ترجمة وتحرير نون بوست
كيف تحمي ثقافة يجري محوها؟
بالنسبة للأويغور، يعد ذلك أكثر من مجرد واقع مثير للشفقة. ازدادت الإجراءات القمعية ضد الأقلية العرقية سوءا، حيث احتجزت الحكومة الصينية أكثر من مليون منهم في معسكرات الاعتقال، وتعرضوا للقمع السياسي والتعقيم القسري والتعذيب.
لا يقتصر استهداف الأويغور على معسكرات الاعتقال فقط. منذ سنة 2016، دُمّرت عشرات الأضرحة والمواقع الدينية، وتم حظر استخدام لغة الأويغور في مدارس شينجيانغ واستبدالها بلغة ماندراين الصينية. كما تم التضييق على ممارسة طقوس الدين الإسلامي الذي يؤمن به الأويغور، بحجة أنها “تدل على التطرف”.
تعتبر بكين أن هذه الإجراءات هي وسيلتها لاستئصال الإرهاب والنزعة الانفصالية والتطرف الديني. لكن الهدف من تصرفات الصين في شينجيانغ واضح، فهي تسعى إلى دمج الأويغور ضمن قومية الهان الصينية، حتى لو كان ذلك يعني طمس هويتهم الثقافية والدينية إلى الأبد. ما يحدث هو عبارة عن إبادة ثقافية.
يؤثر ذلك بشدة حتى على الأويغور الذين يعيشون خارج البلاد. فالمسؤولية التي تُلقى على عاتقهم لا تقف فقط عند مجرد لفت أنظار العالم لما يحدث في وطنهم – وهي مهمة تحملها الكثيرون بتكلفة باهظة – بل يتعلق الأمر أيضا بالحفاظ على هويتهم والترويج لها في البلدان التي يعرف فيها القليل من الأشخاص عن الأويغور، ناهيك عما قد يخسره العالم إذا تم القضاء على لغتهم وأكلاتهم وفنونهم وتقاليدهم.
في محاولة لفهم هذا النوع من المقاومة الثقافية على أرض الواقع، تحدثت مع سبعة من الأويغور المقيمين في بريطانيا وفرنسا وتركيا والولايات المتحدة. هؤلاء طهاة وشعراء ومغنون وصانعو أفلام ومدرسو لغات وموسيقيون، يساهم كل من موقعه في هذه المهمة بطرق مختلفة. وجميعهم متحمسون لضمان انتقال تراثهم إلى الأجيال القادمة بكل عزم وإصرار.
أخبرني عمر كانات، مدير “مشروع الأويغور لحقوق الإنسان”، وهي منظمة غير ربحية مقرها العاصمة الأميركية واشنطن، أن “جميع الأويغور يعيشون الآن تحت ضغط نفسي هائل. لا يمكننا النوم في الليل”.
أفراد من الأويغور ومجموعة من المتعاطفين مع القضية يتظاهرون للتنديد بقمع الصين لهذه الأقلية العرقية في باريس في آب/ أغسطس.
في نيسان/ أبريل 2017، كان عدد قليل فقط من الناس خارج آسيا الوسطى يسمعون عن الأويغور. على الرغم من أن هذه المجموعة العرقية تضم أكثر من 11 مليون شخص في شينجيانغ، يعيش حوالي مليون شخص منهم خارج الصين، معظمهم في كازاخستان وأوزبكستان وتركيا، مع أعداد أقل بكثير في الولايات المتحدة وأوروبا. والواقع أن التقارير التي تكشف اضطهادهم من قبل السلطات الصينية لم تصل إلى أوسع نطاق من الجمهور العالمي حتى وقت لاحق من تلك السنة.
