شكل إعلان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، حل البرلمان بغرفتيه وتنظيم انتخابات برلمانية قبل نهاية العام الحاليّ محطة حاسمة في المشهد السياسي الجزائري المقبل على تغيير فعلي من شأنه أن يقلب موازين القوى في الساحة السياسية.
فقد أعلن تبون، في تصريحات صحافية بثها التليفزيون الجزائري الرسمي، منذ أسبوع، إجراء الانتخابات البرلمانية مباشرة بعد تعديل الدستور في الاستفتاء المقرر الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
واستبق الرئيس الاقتراع المرتقب قبل نهاية 2020، بمراجعة قانون الانتخابات الحاليّ الذي ترفضه المعارضة الجزائرية وتراه قانونًا مجحفًا وغير عادل، حيث كلف رئيس اللجنة الدستورية لعرابة برأس لجنة أسندت لها مهام مراجعة القانون العضوي للانتخابات لوضع ضوابط جديدة تحدد الترشيحات لإسقاط التزوير والمال من التداول السياسي إضافة إلى استبعاد الإدارة من العملية الانتخابية.
وفي سابقة هي الأولى من نوعها، أقر بيان صادر عن الرئاسة الجزائرية، بوجود نظام “محاصصة سري” في الانتخابات البرلمانية والمحلية، حيث شدد الرئيس تبون على تحديد مقاييس انتخابية شفافة تقطع نهائيًا ممارسات الماضي السلبية بمنع المحاصصة (الكوتا) في توزيع المقاعد وشراء الذمم والفصل بين المال والسياسة كشروط لا بد منها بالحياة السياسية، وأضاف البيان أن قرار تبون جاء “لضمان انتخابات تعبر حقًا ودون منازع عن الإرادة الشعبية وبذلك تنبثق عنها مؤسسات ديمقراطية نظيفة ذات مستوى ومصداقية، مفتوحة للشباب لا سيما الجامعيين منهم والمجتمع المدني”.
السلطة الجديدة في الجزائر تسعى لقطع الطريق أمام عملية بيع وشراء مقاعد البرلمان
يتضح جليًا من خلال هذه التصريحات، أن السلطة الجديدة في الجزائر تسعى لقطع الطريق أمام عملية بيع وشراء مقاعد البرلمان وهو السيناريو الذي شهدته الانتخابات النيابية التي جرت في مايو/آيار 2017، حيث كشف النائب بهاء الدين طليبة، في رده على أسئلة القاضي بمحكمة سيدي أمحمد بالعاصمة الجزائرية، أن قيمة تصدر قائمة المترشحين في المحافظات (الولايات) كانت تقدر بـ7 مليارات سنتيم أي ما يعادل 400 ألف دولار.
وبعد تأكد خبر توجه الرئيس نحو حل “المجلس الشعبي الوطني” (غرفة التشريع) و”مجلس الأمة” (الغرفة البرلمانية الثانية)، وتنظيم انتخابات تشريعية مبكرة قبل نهاية العام الحاليّ، هناك عدة أسئلة أصبحت تفرض نفسها، ولعل أولها وأبرزها ما ملامح المشهد السياسي مستقبلًا؟ وأي مصير ينتظر الأحزاب التقليدية؟
التقليديون يركبون موجة الدستور
تحاول تركة الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة، العودة إلى الواجهة والتموقع من جديد في الساحة السياسية، من خلال استعراض خدماتها على السلطة لإنجاح تمرير الدستور الجديد، في وقت يراهن الرئيس عبد المجيد تبون على “المجتمع المدني” بدل الأحزاب السياسية التي وضعها على جنب، حتى في حملته الانتخابية لرئاسيات 2019 حيث كان مرشحا حرًا ولم يدعمه أي حزب سياسي رغم انتمائه السابق لجبهة التحرير الوطني (حزب الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة).
