فجر الأربعاء 30 من سبتمبر/أيلول المنصرم توجهت قوة أمنية لأحد بيوت قرية العوامية في محافظة الأقصر من أجل اعتقال شاب شارك في تظاهرات 20 من سبتمبر تزامنًا مع دعوات المقاول محمد علي للتظاهر، لكن القوة الأمنية لم تجد ذلك الشاب فاعتدت على عائلته وصفعت رب المنزل فما كان من ابنه عويس الرواي إلا أن رد الصفعة للضابط الذي أطلق عدة رصاصات في رأسه وأرداه قتيلًا.
مقتل الراوي أدى إلى إشعال غضب أهل القرية الذين يعيشون أوضاعًا اقتصادية صعبة وعليه اشتعل الفتيل واحتجز أهالي القرية ثلاثة أمناء شرطة احتجاجًا على مقتل الرواي، فأغلقت قوات الأمن القرية وحدثت اشتباكات بين الطرفين: قوات الأمن باستخدام المولوتوف والغاز المسيل للدموع والأهالي بالحجارة والطوب، لتقطع الشرطة بعدها التيار عن القرية وسط صمت تام من السلطات المصرية ووسائل الإعلام التابعة لها.
حادثة الرواي لم تكن الأولى في محافظة الأقصر، حيث سبق وقُتل طلعت شبيب جراء التعذيب في قسم الشرطة وهنا عاد إلى الأذهان إشكالية تهميش الصعيد وإفقاره، ومن خلال هذا التقرير سنستعرض تاريخ الصراع الخفي والطويل الأمد بين الدولة المصرية والصعيد البعيد.
لماذا ظل الصعيد بعيدًا؟
ترتبط صورة الصعيد دومًا في العقل الجمعي بالإقصاء والنفي، فهو المكان البعيد عن قاهرة المعز الحديثة الذي يعج بالأمراض المستوطنة وتمتلئ رؤوس أبنائه بالجهل والخرافات والتقاليد والأعراف البالية، وفي العرف الحكومي يُعد النقل إلى الصعيد عقابًا هائلًا، أما الخروج منه فهو النصر المبين.
تقول أستاذة التاريخ في جامعة أوبرلين الأمريكية زينب أبو المجد في كتابها “إمبراطوريات متخيَّلة: تاريخ الثورة في صعيد مصر” إن تلك الصورة الراسخة في أذهاننا عن الصعيد قد تمخضت عن تركيز نصوص السردية التاريخية الوطنية التي كُتبت عبر اقترابات نظرية قومية ونخبوية على مجتمع القاهرة والوجه البحري، وإقصائها الصعيد، ولم تكتف تلك النصوص بذلك إذ جعلت الصعيد هو الهامش ومكان الطبقات الدنيا في المجتمع ليس لذكره أي أهمية في الرواية الأكبر للدولة القومية في مصر.
دولة شيخ العرب همام المستقلة في صعيد مصر
لقرون طويلة كان الصعيد يعيش بشكل شبه مستقل عن الدولة، حيث كانت تنحصر العلاقة بين الطرفين في دفع الضرائب المستحقة وتوفير الغلال، أما بالنسبة لشؤونه الداخلية فكانت تخضع بالأساس لتحالفات قبلية داخلية سيطرت عليها قبيلة هوارة العربية التي هاجرت من المغرب إلى مصر في عهد الدولة الفاطمية.
تمتعت قبيلة هوارة بثراء كبير بسبب التجارة، هذا بالإضافة إلى الثروات الزراعية الممتدة عبر أراضي مصر العليا التي مكنتها من اعتلاء عرش الصعيد وهو ما تجسد في تأسيس دولة شيخ العرب همام التي استمرت قرابة الأربعين عامًا خلال القرن الثامن عشر الميلادي؛ ففي كتابه “صعيد مصر قبل الحملة الفرنسية” يقول الباحث المصري نبيل الطوخي: “قديمًا كانت مدينة قنا تحتل مركزًا تجاريًا كبيرًا، إذ كانت أكبر مصدر للحاصلات الزراعية من القطن والسكر والقمح والغلال، ومع دخول العثمانيين صيغت العلاقة بين الهوارة والدولة العثمانية على أساس الاستقلال الذاتي مقابل دفع الضرائب والخراج للبيت العالي”.
