تضم القارة الإفريقية العديد من الشعوب والمجتمعات والقبائل الصغيرة التي تحتفظ كل واحدة منها بخصائصها، من ذلك شعب بامبوتي الذي يملك أقصر قامة في العالم، ويستوطن غابات بدول إفريقيا الغربية والوسطى القريبة من المحيط الأطلسي.
في هذا التقرير الجديد لنون بوست، ضمن ملف “حكايا الشعوب”، سنتحدث عن خصائص هذا الشعب خاصة نمط حياته البدائي حيث لم تصله الحداثة بعد، واختزال حياته حول الغابة “الأم” فضلًا عن الطقوس الكثيرة التي اشتهر بها.
سكان الغابات
في أعماق غابات إيتوري الاستوائية المطيرة في وسط إفريقيا على نهر إيتوري في الجانب الغربي من بحيرة ألبرت بجمهورية الكونغو الديمقراطية، يعيش شعب بامبوتي، إلى جانب الحيوانات البرية بعيدًا عن مظاهر التمدن والحضارة.
أطلق شعب بامبوتي على هذه الغابة المطيرة التي تمتص كميات هائلة من الكربون في الغلاف الجوي اسم “موطن الأجيال”، ففيها تُختزل حياتهم وتتشابك مع العالم الطبيعي، حيث ساعدتهم معرفتهم المحلية وساعدتهم الغابة على البقاء على قيد الحياة.
يُطلق بامبوتي على أنفسهم أيضًا اسم شعب مبوتي، وتوجد ضمنهم ثلاث مجموعات ثقافية متميزة، هي مجموعة “الإيفي” – الذين يتحدثون لغة شعب الحدود السودانية – ومجموعة “السوا” – الذين يتحدثون لغة شعب البانتو المجاور، ومجموعة “الأسوا” – الناطقون بلغة المانجبيتو -.
يتميز أفراد بامبوتي بصغر الحجم واكتناز الجسم والأذرع الطويلة والسيقان القصيرة
يعيش هؤلاء في قرى مستقلة عن بعضها البعض، حيث يضم كل كوخ وحدة عائلية (الأكواخ صغيرة ودائرية ومصممة دائمًا كمستوطنات مؤقتة)، وفي بداية موسم الجفاف، يُغادر المبوتي قراهم ويستقرون في المخيمات التي بنوها في الغابة، وتكون منازلهم عادة، عبارة عن أكواخ مصنوعة من العصي على شكل خلية نحل مغطاة بأوراق الفرينيوم.
يبلغ عدد سكان بامبوتي نحو 40 ألف شخص، ويتشكل هذا الشعب من مجموعات صغيرة الحجم نسبيًا وتتراوح بين 15 إلى 60 فردًا، لذلك ليس للبامبوتي مجموعة أو سلالة حاكمة ولا تنظيم سياسي شامل، فهو مجتمع قائم على المساواة والمسؤوليات مقسمة حسب العمر والجنس.
يمكن عرض القيادة على سبيل المثال في رحلات الصيد، حيث يتسيد القيادة أكثرهم قدرة على الصيد، فيأكل القادة المزيد من اللحوم والدهون وكمية أقل من الكربوهيدرات مقارنة بالرجال الآخرين.
من أقصر شعوب العالم
فضلًا عن كونه، أحد أقدم الشعوب في وسط إفريقيا، يعتبر المبوتي من أقصر المجموعات في العالم طولًا، حيث يبلغ متوسط طولهم أقل من 4 أقدام و6 بوصات (137 سنتيمترًا)، وعلى عكس باقي الأقزام فإن قصر قامة المبوتي أمر طبيعي فهم لا يعانون من أي أمراض تمنع النمو.
يتميز أفراد بامبوتي بصغر الحجم واكتناز الجسم والأذرع الطويلة والسيقان القصيرة، كما تميل بشرتهم إلى اللون الأسود غير الداكن المائل للصفرة القريب من البشرة الآسيوية، أما الشعر فمفلفل صوفي، والشفتان غليظتان بارزتان لكنهما غير مقلوبتين، في حين أن الفم واسع بارز إلى الأمام، كما أن عظام الوجنتين بارزة وتتخذ الجبهة عندهم شكلًا قريبًا من المثلث المتساوي الساقين.