أظهرت أحزاب التحالف الرئاسي الداعم للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، جبهة التحرير والتجمع الوطني الديمقراطي، استعدادها لخوض حملة لكسب تأييد القواعد الشعبية من أجل تمرير الدستور في الاستفتاء الشعبي المرتقب في 1 من نوفمبر/تشرين الثاني القادم، وهي المهمة التي تبدو صعبة للغاية بالنظر إلى موقف الحراك الشعبي الذي طالب منذ البداية برحيل أحزاب السلطة وحملها جزءًا من المسؤولية باعتبارها المسؤولة عن تمرير مخططات الحكومات المتعاقبة ومشاريعها عبر البرلمان بغرفتيه.
كذلك التحقت منظمات الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، التي كانت وراء ترشحه لولاية رئاسية خامسة، بدائرة الداعمين للدستور الجديد، وأطلق عشرات الناشطين ورؤساء الجمعيات والتنظيمات المدنية تحالفًا جديدًا أطلق عليه اسم “المسار الجديد”، وأظهر استعداده للمشاركة في حشد الشارع.
تخندقت الأحزاب الإسلامية في الكتلة المعارضة للدستور الجديد كغيرها من الأحزاب العلمانية
وبنفس التوقيت أعلن قادة أحزاب سياسية وشخصيات وطنية ونقابات مهنية، إنشاء تكتل “القوى الوطنية للإصلاح”، يضم أحزاب مجهرية على غرار جبهة المستقبل وحزب الفجر الجديد إضافة إلى أحزاب أخرى قيد التأسيس كحزب السيادة الشعبية قيد التأسيس برئاسة أحمد شوشان وحركة المجتمع الديمقراطي “حمد” برئاسة خرشي النوي، إضافة إلى حركة عزم التي أعلن ميلادها بعد حراك فبراير/شباط الماضي.
من جهتها تخندقت الأحزاب الإسلامية في الكتلة المعارضة للدستور الجديد كغيرها من الأحزاب العلمانية على غرار التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية (أقدم حزب معارض في الجزائر) وجبهة القوى الاشتراكية، وأعلنت حركة مجتمع السلم (أكبر حزب إسلامي)، مشاركتها في الاستفتاء على تعديل الدستور في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، داعية إلى التصويت بـ”لا”، وقبل ذلك انسحب نوابها من جلسة التصويت التي جرت بالغرفة الأولى للبرلمان، وعلقت الحركة في مؤتمر صحافي نظمته في مقرها العام بالجزائر العاصمة، على دستور الرئيس الجديد عبد المجيد تبون على أنه “ليس دستورًا توافقيًا” وأن ما خلص إليه المشروع التمهيدي لم يراع الاقتراحات الأساسية للفاعلين السياسيين والاجتماعيين.
كذلك أعلنت جبهة العدالة والتنمية (حزب إسلامي) التصويت بـ”لا” على المشروع، ووجه رئيسها عبد الله جاب الله (أحد الوجوه الإسلامية البارزة في الساحة الجزائرية) انتقادات لاذعة للجنة الخبراء التي أشرفت على إعداد المسودة، وقال إن “التيار التغريبي العلماني” سيطر عليها.
الحركة الجمعوية حصان طروادة
اعتمادًا على هذه المؤشرات، يتحدث الكثيرون عن إمكانية التوجه نحو إعادة ترتيب المشهد السياسي رغم أنهم أجمعوا على أنه من الصعب التكهن بطبيعة المشهد القادم بعد الانتخابات البرلمانية المرتقب تنظيمها نهاية العام الحاليّ.
يقول الإعلامي والمحلل السياسي الجزائري، أحسن خلاص، في تصريح لـ”نون بوست”: “كل الاحتمالات ممكنة ومن السابق لأوانه بلورة مشهد سياسي خاصة أنه لم يتم الكشف عن الطبعة الجديدة من قانون الانتخابات الموجود حاليًّا على طاولة لعرابة”.
