لم تكن حالة الجدل المثارة الآن في الشارع المصري بسبب الرشاوى المقدمة من بعض الأحزاب السياسية لاستمالة الناخبين خلال الانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها الأيام الماضية، جديدة على المشهد المصري الذي اعتاد مثل هذه المظاهر السياسية الضاربة في جذور التاريخ.
عرفت مصر منذ أول انتخابات برلمانية في عهد الخديوي إسماعيل، في ديسمبر/كانون الأول عام 1866، ظاهرة الرشاوى الانتخابية للحصول على أصوات الشعب، مستخدمة في ذلك العديد من الأدوات التي تعزف في معظم الوقت على عاطفة الجوع والفقر والعوز.
وتمثل الرشاوى السياسية بصفة عامة ملمحًا مميزًا للمجتمعات العربية على وجه العموم منذ بداية الألفية الثانية وحتى منتصفها، حيث تعد تلك الفترة قمة الزخم لتلك الظاهرة التي أفسدت الحياة السياسية في المنطقة بأكملها وكانت معولًا رئيسيًا لرضوخ العديد من المجتمعات العربية لإمرة الاستعمار.
ونستعرض في هذا التقرير تاريخ تطور مفهوم الرشوة السياسية في مصر، انطلاقًا من مساعي إرضاء السلاطين والحكام للحصول على المناصب وصولًا إلى استعطاف الناخبين وشراء دعمهم عبر العديد من المغريات المؤقتة للحصول على أصواتهم الانتخابية.
شراء المناصب
عرف المجتمع المصري الرشاوى السياسية منذ بدايات القرن الثاني، حيث اتخذت أشكالًا عدةً في هذا الوقت وكانت تقدم للوزراء وأعضاء الحاشية والمقربين من السلاطين والحكام بهدف اتخاذ قرارات معينة أو تلبية لرغبات محددة تصب في صالح من يدفع.
بعض الدراسات التاريخية والمجتمعية كشفت العديد من الصور التي كانت عليها تلك الظاهرة، ومن بينها رشوة النساء المقربات من دوائر صنع القرار للضغط على المسؤولين لتحقيق مصالح شخصية، ولم يقتصر الأمر على زوجة المسؤول أو إحدى أقاربه، بل كان من الممكن رشوة الخادمة أو الجارية التي تعمل لديه.
ويعد العصر الفاطمي (909-1171م) أبرز العصور التي شاعت فيه الرشوة وباتت الوسيلة الأسرع والأقرب للحصول على المكاسب والمناصب السياسية، وهو ما وثقته سحر سالم وتيسير شادي في كتابهما “الفساد في الدولة الفاطمية سياسيًا وإداريًا واجتماعيًا واقتصاديًا” الذي يقدم رصدًا وتوثيقًا لمختلف صور الفساد في ذلك العصر.
الكتاب أشار إلى أن حكام تلك المرحلة كانوا الأكثر شرهًا في الحصول على الرشى، أبرزهم الصالح طلائع بن رزيك الذي تولى الوزارة في عهد الخليفة الفائز بدين الله (1149-1160)، والعاضد لدين الله (1151-1171)، حيث كانا يبيعان الولاية مقابل مبالغ من المال محددة سلفًا، وكان من بين الأدوات المستخدمة لضمان الولاء تحديد مدة الولاية بستة أشهر فقط، حتى لا يثوروا على الحاكم، ويضمن بقاءهم تحت قبضته.
تناقل بعض رواد السوشيال ميديا صورًا تكشف دفع أحد المرشحين لمبالغ تتراوح بين 10-15 مليون جنيه للنزول على قائمة حزب “مستقبل وطن” المدعوم من الأجهزة السيادية للدولة.
أما في عصر المماليك (1250-1517م) فكانت الرشوة هي الطريق الوحيد للوصول إلى المناصب المهمة ومنها “النيابة والقضاء”، وتشهد الكثير من الروايات على حجم الفساد الذي حل بالمجتمع المصري في تلك المرحلة، حيث كان يطاح بالمسؤول من منصبه دون سبب وحين يريد العودة عليه دفع مبلغ كبير من المال، وهو ما حدث مع الأمير صلاح الدين خليل بن عرام، نائب الإسكندرية، الذي استدعاه السلطان الأشرف شعبان سنة 1376، فقبض عليه وصادر ممتلكاته، ولم يعده إلى منصبه إلا بعدما تلقى منه مليون درهم.