في تلك الظروف، قررت مقدس ياديكار، وهي امرأة من الأويغور أصولها من منطقة إيلي شمال غرب شينجيانغ بالقرب من الحدود الصينية الكازاخستانية، فتح مطعم أطلقت عليه اسم “أطلس”، من بين أول مطاعم الأويغور التي فُتحت في لندن. يقع “أطلس” في شارع رئيسي مزدحم في شمال لندن يعج بمحلات الوجبات السريعة، ومحلات المراهنات، والمقاهي، وتتميز واجهة “أطلس” بلونها الأزرق الساطع الذي يمنحه طابعا مختلفا عن المحلات المحيطة به.
نظرًا لأن وطن الأويغور يقع على طول طريق الحرير القديم، يضم مطبخهم جميع أطباق آسيا الوسطى، حيث يشتمل على أكلات متنوعة مثل النودلز التي تُأكل باليد، وخبز النان المقرمش. حتى رواد المطعم الذين اعتادوا على الأطعمة المتنوعة في العاصمة البريطانية، قد لا يتوقعون العثور على الزلابية والسمبوسة والشيش كباب في قائمة واحدة. ومع ذلك، فإن هذه الأطباق في مطعم “أطلس” ليست سوى عينة فقط من مطبخ الأويغور الفريد من نوعه.
قالت لي ياديكار بعد ظهر أحد أيام الأحد بينما كنا نحتسي الشاي: “طعامنا غني جدا، ومختلف جدا”. غياب أكلات الأويغور في بريطانيا هو العامل الذي ألهمها فكرة افتتاح المطعم مع زوجها عبد الكريم رحمان. في بداياته، كان مطعم “أطلس” يلبي أساسا احتياجات الصينيين نظرا لعدم إلمام البريطانيين بمطبخ الأويغور حسب رأي ياديكار. لكن ذلك تغير مع مرور الوقت، وقالت ياديكار إن “معظم عملائنا أصبحوا من البريطانيين الآن”، مضيفة أن قائمة طعامهم جذبت أعدادا كبيرة من الجالية البريطانية المسلمة، الذين يصعب عليهم العثور على الطعام الصيني الحلال. واليوم، يدير الزوجان مطعمين في شمال لندن (افتتح الثاني في كانون الأول/ ديسمبر، قبل أشهر فقط من إغلاق المطعمين جراء الوباء).
مطعم أطلس هو عبارة عن إحياء لثقافة الأويغور. يوضع حرير أطلس، وهو قماش الأويغور التقليدي الذي اشتق منه اسم المطعم، على كل طاولة. تتوسّط لوحة منسوجة للفنان غازي أحمد بعنوان “مقام الأويغور”، وهي إحدى أكثر اللوحات شهرة في سنجان، غرفة الطعام. وكل جدران المطعم مزينة بأدوات تقليدية وأغطية مطرزة ولوحات مزخرفة.
عندما سألت ياديكار وعبد الرحمن عن الدور الذي يقومان به لحماية ثقافة الأويغور، توقفا لعدة ثوان قبل إعطاء الإجابة، لأن هذا السؤال ليس من نوعية الأسئلة المعتادة. تخلّل هذا الصمت أصوات أطفالهم الثلاثة الصغار الذين كانوا جالسين معا على إحدى الطاولات ينجزون واجباتهم المدرسية. وبطريقة ما، كما لو أنهم أجابوا على السؤال عوضا عن والديهم.
قال عبد الرحمن، وهو يشير إلى الأطفال: “نحن فقط نحاول نقل ثقافتنا وهويتنا وديننا إلى الجيل القادم”. على الرغم من أن الأطفال يتحدثون اللغة الأويغوريّة بطلاقة في المنزل، لم يزر سنجان إلا اثنان منهم فقط عندما كانا صغارا، لذا لا يتذكّرانها. تحافظ ياديكار وزوجها عبدالرحمان على روح الوطن الأم حية في أطلس. وفي هذا الشأن، تقول ياديكار: “من خلال هذا المطعم، يمكننا التعريف بشعبنا وثقافتنا وتقاليدنا. وبما أننا لا نستطيع الذهاب إلى إيلي ولا نستطيع رؤية شعبنا ولا يمكنهم هم المغادرة كذلك، علينا إذا أن نعرّف بشعبنا، وعلينا أن نحميهم”.