تسلط أستاذة التاريخ ليلى عبد اللطيف في كتابها “الصعيد في عهد شيخ العرب همام” الضوء على حال الصعيد في عهد دولة شيخ العرب همام وتحديدًا على العقد الاجتماعي الذي أبرم بين قبيلة هوارة ومجتمع الصعيد الذي انطوت بنوده على حماية مصالح أهل الصعيد وإدماج الأقباط في إدارة شؤون الصعيد مثل أمور المحاسبة وتنظيم الدفاتر، أما البند الثالث فكان ضمان ولاء قبائل الصحراء حفاظًا على الاستقرار السياسي، وبالفعل تمكن همام من إرساء أركان دولته المستقرة على العدل والرخاء وهو ما ذكره المؤرخ القاهري عبد الرحمن الجبرتي في كتابه “عجائب الآثار”، واصفًا الصعيد وقتها بأنه كان ملجأ الأمراء والفقراء الذي جمع صفات الكمال أكثر من غيره.
في منتصف القرن الثامن عشر تحالف شيخ العرب همام مع الأمير المملوك علي بك الكبير في سبيل الاستقلال بحكم مصر عن الدولة العثمانية، لكن جيش همام هُزم ومات مكلومًا مقهورًا عام 1769 وكانت تلك آخر مرة حُكم فيها الصعيد بأبنائه شبه مستقل عن القاهرة، إذ حكمه المماليك ثم العثمانيون مباشرة بعدما هزموا علي بك الكبير وبعد ذلك جاءت الحملة الفرنسية.
انتفاضات الصعيد المتعددة في عهد حكم محمد علي باشا
بعد سنوات طويلة من سقوط دولة شيخ العرب همام وصل محمد علي باشا إلى سدة الحكم في مصر وفي عهده لم تشهد مصر انتفاضات كتلك التي شهدها الصعيد، حيث حصلت سلسلة تمردات غير مبسوقة بدأت عام 1820 ووصلت ذروتها خلال عام 1824 حين قامت أكبر الثورات على محمد علي لأنه ومنذ توليه حكم البلاد سعى إلى ضم الصعيد في دولة مركزية موحدة، لكن الباشا لم يكلف نفسه عناء إدماج الصعيد في الدولة بعد سنوات من الاستقلال بشكل يضمن استقرار البلاد، وعوضًا عن ذلك سيطر على موارد الصعيد الاقتصادية وذلك لتمهيد طريقه نحو ضم المزيد من المستعمرات في السودان واليمن والحجاز.
بدأت عملية إخضاع الصعيد وتهميشه حين عين محمد علي ابنه إبراهيم باشا على ولاية الصعيد، وهناك بدأ إبراهيم سريعًا في تنفيذ أوامر والده وهي السيطرة على ثروات الصعيد كافة بكل الوسائل الممكنة وإرسالها إلى القاهرة، وفي هذا المجال تحكي لنا زينب أبو المجد بين صفحات كتابها عن آلاف الشكاوى التي كانت تعج بها السجلات الرسمية المحفوظة في دار الوثائق القومية وتنم عن علاقة شديدة الاضطراب بين الصعيد والحكومة المصرية في القاهرة.
تحكي لنا أبو المجد أيضًا عن احتكار محمد علي لتجارة الغلال في الصعيد، حيث أصدر مرسومًا عام 1812 يحظر على التجار المحليين المشاركة في التجارة، وقتذاك اقتحم موظفو الدولة بيوت الفلاحين من أجل الاستيلاء على كل الحبوب حتى تلك التي كانت مخزنة من أجل القوت لا من أجل التجارة، وكان التهميش أحد الأدوات التي استخدمتها الحكومة المركزية من أجل إخضاع الصعيد، وقد بدأ هذا التهميش بشكل قانوني عام 1866 حين أسس الخديوي إسماعيل مجلس شورى النواب وهيمن عليه وقتها كبار ملاك الأراضي الزراعية في الدلتا، أما الصعيد فلم تنشأ فيه أساسًا طبقة من الملاك بسبب مصادرات الأراضي الزراعية والإقطاعات المستمرة.