غير أن أحسن خلاص يرجح إمكانية تكرار سيناريو حزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي يعرف اختصارًا بـ”الأرندي” سنة 1997، فهذا الحزب لم يكن إلا تكتلًا للحركة الجمعوية آنذاك وهو التكتل الذي أنشئ لدعم الرئيس الجزائري الأسبق اليامين زروال وقد يعاد السيناريو هذه المرة بعد الانتخابات البرلمانية، وكان الرئيس الجزائري قد أظهر مرارًا وتكرارًا ميوله للمجتمع المدني كبديل للأحزاب السياسية التي لفظها الرأي العام في البلاد.
تكتل القوى الوطنية للإصلاح يسعى لاغتنام فرصة الاستفتاء على الدستور للعودة إلى المشهد السياسي
ويعتقد المحلل السياسي والإعلامي أحسن خلاص أن السلطة الجديدة في الجزائر بدأت تنظر للحركة الجمعوية على أنها قوتها الضاربة، وقانون الانتخابات المرتقب سيمكن الحركة الجمعوية من المشاركة السياسية إلى جانب الأحزاب، وهنا يقول إنها ستجد منافذ تمكنها من التحول بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة إلى كتلة سياسية جديدة تكون قادرة على منافسة الأحزاب وشبيهة بتلك التي تشكلت قبيل الانتخابات البرلمانية عام 1997.
يتوقع المتحدث أن يعاد النظر في المحطة الانتخابية المقبلة في نظام القوائم الانتخابية المعتمد منذ الانتخابات التي نظمت عام 1997، ويرجح المحلل السياسي إمكانية العودة إلى العمل بنظام الأحادية الإسمية بدورين أي سيتم التخلي عن القائمة الولائية، ويرى أن هذا النظام يكفل بروز شخصيات محلية في البرلمان ضمن الحركة الجمعوية بعيدًا عن مظلة الأحزاب السياسية التي سيطرت طيلة العقدين الماضيين من الزمن على مقاعد البرلمان بغرفتيه.
ويربط المحلل قراءته بما ورد في وثيقة الدستور التي سيصوت عليها الجزائريون في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني القادم، حيث تنص المادة 103 في مشروع تعديل الدستور على أن الحكومة تتكون من الوزير الأول أو رئيس الحكومة حسب الحالة، ومن الوزراء الذين يشكلونها، وفي حالة إذا أسفرت الانتخابات التشريعية عن أغلبية رئاسية، يعين رئيس الجمهورية وزيرًا أول ويكلفه بتشكيل حكومة وإعداد مخطط عمل لتنفيذ البرنامج الرئاسي، أما في حالة اختيار الصندوق لأغلبية برلمانية، فإن الدستور يحفظ لرئيس الجمهورية صلاحية تعيين رئيس للحكومة على أن يكون من الأغلبية البرلمانية، بشرط أن يعد برنامج الأغلبية البرلمانية”.
أما العضو البارز في تكتل القوى الوطنية للإصلاح عبد القادر بريش، فأبدى مخاوفه من عودة الأحزاب التقليدية المشهد، ويقول لـ”نون بوست” إنها تسعى لاغتنام فرصة الاستفتاء على الدستور للعودة إلى المشهد السياسي.
بريس يرى أنه إذا لم تعط السلطة الوقت الكافي للقوى السياسية الجديدة من أجل تنظيم نفسها وتنظيم انتخابات بصورة استعجالية قبل نهاية السنة، سيجد المشهد السياسي نفسه أمام نفس الخريطة السياسية وستبقى القوى السياسية التقليدية مهيمنة لأنها مهيكلة ومنظمة، ولذلك لن تطرأ تغييرات كثيرة على المشهد السياسي ما عدا بعض التغييرات الطفيفة ببروز كتلة للأحرار تمثل نخب المجتمع المدني وبعض الشباب.