غرفة الطعام الخاصّة بمطعم أطلس في والتهامستو، شمال لندن.
قلة هم الذين يفهمون المهمة الشاقة لإعادة إحياء إحدى الثقافات مثل ديفين نار. منذ قرابة عقدين من الزمن، سعى المؤرخ وأستاذ الدراسات السفاردية في جامعة واشنطن إلى فهم يهود السفارديم واستعادة عالمهم المفقود، حيث بدأ هذا العمل عندما كان في الكلية. ينبع اهتمام نار بالمسألة من تاريخ عائلته، الذي يقول أنه يمثّل “لغزا” يمتدّ من مدينة سالونيك الساحلية اليونانية (المعروفة اليوم باسم ثيسالونيكي)، حيث كانت تعيش إحدى أكبر الجاليات اليهودية السفاردية في العالم، إلى مجموعة السفارديم الموجودين اليوم في سياتل، وهو مكان إقامته الحالي.
مع نهاية القرن الخامس عشر، كانت شبه الجزيرة الإيبيرية موطنا لإحدى أكبر الجاليات اليهودية في العالم، وذلك إلى حدود سنة 1492 عندما وجهت إسبانيا إنذارا نهائيا لسكانها اليهود: إما أن يتخلّوا عن ديانتهم أو يغادروا البلاد أو يُقتلوا. بحث مئات الآلاف من اليهود السفارديم المطرودين ( مصطلح السفارديم مشتق من اسم إسبانيا في العبرية، سيفاراد) عن أماكن لجوء مثل البرتغال (التي أصدرت إنذارا مشابها بعد فترة وجيزة)، وإيطاليا وهولندا، بينما شقّ آخرون، على غرار أسلاف ديفين نار، طريقهم نحو الإمبراطورية العثمانية.
حدّثني نار عن أسلافه في سالونيك قائلا: “لم يكونوا يتحدثون اليونانية أو التركية في المنزل، لكنهم كانوا يتحدثون بلغة أطلقوا عليها اسم اللغة الإسبانية”. في الواقع، مثلهم مثل السفارديم الآخرين، تحدّث أسلافه لغة مختلفة قريبة من اللغة الإسبانية تعود لقرون سابقة وتعرف باسم الإسبانيّة اليهوديّة، وهي لغة تستخدم النص العبري.
نشأ نار في الولايات المتحدة، حيث قال إنه لم يعرف سوى بعض المعلومات القليلة عن تاريخ السفارديم وثقافتهم، وأن بعض الكتب قدمت له بالكاد بعض الهوامش حول يهود الإمبراطورية العثمانية المتأخرة. وأشار نار إلى أن هذا النقص في المعلومات يعود جزئيا إلى اندماج السفارديم في الثقافات الأخرى، والهولوكوست الذي مات خلاله عشرات الآلاف من سفارديم سالونيك. يضيف نار: “لقد كنا غائبين، لم نكن موجودين في التاريخ”.
في الواقع، وجد نار بعض المعلومات، إذ كان أحد أعمامه يحتفظ بمجموعة من الرسائل التي يعود تاريخها إلى سنة 1935، وكلها مكتوبة باللغة الإسبانيّة اليهوديّة، وهي لغة كان يجب على نار تعلّمها حتى يستطيع فك شيفرة الرسائل. كشفت المراسلات عن فصول مؤلمة من تاريخ عائلته، بما في ذلك تفاصيل حول أفراد أسرته الذين فشلوا في الحصول على تأشيرات إلى الولايات المتحدة في ذروة الحرب العالمية الثانية، وأولئك الذين نقلوا في قطارات إلى معسكر أوشفيتز. وأوضح نار قائلا: “عندما بدأت أعرف عن تلك القصة، أحسست أني ملزم أن أفعل شيئا ما، وأني يجب أن أتعمق أكثر في عالمهم”.
