يؤمل السودانيون أنفسهم بحصد مبكر وسريع لثمار اتفاق السلام الموقع قبل يومين بين الحكومة والجبهة الثورية السودانية، لطي صفحة من العداء والحرب دامت لسنوات طويلة، استنزفت خلالها موارد البلاد وأرهقت الميزانيات وأزهقت الأرواح وعطلت التنمية وعرقلت مسيرات النمو.
حالة من التفاؤل تخيم على الأجواء بعد هذه الخطوة التي انتظرها الجميع لتفتح الباب على مصراعيه أمام آفاق جديدة من النهوض الاقتصادي والمعيشي، في مقابل شكوك آخرين بشأن قدرة هذا الاتفاق على الانتقال من مرحلة التنظير الورقي إلى الواقع العملي الميداني في ضوء حزمة التحديات التي تجعل من عملية الانتقال مسألة ليست بالسهلة كما يتوقع البعض.
وقد جرت مراسم التوقيع بين الحكومة والجبهة، السبت 3 أكتوبر/تشرين، في جوبا، بحضور مسؤولين من حكومات عربية وإقليمية، فضلًا عن ممثلين عن الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، وتضمن الاتفاق 6 بروتوكولات عامة سعت لحلحلة القضايا العالقة والتي كانت مثار خلاف بين الطرفين طيلة السنوات الماضية.
ومن أبرز النقاط التي تطرق إليها الاتفاق الترتيبات الأمنية والمتعلقة باندماج الحركات المسلحة في المؤسسة العسكرية السودانية، بجانب قضايا الهوية والمواطنة والحريات العامة، مع وضع بند حاص بملف النازحين واللاجئين الذين شرّدتهم الحروب الماضية وفق ترتيبات جديدة.
تفاؤل بتحسن اقتصادي
كثير من الأراء حمًلت الفترة العصيبة التي شهدتها البلاد أثناء سنوات الصراع المسلح بين الحكومة وتلك الحركات مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع من تدني على كافة القطاعات، كان المواطن هو ضحيتها الأبرز، حيث التدهور الكامل في معيشته بصورة جعلت البلاد واحدة من أفقر دول القارة.
وعليه وفي أعقاب توقيع الاتفاق الذي سمي بـ”التاريخي” بحسب الشارع السوداني، انبرت الأصوات التي طالبت الحكومة بضرورة معاجلة التشوهات التي أعاقت النهضة وضرورة مواجهة عمليات التهريب والتدمير الممنهج الذي طال كافة قطاعات الدولة الاقتصادية وامتد أثره إلى بقية المجالات الحياتية.
رئيس حركة العدل والمساواة، جبريل إبراهيم، أحد الموقّعين على اتفاق السلام، أشار إلى أن هذه الخطوة ستخلق بيئة صالحة للوفاق الوطني في البلاد، وأنها ستوفر الأموال التي كانت تُنفق في الحرب، هذا بجانب تداعياتها الإيجابية على مستوى العلاقات السودانية مع دول العالم وجيرانها الإقليميين، الأمر الذي يقود إلى رفع العقوبات المفروضة.
وأضاف إبراهيم في تصريحاته التي أدلى بها لوكالة السودان للأنباء إلى أن الاتفاق وما يتضمنه من نشر لآفاق السلام سيخلق بيئة خصبة لعودة النازحين واللاجئين إلى مناطق الإنتاج مرة أخرى، ليساهموا جنبًا إلى جنب أشقائهم في دفع قاطرة الاقتصاد القومي للأمام.
الرأي ذاته ذهب إليه العديد من الخبراء الاقتصاديين ممن يرون أن الاستقرار السياسي والأمني هو الباب الأكثر اتساعًا لنمو الاقتصاد وازدهار مجالاته، فهو المقوم الأول لخلق مناخ استثماري ملائم لنهضة قطاعات الأعمال، وما لذلك من إعادة الصورة الذهنية الإقليمية والدولية للسودان والتي تعرضت للتشويه خلال السنوات الماضية.
أنصار هذا الاتجاه يعتبرون أن طي صفحة الخلافات عبر هذا الاتفاق يسمح لأجهزة الدولة بالتركيز أكثر في أداء أدوارها المنوطة بعيدًا عن تشتيت الانتباه التي كانت تعاني منه من خلال فتح جبهات النزاع عليها بما يؤثر بالطبع على مستوى الأداء وحجم وقيمة النتائج المحققة.
لشباب وشابات #السودان, وخاصة لو السلام أستدام, حيكون الوجهة الأستثمارية الأولى في أفريقيا خلال السنوات القليلة القادمة. رؤوس أموال حتدخل بشكل ضخم. أنسوا السياسة وأستعدوا للخير الجاي. البداية تكون بنفسك أنت. جهز شهاداتك المهنية, دراسات جدوى لمشروعاتك.حسن لغتك ومهاراتك. أبقى جاهز. pic.twitter.com/KpA7iwLlhJ
— Amro Zakaria Abdu (@aswagalmal) October 5, 2020
لكنه مشوب بالحذر
وفي الجهة الأخرى هناك من يتعامل مع هذا الاتفاق بشيء من الحذر فيما يتعلق بنتائجة وسرعة جني الثمار، حيث ذهب البعض إلى أن السلام المتفق عليه هو “سلام منقوص” طالما سجلت بعض الحركات المسلحة غيابًا عن توقيع بنوده، بحسب وصف الخبير الاقتصادي السوداني، الفاتح عثمان.
