حمى الإسلام والمسلمين لا تكاد تهدأ في فرنسا. مسلسل متواصل لا ينتهي، حلقاته تتناسل وتشغل الساسة والإعلاميين والمثقفين على حد سواء..
يصمتون حينا ثم لا يلبثون أن ينفجروا مجددا، ليوجهوا إصبع الاتهام مرة لحجاب تلميذات المعاهد، وأخرى للأمهات المسلمات المرافقات لصغارهن في المدارس، أو لفتاة تجرأت على تقديم وصلة عن الطبخ بشعر مغطى، أو ممثلة للطلبة دعيت لتناقش مشاكل من تمثلهم في الجامعة، لتدنيسها حرمة البرلمان بحجابها..
من الحجاب، ينتقل الخطاب إلى الإرهاب والأصولية والصراع الوجودي ضدهما.. ومنه إلى “أزمة الإسلام” نفسه، كما تحدث ماكرون.. حمى الإسلام هذه لم تولد اليوم مع ماكرون، فقد سبق لسلفه جاك شيراك أن شكّل “لجنة ستازي”، التي خلصت إلى ضرورة حظر الرموز الدينية في الفضاء العام، في قرار ظاهره “حماية اللائكية”، وباطنه استهداف حجاب المسلمات بالذات..
فرنسا أكثر من يتقن لعبة الإخفاء والتورية، وفن تغليف أكثر القرارات عنصرية وتعصبا بغلاف التسامح واللائكية، وأكثر السياسات إقصائية بالاندماج وقيم المواطنة والجمهورية. تعايشت الولايات المتحدة الأمريكية وأغلب البلدان الأوروبية مع حجاب المرأة المسلمة، واعتبرت ارتداءه خيارا فرديا حرا، أو في الحد الأدنى عرفًا اجتماعيا وثقافيا يتوجب احترامه وتفهّمه.
أما في فرنسا اللائكية، فالأمر مختلف تماما.. مجرد تغطية فتاة مسلمة خصلات شعرها يغدو تهديدا وجوديا لقيم الجمهورية وموضوعَ جدل عام محموم يخوض فيه الجميع ولا يكاد يتوقف. الحقيقة هي أن فرنسا تعيش أزمة هوية عميقة، ناتجة عن الوجود الإسلامي بين ظهرانيها، عاجزة عن تحمّل واقع التعددية الدينية، وأن الاسلام بات مكونا ثابتا من نسيجها المجتمعي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
تزعم فرنسا اللائكية أنها تأسست على قيم المساواة المطلقة ونفي أي لون من ألوان التمييز على أساس الدين أو العرق أو الطبقة الاجتماعية.
لا تطيق فرنسا حقيقة أن مستعمراتها السابقة، التي كانت تتحكم فيها بقوة الاحتلال والجيوش، قد انتقلت إليها فباتت جزءًا منها.. الجزائر والمغرب وتونس ومالي وتشاد والنيجر لم تعد مجرد مستعمرات نائية هناك في ما وراء البحار، بعيدةً عن “المتروبول” الاستعماري، بل صارت على تخوم باريس ومرسيليا وليون وغرنوبل وغيرها من المدن الفرنسية.
وما زاد الطين بلّة هو أن الأجيال الجديدة من المسلمين، جيل ثان وثالث، ولدت وترعرت في مدن فرنسا وأزقتها، وتعلمت في مدارسها، وما عادت كآبائها قانعة بوضعها كيد عاملة مهاجرة تعيش على الكفاف هناك على الهامش. الأبناء والأحفاد يعدّون أنفسهم فرنسيين مسلمين، معظمهم يصوم رمضان ويؤدي الشعائر ويحتفل بأعياد المسلمين..
وهنا تكمن الكارثة!
مظاهر بسيطة هي في نظر فرنسا فشلٌ ذريع في إدماج المسلمين وخروجٌ عن قيم الجمهورية، كان يفترض أن يمحوها النظام اللائكي من الحياة الخاصة والعامة. هذا ما يفسر حجم الاستهداف الهائل للهيئات والمؤسسات الإسلامية بما لا نظير له في أي من البلدان الأوروربية أو الولايات المتحدة الامريكية.
تزعم فرنسا اللائكية أنها تأسست على قيم المساواة المطلقة ونفي أي لون من ألوان التمييز على أساس الدين أو العرق أو الطبقة الاجتماعية. لكن الأجيال الجديدة من المسلمين عرت زيف ذلك، جيل ثالث وحتى رابع مازال يعاني الاستبعاد من الانتداب لمجرد حمله اسمًا عربيا، محمد أو علي، فاطمة أو زينب..
تضيق فرنسا ذرعا بمسلميها، كامرأة حبلى، تحمل في أحشائها جنينا غير شرعيّ تمقته وتتوق لإجهاضه والتخلص من عبئه..