قاده البحث إلى أبعد من سالونيك، إلى القدس وموسكو ونيويورك، وعثر على كتاب مهم عن تاريخ اليهود السفارديم في سالونيكا. لكن الجهود المبذولة لإحياء ثقافة السفارديم مازالت بعيدة كل البعد عن الاكتمال. اليوم، يُعتقد أن هناك ما يتراوح بين 60 ألف و400 ألف شخص يتحدثون اللغة الإسبانيّة اليهوديّة في جميع أنحاء العالم. قلة هم الذين تحدثوا هذه اللغة منذ الولادة، ويفترض أن لا أحد منهم يتحدثها كلغة وحيدة.
تشير هذه الأعداد المتضائلة إلى أن عددا من الكتب الجديدة، إن وجدت، قد تُنشر باللغة الإسبانيّة اليهوديّة. بالإضافة إلى ذلك، فإن آخر صحيفة ناطقة بهذه اللغة في العالم، وهي “إل أمانيزير” أو “ذا دون”، تكتب باستخدام الحروف اللاتينية. وعلى الرغم من بذل بعض الجهود مؤخرا للحفاظ على هذه اللغة، بما في ذلك قرار صدر في إسبانيا سنة 2018 ينصّ على الاعتراف بالإسبانيّة اليهوديّة كلغة رسمية وإنشاء أكاديمية جديدة لهذه اللغة في إسرائيل، إلا أنه لا يزال يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها لغة معرضة للانقراض.
بالنسبة لليهود السفارديم، يعني فقدان لغتهم أكثر من مجرد اختفاء لغة أسلافهم، بل يعني عدم قدرتهم على الإطلاع على الثروة الأدبيّة للغة الإسبانيّة اليهوديّة، وخسارة مئات الآلاف من الصفحات التي عمل نار بمساعدة جامعة واشنطن على رقمنتها كجزء من أول مكتبة افتراضية لهذه اللغة في العالم. ومن جهة أخرى، يعني فقدان اللغة أيضا فقدان مجموعة من القصص ووجهات النظر وطرق التفكير، إذ قال نار إنه “عندما تغيب اللغة كخاصية تنظيمية، يضيع معها الكثير”.
مجلة للأطفال الأويغور في الشتات. يقول محررها ميسر عبد الواحد هندان، إنها تهدف إلى مساعدة الأطفال على تعلم لغة الأويغور.
لا شك أن الوضع الذي عاشه اليهود السفارديم يختلف عن الوضع الذي يواجهه الأويغور اليوم. ففي حين تعرّض السفارديم للطرد منذ أكثر من 500 سنة، فإن قمع الأويغور يحدث في الوقت الحاضر. في حين عمل السفارديم على الحفاظ على تقاليدهم داخل عائلاتهم، وأبقوها سرا في كثير من الحالات، تمكن الأويغور من استخدام الأدوات الحديثة مثل الإنترنت للحفاظ على ثقافتهم. ومع ذلك، يمكن استخلاص بعض العبر من التحديات المشتركة بينهما.
يتعلق الدرس الأول بالوطن، وكيف يمكن لمجتمع أن يحافظ على ثقافته خارجه. بالنسبة لليهود السفارديم، فإن هذه القضية حاضرة دائمًا. منذ طردهم من شبه الجزيرة الأيبيرية، حملوا معهم هوية مميزة لمجتمع يعيش في الشتات. ورغم ما قدمته إسبانيا والبرتغال من عروض لتمديد حق الجنسية ليهود السفارديم الذين أجبروا على مغادرة كلا البلدين قبل مئات السنين، فإن وضعهم لم يتغير حقًا. وحسب نار: “لا توجد دولة في العالم تتحدث باسم اليهود السفارديم بصفتها دولة يهود السفارديم. تتحدث إسبانيا نيابة عنهم كجزء من الإمبراطورية الإسبانية … وتتحدث إسرائيل نيابة عن اليهود بسبب الرابط الديني. لكن لا يوجد سفارديون. لا يوجد مثل هذا الشيء”.
