التغييرات في العملة الاحتياطية العالمية المهيمنة هي تكرار تاريخي، فقد كان الجنيه الإسترليني أكثر أهمية في الماضي ثم تولى الدولار السيطرة وزادت سطوته بعد ربطه بالبترول والسلع الأساسية الأخرى، وبحسب رشيد حسينالي الرئيس التنفيذي لشركة Lacero”، وهي شركة متخصصة في إنشاء البنية التحتية اللازمة لربط الأصول الرقمية بالأعمال العادية، فإن الاختلاف اليوم هو أن الأمر لا يقتصر على هيمنة الدولار فحسب، بل بهيمنة الولايات المتحدة على البنية التحتية والتكنولوجيا في أنظمة الدفع الرقمية.
لكن مع التطورات التكنولوجية الحاليّة وبروز العملات الرقمية مثل البيتكوين والأثريوم، هل تنافس هذه العملات الدولار الأمريكي على مركزه؟
هل تصبح البيتكوين بديلًا عالميًا للدولار؟
أولًا، لكي يعمل شيء ما كعملة، يجب أن يكون وسيلة تبادل فعالة، أي يجب أن يكون الأفراد والشركات والمنظمات الأخرى قادرين على مقايضتها بالسلع والخدمات، وقد أثبت الدولار الأمريكي نفسه بالتأكيد في هذا الصدد، لأنه أحد أكثر العملات الورقية تداولًا على نطاق واسع في العالم.
وعلى الصعيد الآخر، إحدى المشكلات الرئيسية التي تقوض استخدام البيتكوين كوسيلة للتبادل هي التقلب الشديد في أسعارها، ولا يوجد مثال أوضح على ذلك مما حدث عام 2017، عندما ارتفع سعر العملة الرقمية بنسبة 2000% تقريبًا، حيث ارتفعت قيمتها من أقل من 975 دولارًا أمريكيًا إلى ما يقرب 20.000 دولار أمريكي ومن ثم انخفضت لتشهد مستوى 3.000 دولار بعد عام واحد تقريبًا.
قد يكون هذا الارتفاع الحاد حقق أرباحًا غير عادية للمستثمرين، لكن حقيقة أن بيتكوين تواجه مثل هذه التقلبات الشديدة في الأسعار يقلل من فرصة استخدامها كوسيلة للتبادل، وهو أحد العناصر الحاسمة اللازمة لها لتعمل بشكل فعال كعملة. في المقابل، يفقد الدولار الأمريكي مقدارًا صغيرًا من قوته الشرائية كل عام بسبب التضخم، ومع ذلك، فإن هذا يحدث ببطء شديد بحيث لا يلاحظ المشاركون في السوق هذا الفرق.
ثانيًا، من المتطلبات الرئيسية الأخرى للعملة أنها يجب أن تعمل كمَخْزَن للقيمة، ولكي تلبي بيتكوين هذا المطلب ستحتاج إلى الاحتفاظ بقيمة على المدى الطويل، وبهذه الصفة بالذات يرى بعض مراقبي السوق أنها فعالة، إلا أن ذلك ليس بالإجماع، رغم أنها قد تكون مخزنًا كبيرًا للقيمة في الدول التي تعاني من اضطرابات جيوسياسية كبيرة، حيث يمكن لهذه المناطق أن تشهد تغيرات كبيرة في القيمة.
ومع ذلك، يشكك الكثيرون في قدرة بيتكوين على العمل كمخزن للقيمة، حيث إن القواعد الأساسية للعملة الرقمية يمكن أن تتغير بشكل كبير نتيجة للتغيير الدائم في الكود المعروف باسم “الهارد فورك”، وهو تغيير جذري في بروتوكول البلوكشين (Blockchain) الخاص بالعملة من أجل تحديث برمجي لها وتطوريها أو إصلاحها، وهذا يعني أن العملة التي لا يتم تحديث البلوكشين الخاصة بها إلى النسخة الجديدة أو الإصدار الجديد لن تكون قادرة على معالجة المعاملات أو دفع كتل جديدة في شبكة البلوكشين.
التحديات التي تشكلها العملة الرقمية للبنوك المركزية متعددة وكذلك الآثار المترتبة على النظام المالي والخدمات المصرفية التجارية والنظام والأفراد والمجتمع بشكل عام
الشرط الثالث الذي تحتاجه بيتكوين لكي تعمل كعملة – لتحل محل الدولار الأمريكي كعملة احتياطية في العالم – هو العمل كوحدة حساب، وهي مسألة تتضارب فيها الآراء، فقد كتب الدكتور جو ديفيس الخبير الاقتصادي في فانجارد، وهي شركة أمريكية للاستشارات في الاستثمارات، في هذا الخصوص مقالة افتتاحية على موقع vanguard.nl مفادها أن العملات الرقمية تعمل بالفعل كمخازن ذات قيمة ووحدة حساب حيث يتم استخدامها في العديد من المتاجر والشركات الافتراضية أو الحقيقية لشراء سلع وخدمات.
قدم آخرون تقييمًا مختلفًا، مثل ديفيد ل. ييبرماك الأستاذ في كلية ستيرن للأعمال بجامعة نيويورك، الذي أكد أن عملة البيتكوين متقلبة للغاية بحيث لا يمكن أن تكون وحدة حساب فعالة، ففي عام 2013 كان سعر صرف العملة الرقمية بالنسبة إلى الدولار الأمريكي 10 أضعاف سعر صرف الدولار مقابل العملات الورقية الأخرى مثل اليورو والين.
