السقوط المدوي لكل الأخلاق والمبادئ الذي يعمل المجتمع على إحلالها بديلًا لكل نبيل وجميل، هو التخْذيل الذي حمله على فقدان الثقة في العالم والإصلاحية، والبحث عن الهروب، وحيدًا في العالم ولكنه حر.
احتاج أنطوان إلى كيان أكبر منه ليلحق نفسه به، شيء يذوب فيه دون سؤال أو جواب، شيء بلا نهاية، يراقبه عن كثب، ويراه عن بعد، لقد بحث عن البحر أو عن الطمأنينة.
النظرية والتطبيق داخل الفيلم
الواقعية والمكان
ما يميز فيلم تروفو وأي فيلم في الموجة الفرنسية الجديدة، هو الواقعية، يبحث عنها المخرجون في كل شيء، في الشوارع الذي نزل إليها المخرجون الشباب يبحثون عن الحكايات أو يتذكرونها، في الملابس، في الأماكن الحقيقية الحية بالمشاعر والأقدام. إذًا فالموقع هو أول شيء يميز فيلم تروفو، حيث نرى أن الكثير من اللقطات تم تصويرها في الشوارع الحية الزاخرة بالأحداث.
أسلوب التصوير والمونتاج
استخدم رواد الموجة الفرنسية نوعًا مختلفًا من التصوير، وفكروا في إحلال ديناميكية جديدة في التصوير تعطي الشاشة توجهًا حركيًا مختلفًا، فاستخدموا اللقطات السريعة الخاطفة (Jump Cuts) في تسيير الأحداث، واستخدموا القطع على بعض اللقطات السريعة لاختصار الوقت في أسلوب يسمى (Elliptical Editing)، بالإضافة إلى اللقطات الطويلة (Long Shot) مثل اللقطة الأخيرة في الفيلم، وهي تعظم الصورة، وتعطي التأثير المطلوب.
بجانب كسر الحاجز بين الممثل والمشاهد في بعض المشاهد فيما يسمى “الجدار الرابع ــ Fourth Wall” مثل المشهد الأخير لأنطوان وهو ينظر مباشرة للكاميرا.
حاول المخرج الاستغناء عن المونتاج قدر المستطاع، وترك الممثلين على سجيتهم ليخرجوا أفضل أداء، بالإضافة لاستعانة تروفو بشيء من طريقة التصوير التوثيقية التسجيلية، في مشهد الاستجواب في الإصلاحية، وهذا يظهر مدى حاجة المخرج لنقل الواقع كأنه واقع.
نقل الحالة الشعورية
حاول تروفو تكثيف بعض المشاهد باستخدام المكان والزمان، لنقل الحالة الشعورية، والتعرف على دخيلة الشخصية، فكان يسقط ما يشبه الكبح والمنع والحبس بالنوم في مكان ضيق، ويظهر ضياع الفتى، لا هو أبيض ولا أسود بالضياع والتسكع في شوارع وأزقة باريس مدينة النور، ويغترف بكاميراته كم يتسع الشارع للعديد من الفتيان مثل أنطوان، وهناك المشهد المؤثر الأخير الذي يوضح مدى حاجته للحرية، وكما أضفنا سابقًا، فالفيلم عبارة عن توحمات وعلامات سابقة في حياة المخرج لذا الفيلم يتسم بالذاتية.