ويشير المؤرخون إلى أن السلطان الظاهر برقوق أصدر مرسومًا سلطانيًا عام 1399م بتعيين فرج الحلبي نائبًا للإسكندرية رغم حالة الجدل التي أثيرت بشأنه، وذلك في مقابل رشوة مالية قدرها 400 ألف درهم، وهو ما أشار إليه المؤرخ يوسف بن تغري أبو المحاسن في “النجوم الزاهرة في مصر والقاهرة” الذي انتقد تلك الوضعية قائلًا: “صار لا يترقى في هذه الدول إلا من يبذل المال، ولو كان من أوباش السوقة لشره الملوك في جمع الأموال”.
شراء الوجاهة المجتمعية
شهدت الظاهرة تطورات نوعية في دوافعها والهدف منها مع بدايات القرن العشرين، حيث تحولت الرشوة إلى باب كبير للوجاهة الاجتماعية من خلال شراء الألقاب والرتب الفخرية، كـ”الباشا” و”البيه” وغير ذلك من مثل هذه الألقاب التي يحظى حاملوها بمكانة اجتماعية كبيرة.
وعلى مدار عقود طويلة مضت كان الرجال لا سيما عمد ومشايخ القرى في الأرياف يقصدون الحكام والوزراء والحاشية من أجل الحصول على تلك الألقاب، وذلك نظير مبلغ كبير من المال أو مساحات من الأراضي الزراعية، حيث كانت تمثل تلك المسميات مقصدًا لكل الباحثين عن المكانة الاجتماعية بين ذويهم.
وقد جسدت السينما المصرية هذه الظاهرة في أكثر من عمل، حيث كان يرتكن صاحب المال وفي الأغلب كانوا من فئة “المعلمين والإقطاعيين والبروجوازيين” إلى قصور الوزراء ونسائهم للتوسل إلى الملك أو السلطان للحصول على تلك الألقاب، حيث كان يوظفها فيما بعد لتحقيق مصالحه الشخصية.
الرشاوى الانتخابية
وتأتي الرشاوى الانتخابية للحصول على أصوات الناخبين في مختلف الماراثونات على رأس أبرز أنواع الرشاوى السياسية في المحروسة، فمن الولائم إلى الزيت والسكر وصولًا إلى البطاطين ورحلات العمرة والقوافل الطبية شهد الشارع المصري صورًا إبداعية في استقطاب أصوات الشارع على مدار 154 عامًا منذ أول انتخابات جرت في البلاد 1866.
ورغم الأرضية التشريعية التي تجرم الرشاوى الانتخابية وعلى رأسها قانون مباشرة الحقوق السياسية لعام 1956، والمعدل عام 2011، الذي ينص على معاقبة مرتكب جريمة الرشوة الانتخابية بـ”الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تتجاوز خمس سنوات، وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه”، ومنح لرئيس اللجنة العليا للانتخابات الحق في حرمانه من الترشح للانتخابات النيابية لمدة خمس سنوات، فإن ذلك لم يمنع تلك الظاهرة من التمدد والانتشار.
الولائم ومحفزات الطعام.. في أول انتخابات برلمانية شهدتها مصر، كان النواب تقريبًا 75 عضوًا في هذا التوقيت، وكان معظمهم من العمد ومشايخ العائلات، حينها كانت الولائم والعزومات هي الطريقة الأكثر شهرة لجذب الناخبين، فكان يقيم كل مرشح في منزله صاحب الفناء الكبير ولائم عليها مختلف أنواع الطعام والشراب، وهو ما كان يسيل لعاب غالبية المصريين من محدودي الدخل وقتها.
تطورت تلك الإستراتيجية فيما بعد، لا سيما مع بزوغ فجر الحزب الوطني إبان عهد الرئيس الراحل أنور السادات ومن بعده حسني مبارك، حيث لجأ المرشحون إلى ذات الأداة لكن مع إدخال بعض التطورات عليها، فلم تعد الولائم التي تقام في المنازل هي الصيغة الوحيدة للحصول على الأصوات.
وهنا ظهرت الحقائب والشنط التي تحتوي على بعض أنواع الأطعمة ويتم تسليمها للناس في منازلها، وكانت تشتمل على الزيت والسكر وبعض السلع الرئيسية، ومؤخرًا تم إضافة اللحوم عليها، وهي الميزة التي لا يتمتع بها سوى المرشحين من رجال الأعمال فقط.