“الغابة” تختزل حياة بامبوتي
يختزل شعب بامبوتي حياتهم في الغابة الاستوائية، فهي توفر لهم احتياجاتهم الأساسية، الغذاء (حيوانات وثمار وعسل) والدواء والمياه العذبة من الجداول والينابيع التي لا تعد ولا تحصى، والحطب والملابس والمأوى.
لذلك يعملون على الحفاظ على الغابات، من خلال عدم قطع الأشجار، فهم يتسلقون الأشجار بحثًا عن العسل، بدلاً من قطعها، لأنهم يعرفون أنهم إذا قطعوها، فلن يكون لديهم العسل بعد الآن ولن يكون لهم مأوى يلجأون إليه.
لضمان مبدأ “الاستدامة”، يسعى شعب بامبوتي للحفاظ على أراضيهم، فهم واعون تمامًا بالحفاظ على الموارد متاحة للأجيال القادمة، لذلك يعرفون متى وأين يصطادون، كما أنهم يعرفون متى يتوقفون عن الصيد لحماية الحياة المائية.
إذا قل الطعام وعجز البامبوتي عن إيجاد نباتات صالحة للأكل أو عسل حول المخيم، يقرر الأهالي الهجرة ويغادرون معسكرهم إلى مكان آخر
يعتبر شعب بامبوتي، الغابة “الحامي” لذلك يعتقدون أنها مكان مقدس، حيث يتم إجراء الطقوس في هذه المناطق المحظورة في فترات محددة وبعد ذلك يتم تطويق الأماكن للحفاظ على الأشجار، هنا نفهم العلاقة الروحية بينهم وبين الأرض.
لكن حياة البامبوتي وغاباتهم مهددة، فحتى الآن لم تمنحهم حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية سندات ملكية الأراضي القانونية، كما أن أعمال إزالة الغابات وتحويلها إلى مزارع تحت تصرف الشركات متعددة الجنسيات من شأنها أن تدمر التوازن الدقيق للغابة وحق الأجيال المقبلة في العيش فيها، دون أن ننسى استغلال مناجم الذهب.
الهجرة بحثًا عن الأكل أو هربًا من “الشؤم”
بسبب اختزال حياتهم في الغابة، يمتهن هؤلاء الصيد وجمع الثمار، فيصطاد شعب بامبوتي فريسته باستخدام الأقواس ذات السهام المسمومة بالسم النباتي والرماح ذات الرؤوس المعدنية أو بواسطة الشباك، لكن ما يميزهم أنهم لا يقتلون أي حيوان لا حاجة لهم به، فهم لا يخزنون اللحوم لاستخدامها في المستقبل، لذلك دائمًا ما يشاركون الغنائم بشكل عادل.
عادة ما يتم الصيد في مجموعات، حيث يشارك جميع الرجال والنساء والأطفال في هذه العملية، لكن إذا كان الصيد عن طريق استخدام القوس والسهم لا يتم إشراك النساء والأطفال، فهم يشاركون فقط عند استخدام الشباك للصيد.
إلى جانب الصيد، يستخرج الرجال العسل من الأشجار الطويلة، فيما تجمع النساء الهدايا ليتم أكل بعضها، ويتبادلون الباقي مع المزارعين المحيطين بالغابة، فيحصلون على الفواكه والثمار، كما يحصل الأقزام عن طريق التبادل على الأقمشة التي يحتاجون إليها والفخار والحديد والتبغ.
وإذا قل الطعام وعجز البامبوتي عن إيجاد نباتات صالحة للأكل أو عسل حول المخيم، يقرر الأهالي الهجرة ويغادرون معسكرهم إلى مكان آخر، غالبًا ما يكون داخل الغابات الاستوائية المطيرة، فلا سبيل للخروج من الغابة.
هناك أيضًا سبب آخر للهجرة، فعندما يموت شخص ما في أحد تجمعات بامبوتي، يغادرون المكان، نتيجة إيمانهم الكبير بالخرافات، ويعتقد أفراد المجموعة أن زيارة الموت تعني أن الغابة لا تريدهم أن يستمروا في العيش في هذا المكان، فيتم دفن المتوفى في كوخه مباشرة، وتقام الرقصات الجنائزية في الليل، وفي الصباح يتركون مبانيهم البسيطة وينتقلون إلى مكان آخر.