ما يزيد فرنسا توتّرا اليوم هو ذهاب ريحها وتراجع نفوذها في مستعمراتها السابقة، بفعل سياساتها التدخلية المشطة. إمعانها في إهانة شعوب مستعمراتها السابقة المسلمة أثار عليها أمواجا من السخط والنقمة، نرى بعضا منها اليوم في مالي، بالتوازي مع صعود تركيا الإسلامية، التي باتت منافسا مقلقا في مواقع كثيرة كانت تعدها حقا طبيعيا لها.
لقد بات خطاب اليمين الفرنسي المليء بالكراهية إزاء الإسلام والتعصب تجاه المسلمين هو السائد بين الطبقة السياسية الفرنسية. لا يكاد يجد المتابع لخطاب ماكرون الأخير فرقا يُذكر مع مقولات مارين لوبان زعيمة الجبهة الشعبية اليمينية. خطابٌ فيه استدعاء خفيّ ومعلن للإرث الاستعماري القائم على نزعة استعلائية ثقافية، أقرب إلى العنصرية الثقافية، إزاء الاسلام والمسلمين.
وضع ماكرون نفسه موضع طبيب جراح يعاين ويشخص حال إسلامٍ مريض ومأزوم، هو القادر دون غيره على تحديد علاجه وتقديم الدواء الشافي والكافي لمرضه العضال. وهو نفس المنهج الذي استند إليه سلفه نابليون بونبارت عند حملته على مصر سنة 1798، حين خاطب المصريين باسم “الشيخ بونبرته” وبشرهم بأنه جاء لتحريرهم من تخلف وهيمنة المماليك، الذين خانوا الإسلام الصحيح.
نحن إزاء عدسة فرنسية مشوهة تعكس أزمتها على الإسلام فلا ترى فيه غير العلل. والحقيقة أن الإسلام يعيش على مدار القرنين الأخيرين حالة حركيّة وديناميكية متنامية. فبفضل الحركة الإصلاحية منذ نهايات القرن التاسع عشر، ظهر إسلام حي ويقظ، متفاعل مع تحديات محيطه ومتطلبات الأزمنة الحديثة، إسلام يقوم على نبذ التقليد والدعوة للاجتهاد واستيعاب قيم العصر.
مشكلة فرنسا أنها ما عادت تواجه إسلاما طرقيا تقليديا، بل تلتفت لترى إسلاما إصلاحيًا حداثيا، لم يعد بإمكانها محاربته وتطويعه وإخضاعه باسم قيم الحداثة والمهمة التنويرية. وبدل بذل جهد لإصلاح عدستها المشوهة تسارع لتوجه إليه إصبعها وتتهمه بالمرض والتخلف والجمود والتأزم!
ما لا يقوى ماكرون على رؤيته، أو ربما الاعتراف به، هو أن فرنسا مأزومة ولائكيتَها مريضة في أمس الحاجة للعلاج
ماضي فرنسا البعيد الصليبي والقريب الاستعماري مازال يسكن وعيها ووجدانها، تكبحه وتتناساه حينا بمقولات الجمهورية والتسامح والعقلانية، لكنّه ينفلت من عقاله أمام الآخر المسلم الذي بات جزءًا منه. شبح “السرساني” العربيّ على حدود بواتيه والتركي العثماني على تخوم فيينا يستيقظ كلما طالعه حجاب فتاة أو صومعة مسجد.. تعصب فرنسا الصليبية حلّ محله اليوم تعصب فرنسا اللائكية والجمهورية، والموضوع واحد: الإسلام والمسلمون.
يتساءل البعض: لم كل هذا الضجيج حول غطاء رأس امرأة، لم كل هذا الهوس بالإسلام؟ لم لا نرى له نظيرا في بريطانيا أو أمريكا أو السويد؟
الإجابة تكمن في طبيعة اللائكية الفرنسية، لائكية تدخلية شرسة معادية للأديان، تعطي لنفسها الحق في فرض رؤيتها على أنماط حياة الأفراد والمجموعات. وإن اضطرت بعامل الوقت للتخفيف من غلوائها إزاء الكنيسة، والقبول بالكاثوليكية، ثقافةِ المجتمع، إلا أنها تعجز عن التعايش مع الإسلام والمسلمين.
ما لا يقوى ماكرون على رؤيته، أو ربما الاعتراف به، هو أن فرنسا مأزومة ولائكيتَها مريضة في أمس الحاجة للعلاج. أين يكمن دواؤها؟ في خصلتين تفتقر إليهما تماما: التواضع والتسامح. ما يجدر بماكرون إدراكه هو أن فرنسا لا تملك الحقيقة المطلقة وأنها ما عادت سيدة البرار والبحار.