رصدت بعض المراكز البحثية عددًا من المرشحين في أثناء توزيعهم أدوية “الفياجرا” للرجال وكريم وزيوت الشعر للسيدات
المال السياسي.. النوع الثاني من أشهر الرشاوى الانتخابية يتمحور في منح الناخبين مقابل مالي نظير الإدلاء بصوتهم لمرشح معين، وتتباين قيمة الصوت من مكان لآخر ومن مرشح لآخر، ما بين 50 إلى 300 جنيه للصوت الواحد، تتضاعف في بعض الدوائر الساخنة.
ومن هذه الفرعية ظهرت الهدايا العينية والمادية، كالبطاطين والعبايات وبعض الملابس التي تحتاجها الأسر المصرية، في ظاهرة ترسخها تلك الماراثونات الانتخابية والخاصة باستغلال الوضع المعيشي الصعب للمواطنين والعزف على وتر العوز والفقر للحصول على أصواتهم التي قد لا تعبر مطلقًا عن معتقداتهم وآرائهم السياسية.
الابتزاز وصل حد لجوء بعض أنصار المرشح إلى تقسيم الورقة المالية إلى نصفين، نصف في حوزة الناخب والآخر لا يحصل عليه إلا بعد الإدلاء بصوته، ضمانًا للحصول على دعمه، بل إن البعض ربما يطلب تصوير ورقة الاقتراع بالموبايل الخاص بالناخب من أجل التيقن أنه أعطى صوته للمرشح ذاته.
وشهدت الانتخابات المزمع إجراؤها نهاية الشهر الحاليّ ظاهرة هي الأولى من نوعها، حيث دفع من ينتوي الترشح مبلغًا ماليًا ضخمًا لقبول اسمه ضمن قوائم الترشح، وتناقل بعض رواد السوشيال ميديا صورًا تكشف دفع أحد المرشحين لمبالغ تتراوح ما بين 10 – 15 مليون جنيه للنزول على قائمة حزب “مستقبل وطن” المدعوم من الأجهزة السيادية للدولة.
يذكر أن مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية (مستقل) رصد إجمالي النفقات للانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في 2015 وتراوحت بين 7 و10 مليارات جنيه، وهو الرقم الذي يتجاوز ما حددته اللجنة العليا للانتخابات البرلمانية بكثير، حيث وضعت حدًا أقصى للإنفاق قدره 7.5 مليون جنيه للقائمة الانتخابية التي تضم 45 مرشحَا، و2.5 مليون جنيه للقائمة التي تضم 15 فردًا، و500 ألف جنيه لمرشحي الفردي.
القوافل الطبية ورحلات العمرة.. ومن صور الرشاوى المقدمة للحصول على أصوات الناخبين اللعب على وتر المرض، حيث تنظيم القوافل الطبية المجانية للكشف على المواطنين في القرى والنجوع وتقديم الأدوية العلاجية لهم بالمجان، هذا بخلاف تدشين بعض الأحزاب لعيادات ثابتة للكشف على المرضى دون مقابل.
وقد رصدت بعض المراكز البحثية عددًا من المرشحين في أثناء توزيعهم أدوية “الفياجرا” للرجال وكريم وزيوت الشعر للسيدات، في بعض المناطق النائية والبعيدة عن العاصمة، بجانب تقديم بعض رجال الأعمال المرشحين رحلات عمرة مجانية لعدد محدود من المواطنين يتم اختيارهم عبر قرعة عشوائية.
العديد من صور الرشاوى فرضت نفسها مؤخرًا استغلالًا لوضعية اجتماعية وأمنية راهنة، حيث أقام بعض المرشحين في القاهرة مجالس عزاء لضحايا حوادث الإرهاب في سيناء وأماكن أخرى واستغلّوا هذه السرادقات في سبيل الدعاية الانتخابية، وهو أشبه بما كان يحدث في السابق حيث حضور المرشحين لسرادقات العزاء وحفلات الزفاف للمشاركة عزاء وتهنئة وذلك من باب الدعاية.
وبينما يستعد الشارع المصري للحملات الدعائية لمرشحي الانتخابات القادمة فإن المشهد على موعد مع موجة جديدة من تلك الرشاوى، بعضها يتم على مرأى ومسمع من أجهزة الأمن والجهات التنفيذية دون أي رد فعل، وهو ما حدث في الانتخابات الرئاسية الماضية والاستفتاء على الدستور، حيث كانت توزع الكراتين والمبالغ المالية دون أن يتحرك أحد.