على النقيض من ذلك، يمتلك الأويغور وطنا، وإن كان من النادر أن يتمتع بحكم ذاتي. (رغم قيام جمهورية تركستان الشرقية التي لم تدم طويلا، والتي يفضل بعض الأويغور تسميتها سنجان، إلا أن المنطقة ظلت تحت الحكم الصيني منذ سنة 1949). لكن القمع المسلط من قبل الصين وضع مستقبل ثقافة الأويغور في وطنهم الأم على المحك، ما دفع العديد منهم إلى مغادرته.
هذا هو حال رحيمة محمود المغنية والناشطة الإيغورية المقيمة في لندن والتي تنحدر أصولها من غولجا الشمالية. بدأت محمود التي نشأت في عائلة من الموسيقيين الغناء منذ صغرها. قالت لي عبر الهاتف وهي تضحك: “حسب والدتي، كنت قادرة على الغناء عندما بدأت أتكلم”. عرفّها أشقاؤها الأربعة على الموسيقى وعزفوا على الطبول والكمان وآلات الأويغور التقليدية مثل الدوتار والطمبور. وقالت محمود: “بطبيعة الحال، أصبحت الموسيقى جزءًا مني”.
اتخذت محمود قرار مغادرة مسقط رأسها غولجا قبل عقود من شن بكين الحملة القمعية على الأويغور. أثناء زيارة منزلها لرؤية أسرتها في سنة 1997، شهدت محمود حملة قمع عنيفة ضد المتظاهرين السلميين الذين طالبوا بوضع حد للتمييز الديني والعرقي. قُتل العشرات واعتقل الآلاف، وقالت محمود إن صهرها كان من بين المحتجزين، وحُكم عليه بالسجن لمدة 12 سنة. حيال هذا الشأن، قالت: “استطعت أن أتأكد من أن الوضع كان سيئًا للغاية”.
بعد ثلاث سنوات، سافرت محمود إلى بريطانيا للحصول على درجة الماجستير وانتقلت في النهاية إلى لندن، حيث التقت بموسيقيين وأويغور آخرين شكلت معهم فرقة الأويغور في لندن، التي قامت بجولة في بريطانيا وأوروبا والولايات المتحدة وكندا.
محمود تؤدي عرضا مع فرقة الأويغور في لندن.
عندما سألتُ محمود عما إذا كانت تشعر أنها تستطيع الاستمتاع بثقافتها بحرية أكبر خارج حدود الوطن، أخبرتني بأنها لن تتمكن أبدًا من التحدث بحرية أثناء التنديد بالانتهاكات التي ترتكبها الحكومة الصينية: من بين أفراد أسرتها المباشرة، كانت محمود الوحيدة التي تمكنت من مغادرة سنجان مع زوجها وابنها آنذاك. كانت آخر مرة تحدثت فيها مع أفراد عائلتها المتبقيين في سنة 2017، وقد تجنبت الاتصال بهم خوفًا من المساس بسلامتهم.
منذ سنة 2017، تعرضت المئات من الشخصيات الثقافية البارزة من الأويغور، بما في ذلك المطربين والموسيقيين والروائيين والباحثين والأكاديميين للاعتقال والسجن أو اختفوا، وذلك حسب مشروع الأويغور لحقوق الإنسان.
أخبرني طاهر حمود إزغيل، وهو شاعر ومخرج سينمائي من الأويغور ومقيم في واشنطن العاصمة – عبر مترجم – أن القمع الذي تتعرض له ثقافة الأويغور يعود إلى سنة 2012 على الأقل، عندما بدأت الحكومة الصينية في “إعادة فحص” المنشورات الصادرة باللغة الأويغورية والأفلام والموسيقى، التي أُدرج العديد منها في القائمة السوداء. في هذا الإطار، قال إزغيل: “كان على فرق الموسيقى والرقص الخاصة بالأويغور تقديم عروضها بالكامل باللغة الصينية … وحول مواضيع مثل معارضة الانفصالية وحب الوطن الأم والحزب ووحدة الشعوب”.