عثمان يرى أن افتقار تمويل الاتفاق – حتى كتابة هذه السطور- يضع تنفيذه على المحك، فالأوضاع الاقتصادية، المحلية والإقليمية والدولية، تعاني من أزمات حادة منذ تداعيات فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، الأمر الذي يضعف من فرص الحصول على تمويلات جيدة لدعم هذه الخطوة وتنفيذها على أرض الواقع.
أما في حالة تحمل الحكومة السودانية في وضعيتها المزرية الحالية، تمويل عملية السلام، فإن ذلك سيكون على حساب رصيد المواطنين الذين يئنون بطبيعة الحال من الأوضاع المتدنية، خاصة وأنه وبحسب الاتفاق فإن مطلوب دمج ما يقرب من 10 ألاف مجند في الحركات المسلحة للجيش السوداني، يحتاجون لميزانية ضخمة لتنفيذ هذه الخطوة، بحسب الخبير السوداني.
تحد آخر ربما يعرقل إتمام الاتفاق ميدانيًا، يتعلق بتداعيات غياب بعض الحركات المسلحة عن التوقيع، فحتى وإن صمت صوت المدفع مؤقتًا فإن ذلك لا يعني إخراس هذا الصوت للأبد، خاصة وأن هناك بؤر ومناوشات لا تزال قائمة من حركة عبد الواحد نور في غرب السودان “جبل مرة” لتحطيم هذه الخطوة.
الكاتب والمحلل السياسي خالد التيجاني كان قد قال في مداخلات سابقة له لبرنامج “ما وراء الخبر” المذاع على “الجزيرة” بتاريخ (2020/8/31) “إنه تم توقيع العشرات من الاتفاقات سابقًا لتحقيق السلام في جوبا، لكن غالبًا ما يتم التراجع عن الالتزام بما تم التوقيع عليه، ويتم اللجوء إلى الحرب مرة أخرى”، مضيفًا أن الاتفاق الحالي والذي وقع بالأحرف الأولى في أغسطس الماضي رغم أنه جاء في سياق تم تغيير نظام البشير فيه إلا أن الظروف لم تأت بشيء جديد عما كانت عليه الاتفاقات الموقعة في السابق.
مقرر المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة عبد الله أوبشار متحدثاً للمعتصمين أمام بوابات ميناء #بورتسودان اليوم: شرق #السودان كلو مترس pic.twitter.com/GHlOatBmjO
— Sudan News (@Sudan_tweet) October 5, 2020
تلويح بالتصعيد
وبينما تتباين أراء الشارع السوداني بشأن المكاسب الاقتصادية المتوقع تحقيقها من خلال هذا الاتفاق، أغلق محتجون على هذه الخطوة محطة الحاويات في ميناء بورتسودان على البحر الأحمر شرقي البلاد، رفضا لما يسمى بـ”مسار الشرق” المضمن في اتفاق السلام.
ويعني هذا المسار بمناقشة قضايا شرق السودان المتعلقة بتقاسم السلطة والثروة، وتحقيق التنمية والخدمات، وقد تم تضمينه ضمن المسارات الخمسة للاتفاق، فيما هدد عبد الله أوبشار مقرر مجلس “نظارات البجَا” وهو مجلس يضم عددًا من القبائل في شرق السودان- بتصعيد الخطوات حال عدم التوصل إلى اتفاق بين المجلس والحكومة.
المحتجون يطالبون بإلغاء هذا المسار في الاتفاق، مؤكدين أن استمراره يعني الارتهان للأجندة الخارجية، وخضوعه لإملاءات ورغبات المستعمرين الجدد لاسيما من مناطق النفوذ المالي في إفريقيا والتي تسعى لإحكام السيطرة على موانئ القارة، ما يعني أنه لايمثل أهل شرق السودان كما هو مفترض.
رئيس نقابة هيئة الموانئ البحرية، عبود الشربيني في تصريحاته للأناضول، أكد استمرار الرافضين للاتفاق في تصعيدهم، حتى تحقيق مطالبهم، بإلغاء هذا المسار، رغم تأكيد فيصل محمد صالح وزير الإعلام المتحدث الرسمي باسم الحكومة السودانية أن حكومته لا تفكر في بيع ميناء بورتسودان أو تأجيره لأي جهة كانت، وذلك في مقابلة تلفزيونية سابقة له.
وكان موقع المونيتور الأمريكي قد كشف في يناير/كانون الثاني الماضي عن ضغوط إماراتية على الإدارة الأمريكية لدعم مخطط شركة موانئ دبي للاستحواذ على ميناء “بورتسودان” لمدة عشرين عامًا، وكان قد سبق لحزب “المؤتمر الشعبي” المعارض أن حذر في ديسمبر/كانون الأول 2019 من رهن واحتكار موانئ البلاد لدولة خليجية، بدعوى حلحلة الأزمة الاقتصادية.
وبين التفاؤل والحذر ومخاوف الانهيار المبكر تبقى الأيام القادمة هي المحك الأول لاختبار اتفاق السلام الموقع في وقت يسابق فيه السودان الزمن للنهوض من عثراته الاقتصادية التي باتت تمثل شبحًا يؤرق مضاجع الحكومة وسط ضغوط، داخلية وخارجية، عدة تعرقل كل خطوة نحو الخروج من هذا المأزق.