جمال عبد الناصر والسادات ومبارك: تهميش الصعيد ما زال مستمرًا
أخيرًا اندلعت ثورة 1952 من أجل إرساء دولة ديمقراطية ارتكزت أركانها على الاشتراكية العربية كسبيل لتحقيق التنمية الاقتصادية وتقليل الفجوات بين طبقات المجتمع، لكن هذه الاشتراكية ظلت غائبة عن الصعيد، فرغم الأصول الصعيدية للرئيس جمال عبد الناصر، اختار سياسة التصنيع السريع بقيادة الدولة في المناطق المتطورة بالفعل مثل القاهرة والإسكندرية ولم يوزع سياسته بشكل متوازن بين كل الأقاليم.
والحقيقة أن هذا التحيز ضد الصعيد لم ينقطع في عهد السادات، ففي عهده بلغت نسبة الاستثمارات العامة المخصصة للصعيد 9% فقط من إجمالي استثمارات الدولة وهو الأمر الذي تجلى بشكل واضح في التفاوت الكبير بين متوسط دخل الفرد في الصعيد ومتوسط الدخل في الدلتا، ففي الوقت الذي وصل فيه متوسط الدخل في القاهرة عام 1976 إلى 230 جنيهًا كان المتوسط في محافظة سوهاج بصعيد مصر 135 جنيهًا، وبينما وصلت نسبة العائلات المحرومة من الماء النقي في محافظة القاهرة إلى 11.3% فقط، كانت النسبة في بني سويف 88.4%، وفي عهد مبارك استمرت سياسة التمييز ضد الصعيد فخلال عام 1981 كان نصيب المواطن في سوهاج من الاستثمارات العامة نحو 6.6% من نصيب المواطن في القاهرة.
الصعيد يواجه تهميشه
على مدى قرونه الخمس تعرض الصعيد من الحكومات المركزية المتعاقبة للكثير مثل تدمير الهوية ونهب الثورات والتهميش والإقصاء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، لكن أمام كل ذلك هل وقف الصعيد صامتًا؟ الحقيقة أنه لم يصمت لكنه تبنى أشكالًا مختلفة من المقاومة مثل التسحب أو الهروب من التجنيد الإجباري والضرائب، إذ عمد الكثير من رجال الصعيد إلى ترك قراهم والهروب إلى القرى المجاورة.
وبجانب التسحب لجأ أهل القرى إلى الثورات، لكنها كانت تُخمد بسبب قوة الحكومة المركزية وعليه لجأ الصعيد إلى حيلة أخرى لمقاومة السلطة وهي بروز ظاهرة الفلاتية أو مطاريد الجبل الذين شكلوا طوال تاريخهم إزعاجًا مستمرًا للسلطة خاصة أن الحكومة غير قاردة على مطاردة هؤلاء في الجبال الوعرة التي لا تعرف تضاريسها جيدًا.
في النهاية لم تتغير الأوضاع كثيرًا في عهد دولة السيسي، فالتهميش ما زال مستمرًا، لكن ما زاد من فجاجة الأمر هو استعمال القوة المفرطة والسلاح ضد من أهملتهم وهمشتهم وتجاهلت جميع مطالبهم الاقتصادية، فكما قال شهود عيان من قرية العوامية التي شهدت قتل عويس الرواي إن الناس يعانون من ظروف اقتصاية ومعيشية صعبة خاصة في ظل غياب السياحة، وكما يقول المؤلف الراحل سامر سليمان في كتابه “النظام القوي والدولة الضعيفة” فإن التحولات في النظم الاستبدادية لا تكون لصالح الديمقراطية أو لمزيد من الحريات، لكنها تحتفظ ببعض الثوابت وعلى رأسها الطبيعة الاستبدادية.