غالبًا ما يتطرق عمل إزغيل إلى مواضيع مثل الوطن والدين والمنفى – وهي مواضيع يكاد يكون من المستحيل الكتابة عنها في سنجان اليوم. لم يقرر إزغيل نشر مجموعة من قصائده رسميًا إلا بعد سنة 2017 عندما خطط للمغادرة إلى الولايات المتحدة. في هذا السياق، قال: “كنت أعلم أنني إذا غادرت إلى أمريكا، فقد لا أعود أبدًا إلى وطني. أردت أن أتأكد من توزيع مجلد واحد على الأقل من عملي على شعبي حتى يحصلوا عليه”. في النهاية، تمكن إزغيل من توزيع ألف نسخة، بينما صودرت ألفي نسخة أخرى.
يواصل إزغيل نشر قصائده باللغة الأويغورية على الإنترنت. بصفته أبًا لثلاثة أطفال، أوضح أنه يرى أن من مسؤوليته تتمثل في ضمان أن يكون أطفاله قادرين على التحدث بهذه اللغة. واتخذ آخرون نهجًا أكثر رسمية للحفاظ عليها. في الواقع، يُمنع تدريس اللغة الأتراكية، مثل لغات الأقليات الأخرى، في المدارس في الصين، على الرغم من أن هذا الأمر لم يمنع الأويغور في الشتات من إنشاء مدارس لغات خاصة بهم في الخارج، بما في ذلك في فرنسا والولايات المتحدة وتركيا.
قالت مُيسر عبد الواحد هندان، وهي مدرسة لغة أويغورية في إسطنبول، في رسالة بريد إلكتروني: “تمثل اللغة مفتاح الحفاظ على الأمة”. تدير هندان مدرسة لغة غير رسمية للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و12 سنة، وعلى الرغم من أن الوباء أجبرها على التركيز على التعليم عبر الإنترنت فقط، إلا أنها قالت إن هذه الطريقة مكنتها أيضًا من جمع عدد أكبر من التلاميذ.
ذكرت هندان أنها تدرّس حتى الآن جنبًا إلى جنب مع مدرسين أويغور من أماكن بعيدة مثل النرويج والسويد وأستراليا وفرنسا ما يقرب من 150 طالبًا في جميع أنحاء العالم. وأفادت قائلة: “إذا ورث عدد كافٍ من الأطفال لغةً وثقافةً، فلن يكون كلاهما في خطر”.
قد لا تضمن اللغة وحدها استمرار بقاء هذه الثقافة. في هذا الصدد، أورد إزغيل: “إذا كانت [الأجيال القادمة] غير قادرة على زيارة وطنها، وإذا كانوا غير قادرين على رؤية وطنهم الأصلي، وإذا كانوا غير قادرين على تجربة الثقافة في ذلك المكان، فسيكون الأمر أكثر صعوبة عليهم”. وتابع قائلا: “إذا وقع تدمير ثقافة الأويغور في موطنها في الأجيال العديدة القادمة، فسيكون من الصعب جدًا على الأويغور الذين يعيشون في الشتات الحفاظ عليها. حتى لدى الأويغور في الشتات، قد تختفي هذه الثقافة”.
صور لإزغيل التقطت خلال شهر أيلول/ سبتمبر 2012 رفقة طاقم فيلمه وفنانين محليين منغوليين في سنجان.