إذن، ما البديل؟
رغم كل ما سبق لا يختلف اثنان على أن المستقبل متجه نحو عالم غير نقدي ورقمي في معظم مجالات الحياة، وهنا نشهد أن الكثير من البنوك المركزية في العالم شرعت بالفعل لتطوير عملات إلكترونية خاصة بها، اسمها “Central bank digital currency” وتُعرف اختصارًا بـ(CBDC).
قد يكون لـ”CBDC” مزايا وعيوب لا يمكن تجاهلها، حيث تتمثل المزايا بسرعة وسهولة المعاملات النقدية (بين الأفراد وكذلك من حكومات إلى أفراد)، وكذلك في نطاق تحسين السياسات وتعزيزها – سواء من خلال القدرة على خفض أسعار الفائدة لتحفيز النمو أم من خلال تحديد ووقف التحويلات المالية غير القانونية، ومن وجهة نظر المستثمر، يمكن لبعض المخاطر من سوء إدارة الشركات أن يتم تقليلها من خلال الشفافية والتتبع الأفضل للمعاملات المالية.
لكن التحديات التي تشكلها العملة الرقمية للبنوك المركزية متعددة وكذلك الآثار المترتبة على النظام المالي والخدمات المصرفية التجارية والنظام والأفراد والمجتمع بشكل عام، وأبرزها الخصوصية وقابلية التوسع والتنظيم، وهي قضايا بحاجة إلى معالجة وإعادة نظر، وذلك عدا عن التغييرات التي ستطرأ على الدور التقليدي للبنوك (مثل عمليات سحب وإيداع الأموال التقليدية)، فقد يأتي يوم تختفي فيه ماكينات الصراف الآلي ونكتفي باستخدام هواتفنا المحمولة لإنجاز المعاملات المالية.
لماذا تُفضل الحكومات الـ”CBDC”؟
من وجهة نظر الحكومة، تتمثل إحدى ميزات “CBDC” في أنها قد تجعل المعاملات المالية أكثر سهولة بالاستغناء عن الوسيط (على سبيل المثال البنوك التجارية)، ما يعني تكاليف أقل ووقت أسرع، وما يؤدي تلقائيًا إلى تعزيز حركة رأس المال، ومن خلال إنفاذ الشفافية وإمكانية التتبع ستساعد العملات الرقمية في تحسين حوكمة الشركات بشكل عام.
إذ يمكن للحكومات اكتشاف أنماط المستخدمين وتحديد سلوكياتهم، ما يجعل مهمتها أسهل في قمع غسيل الأموال أو التهرب الضريبي، لكن في المقابل، يتيح الاعتماد على العملات الرقمية للأفراد والجماعات القيام بتحويلات الأموال مجهولة المصدر – كما هو الحال الآن مع العملات الرقمية الموجودة حاليًّا مثل بيتكوين -، ومن المفارقات المثيرة للسخرية أن المعاملات النقدية (بالكاش التقليدي) تسبب نفس المعضلة للحكومات، حيث إنه وفي أحسن الأحوال لا يمكن تعقب عمليات الشراء أو البيع النقدية مما يسمح بالتهرب الضريبي، وفي أسوأ الحالات لا يمكن تعقب حركة الأموال الموجهة لتمويل الجماعات الإرهابية.
لا شك أن أزمة فيروس كورونا أكدت الحاجة إلى الأمن والسرعة، فمع موجود العملات الرقمية المركزية يمكن للحكومات أو الأطراف الأخرى إدارة تحويلات المساعدات الاجتماعية مع احتمال أقل في التعرض للاحتيال، هناك أيضًا مفاضلة واضحة بين الخصوصية والراحة في هذا الخصوص، فقد أظهرت الأدلة التجريبية أن الفئات العمرية الشابة أكثر استعدادًا للتضحية بالخصوصية وأكثر انفتاحًا على التكنولوجيا الجديدة والفرص التي قد تجلبها.
“بالنسبة للأفراد، يجب أن تفي CBDC بوظائف النقود الأساسية، لكن ستكون هناك مقايضة بين الخصوصية والسهولة والراحة”
الأمور ليست بهذه السهولة
ربما ليس من المستغرب أن يكون السعي وراء تقويض سطوة عملة العم سام مدفوعًا بشكل كبير من الصين التي تمتلك نصف احتياطيات النقد الأجنبي في العالم، وتتمتع كذلك بأحدث البنى التحتية لنظام المدفوعات الرقمي في العالم، وذلك بلا شك يمنح الصين فرصة هائلة لزيادة أهمية اليوان الإلكتروني الذي قطعت أشواطًا طويلًا على تطويره، وفي نفس الوقت تم التمهيد لبدء مشروع الدولار الرقمي للحفاظ على دور الدولار كعملة الاحتياط العالمي.
لكن كل ما سبق، ليس من السهل تمريره أو تنفيذه، فالأمور أكثر تعقيدًا وتداخلًا، حيث يتطلب هذا التغيير الجذري مناكفات ونقاشات طويلة بين المؤسسات المالية وحتى الأحزاب السياسية الحاكمة في بعض الدول، وذلك عدا عن القبول الشعبي، فبحسب دراسة أجراها بنك دويتشه فإن دول أوروبا الغربية مثل ألمانيا لا تزال معدلات المدفوعات النقدية التقليدية فيها مرتفعة ولا تزال تستخدم على نطاق واسع، لذلك يمكن أن يؤدي فرض عملة الـCBDC، في أسوأ السيناريوهات، إلى المقاومة السياسية، وربما تشجع الاضطرابات الاجتماعية، ما يعني أن الطريق أمام العملات الرقمية ما زال طويلًا.