حفل الموليمو
كونهم اتخذوا الغابة موطنًا وحيدًا، جعل حتى أساطيرهم تتمحور حولها، ويُعرف البامبوتي بطقوس مهمة تؤثر على حياتهم يطلق عليها اسم “موليمو“، فهم يعتقدون أنه عندما تحدث أشياء سيئة، فذلك لأن الغابة نائمة ويحتاجون إلى أداء احتفال صاخب لإيقاظها.
يبدأ حفل الموليمو هذا بالتجمع في موقع المخيم وإيقاد النيران والطهي وتناول الطعام، ويقوم رجال القبيلة في اليوم التالي بإحضار الموليمو (آلة كبيرة تشبه البوق منحوتة من الخشب) التي تحاكي أصواتها أصوات الحيوانات، ويأخذونها لزيارة المواقع المهمة، بما في ذلك الأنهار والوديان.
هذه الحياة البدوية مهددة بالانقراض، ذلك أن أقزام بامبوتي الذين يعيشون في الغابة حياتهم مهددة نتيجة الحروب الأهلية الدائرة في المنطقة
عندما يعود أهالي البامبوتي مع الموليمو إلى المخيم، يغني الرجال ويرقصون حول النار فيما تبقى النساء والأطفال في أكواخهم مع إغلاق الأبواب، حتى استعادة الانسجام، والوقت المستغرق لإكمال طقوس الموليمو غير محدد بشكل صارم، فيتم تحديده عادة حسب الحالة المزاجية للمجموعة.
طقوس أخرى
لا تؤمن قبيلة البامبوتي بالغابة والقوة التي توفرها فقط، بل يؤمنون أيضًا بالأرواح، فإلى جانب طقوس الموليمو لديهم أيضًا طقوس أنجو، وهي طقوس يؤدونها لمحاولة التحكم في الطقس وتأخير هطول الأمطار من أجل صيد أفضل.
يعتقد البامبوتي أن ثروة وصلاح الغابة يأتيان من “الإله آغي”، أعظم آلهة الغابات الذي يلبي كل احتياجاتهم، ويعتقد هؤلاء أن الأرواح تمثلها الحيوانات، لذلك يجب التقرب إليها وتقديسها حتى لا تغضب عليهم وتحرمهم حاجياتهم.
إلى جانب ذلك لهم طقوس أخرى، كطقوس شد الحبل التي تساعد في تذكير أعضاء المجموعة بأن التعاون يمكن أن يحل الصراع الذي قد يدور بين الجنسين، حيث تبدأ هذه الطقوس بمسك كل جنس بأحد أطراف الحبل وعندما يبدأون في الجذب، يرسل الفريق الذي يبدأ في الفوز شخصًا آخر لمساعدة الجانب الآخر، يتم ذلك حتى يكون كل الناس في جانب واحد أو حتى ينهار الجميع ضاحكين.
نجد أيضًا احتفالات عيد العسل، وفيها واحدة من أكثر الرقصات جاذبية وسعادة، حيث يحتفل سكان الغابات برقصة العسل بعد أيام من تناول العسل، تشكل النساء حلقة داخلية حول النار، بينما يشكل الرجال حلقة خارجية ودائرة في الاتجاه المعاكس.
يتظاهر الرجال بطلب العسل ويقتربون من النساء، تلعب النساء دور النحل، فتصدر أصواتًا أشبه بطنين النحل ثم يلتقطن أغصانًا مشتعلة من النار ويهددن بها الرجال لتذكيرهم بأخطار لسعات النحل.
هذه الحياة البدوية مهددة بالانقراض، ذلك أن أقزام بامبوتي الذين يعيشون في الغابة حياتهم مهددة نتيجة الحروب الأهلية الدائرة في المنطقة، وإصرار سلطات الكونغو الديمقراطية على ترحيلهم من غاباتهم قصد استغلال مناجم المعادن الثمينة فيها، وحتى من رحل واستقر في القرى والملاجئ المخصصة لهم وجد عنصرية كبيرة تنتظره.