إن حماية الثقافة تتطلب أكثر من مجرد الاحتفاظ بسجل تاريخي لوجودها، ذلك أنه لا يمكن وضع الثقافات داخل الزجاج مثل القطع الأثرية. على غرار الناس الذين يتبنونها، يمكن للثقافات أيضا أن تنمو وتتأقلم وتتطور. لعل خير مثال على ذلك اللغة الإسبانية اليهودية، لكن هذه اللغة التي كانت دارجة في القرون الوسطى مختلفة عن النسخة الحديثة المستخدمة في عصرنا الحالي. في هذا السياق، قال نار إنه أثناء سفر اللغة، “امتصت مثل الإسفنج العناصر اللغوية والثقافية لبيئتها المحيطة في الإمبراطورية العثمانية”، مشيرا إلى أن اللغة استعارت منذ ذلك الحين عناصر من العربية واليونانية والإيطالية والفرنسية والإنجليزية.
بالنسبة لموكاداس ميجيت، وهي صانعة أفلام وعالمة موسيقى إثنية وخبيرة في الرقص الأويغوري وموسيقى أورومتشي، عاصمة سنجان، فإن التوتر بين الحفاظ على عناصر الثقافة على حالها والسماح لها بالنمو والتطور هو في صميم التحدي الذي يواجهه الأويغور المغتربون. عندما غادرت سنجان لأول مرة في سنة 2003 للدراسة في جامعة باريس نانتير، “لم يكن أحد يعرف حقا من أين أتيت أو منهم الأويغور”، حسب ماصرحت به.
تعتقد ميجيت أن الثقافة يمكن أن تلعب دورا في زيادة الوعي، لذلك بدأت في تنظيم الأحداث الثقافية الإيغورية المعروفة باسم “مشريب”. يضم هذا التجمع مجموعة من الأشخاص للاستمتاع بالطعام والشعر والموسيقى والرقص. ويقوم “المشريب” على تسلسل هرمي منظم، حيث يوجد رئيس للحفل وهو يعد بمثابة منتدى للمجتمع للتوسط في حل النزاعات القائمة ونقل العادات والتقاليد المهمة. (على الرغم من أن المشريب مدرج في قائمة اليونسكو لـ “التراث الثقافي غير المادي”، إلا أن السلطات الصينية حظرت النسخ “غير المشروعة” أو “غير الصحية” من هذه الممارسة).
أخبرتني ميجيت أن المغتربين الأويغور لم يدعموا جميعهم جهودها، حيث انتقد البعض الفعاليات باعتبارها لا تقوم على فعاليات أصلية، في حين تساءل آخرون لماذا ينبغي أن يركز المجتمع على الثقافة على الإطلاق، فكيف يمكننا التركيز على المسائل التافهة في حين يتعرض شعبنا للقمع؟ وقد كانت هذه المسألة مثيرة للجدل خارج نطاق فرنسا.
صرحت إليز أندرسون، خبيرة اللغة وموسيقى الأويغور والمسؤولة عن برنامج مشروع حقوق الإنسان للأويغور: “كثير من الأويغور كانوا مترددين جدا بشأن عقد المناسبات العامة أو الأحداث الاحتفالية – حيث يمكن في هذا النوع من المساحات أن تستمر هذه الثقافة في العيش والتنفس – لأنهم يشعرون أنها غير مناسبة طالما أن أقاربهم وأصدقاءهم يعانون في الوطن”. وأضافت أن “الكثير من الناس يشعرون بهذا النوع من المشاعر المتناقضة التي تشمل الرغبة في الاحتفال، بينما يشككون في الوقت ذاته في مدى فعاليتها في ظل المعاناة التي يعانيها شعبهم”.
على الرغم من أهمية رفع مستوى الوعي حول ما يحدث للأويغور في الصين، إلا أن اضطهادهم لا يروي وحده القصة الكاملة لهويتهم، ولا لماذا يجب على الناس أن يهتموا بقضيتهم. من خلال تمثيل ثقافتهم خارج إطار الممارسات القمعية، يقدم الأويغور المغتربون للعالم فهما أفضل ليس فقط لهويتهم، وإنما أيضا لما سيخسرونه في حال سُمح لثقافتهم بالتلاشي.
ميجيت وهي تؤدي رقصة الأويغور التقليدية في فاس، المغرب
حتى يحقق الأويغور النجاح في مساعيهم، تجادل ميجيت بأن المغتربين يجب أن يكونوا على استعداد لتجاوز مجرد السعي لأن يكونوا أصليين. بالنسبة لها، إن “الهدف الأساسي من امتلاك ثقافة مختلفة هو التمكن من التواصل مع الآخرين ومشاركتها معهم. يشعر الناس بالقلق الشديد بشأن الحفاظ على الأشياء لدرجة أنهم ينسون أن هذا الشيء الذي يريدون الحفاظ عليه هو شيء حي. وإذا كنا نريد حقًا الاحتفاظ به في صندوق، فهذا يعني أننا سنقتله بأيدينا”.
يشير هذا الاعتراف إلى حقيقة أشمل حول طرق الحفاظ على الثقافة: حتى عندما لا تواجه الثقافات ممارسات قمعية، كما هو الحال بالنسبة للأويغور، فإنها تظل عرضة لتغير نتيجة أسباب طبيعية مثل الهجرة أو الاندماج. وقد أشار جوشوا فريمان، مؤرخ التاريخ الصيني وآسيا الداخلية في برينستون ومترجم شعر الأويغور إلى اللغة الإنجليزية الذي قضى سبع سنوات في أورومتشي، إلى أنه لاحظ هذا النوع من التهجين الثقافي يحدث في الوقت الحالي مشيرا إلى أنه “كان هناك العديد من الأويغور، خاصة من جيل الشباب، الذين يتحدثون الصينية بطلاقة وكانوا قادرين من نواح كثيرة على التنقل في تلك المجتمعات والتحدث بلغتين”، مضيفا أنه “إذا كان مشروع الدولة الصينية هو دمج الأويغور كمجتمع في الصين، فقد كان هناك العديد من الأويغور الشباب الذين كان بإمكانهم لعب دور في ذلك”.
من خلال اللجوء إلى خيار الإدماج بالقوة، تشكل الصين تهديدا لثقافة الأويغور وهويتهم، ولكنها في الوقت ذاته ساهمت في نموها خارج موطنها الأصلي. اليوم، بدأ الأويغور المغتربون يستعيدون بعض ما فقدوه في سنجان من خلال إنشاء مطاعم الأويغور والمكتبات وافتتاح مدارس اللغات. كما يقومون بنشر قصائد وكتب ومجلات بلغتهم وتقديم موسيقى ورقصات تقليدية إلى العالم الأوسع.
قال فريمان: “هذا العدد الصغير نسبيًا من الكتاب والشعراء والفنانين وصانعي الأفلام والموسيقيين المغتربين.. يخلقون قدرًا لا يُصدق من الأعمال الجديدة والمهمة”. بفضلهم، لم تبق ثقافة الأويغور على قيد الحياة فحسب، بل ازدهرت. في الحقيقة، لا يعني أي من هذا أن ثقافة الأويغور لم تعد بمنأى عن أي خطر أو تهديد. ففي حال كان الأويغور غير قادرين على دراسة لغتهم الأم، أو ممارسة عقيدتهم، أو الاحتفال بحرية بهويتهم في وطنهم، فستتلاشى ثقافتهم شيئا فشيئا ويصبح من الصعب استعادتها.
في المقابل، أعرب العديد من الأشخاص الذين تحدثت معهم عن تفاؤلهم بأنه طالما أن المغتربين يستمرون في تعزيز ثقافتهم وتطويرها، فلن يضيع معظمها. ومن جهته، أوضح فريمان أن “مشروع الدولة الصينية لمحو هوية وثقافة الأويغور لن ينجح نظرا لأن المغتربين يحافظون عليها وعازمون على تقديمها للعالم أجمع”.
المصدر: الأتلانتيك