في كوسوفو، يعلو صوت الأذان خمس مرات يوميًا بحسب الفريضة الإسلامية، وتتخذ المساجد زواية خاصة في كل حي تقريبًا، رغم أن أعداد المصلين ليست ساحقة، خاصة في المدن الكبرى، إذ إن سكانها يمارسون الشعائر الدينية بطريقة أخف بكثير مقارنة – على سبيل المثال – بالدول العربية، ما يخلق انطباع لدى الغرباء أو الزائرين بأنهم في دولة أوروبية، ولكن بوجه مختلف.
الإسلام هو دين الأغلبية في كوسوفو، لكن في الوقت الذي تطمح فيه الجمهورية الفتية، حكومة وشعب، إلى الانضمام لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، يأخذ الإسلام المقعد الخلفي في سياسات الدولة، في محاولة لتسهيل طريقهم إلى داخل نادي الدول ذات الجذور المسيحية.
يعود أيضًا تراجع الشهية للشريعة الإسلامية إلى تعطل الانسجام بين الأديان خلال حرب 1998-1999، حيث أصبحت المواقع والمعالم الدينية هدفًا للحرب والانتقام. ومع خروج البلاد من هذا الصراع ولتجنب أي صراعات محتملة، تم إعلان كوسوفو دولة علمانية، بلا دين رسمي وذات موقف محايد تجاه الشؤون الدينية، ولسنوات طويلة ظل عنصر الهوية هذا (الدين) في الظل.
في ملف “الإسلام البلقاني” نتجول بين الدول التي نشأت حديثًا إثر تفكك الاتحاد اليوغسلافي السابق في بداية التسعينيات، وفكرته الرئيسية تتمحور حول تعقيدات العلاقات القائمة بين الإسلام والهوية الوطنية القومية للشعوب المسلمة في البلقان، وخصوصيتها التي تشكلت وشتت شعوبها بين مكونات الإسلام كميراث عثماني والمسيحية كتذكرة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
الشعب الكوسوفي: العرق واللغة
تُعرف كوسوفو بكونها واحدةً من أفقر مناطق البلقان وأقلها نموًا اقتصاديًا، وهي أصغر دولة في البلقان، بنفس حجم جامايكا أو لبنان، ولديها أصغر السكان سنًا في أوروبا، حيث يبلغ متوسط الأعمار في العاصمة بريشتينا 28 سنة، وثمة 53% من سكانها تحت سن 25.
في الماضي، كان يطلق عليها “داردانيا” أي أرض الكمثرى، أما اسمها الحاليّ، كوسوفو، مشتق من الكلمة الصربية “كوس” (Kos) التي تعني “الطائر الأسود”، واوفو (Ovo) تعني منطقة أو ميدان، ما يجعل اسمها بالكامل “ميدان الطيور السوداء” نسبة إلى موقع معركة كوسوفو عام 1389، وفي عهد الدولة العثمانية كانت تُعرف باسم “قوصوه”.
يجمع التنوع العرقي فيها بين الألبان بنسبة 92.9% والبوشناق (مسلمو البوسنة) 1.6% والصرب 1.5% والترك 1.1% إضافة إلى جماعات الغجر مثل الأشكالي 0.9% والمصريين 0.7% والجوراني 0.6% والروما 0.5% وغيرهم من الكروات والجبل الأسود، وذلك بحسب تقديرات الإحصاء الوطني لكوسوفو لعام 2011، وهي آخر الإحصاءات المتوافرة.
يتحدث أهلها الألبانية والصربية وهما اللغتان الرسميتان في كوسوفو، ووفقًا لدستور عام 2008، تتمتع التركية والبوسنية والرومانية أيضًا بوضع رسمي في البلديات، وغالبًا ما تُستخدم اللغة الألبانية في الخطابات الكتابية وفي وسائل الإعلام المرئية والمسموعة.
الدين: أساس السلام أم الحرب؟
تعايشت ثلاث ديانات – الإسلام والأرثوذكسية والكاثوليكية – لفترة طويلة في كوسوفو، فالغالبية العظمى من ألبان كوسوفو يعتبرون أنفسهم، على الأقل اسميًا، مسلمين، أما الكاثوليك والأرثوذكس فغالبيتهم من صرب كوسوفو، حتى وإنهم ليسوا من المؤمنين الدينيين النشطين مثل الألبان، فإن الديانة تمثل مكونًا مهمًا لهويتهم الوطنية، إلى جانب اللغة أيضًا.
ومع ذلك وعلى الرغم من الاختلافات الدينية القائمة على أسس عرقية، فلا يمكن القول إن الدين في حد ذاته ساهم في اندلاع الصراع بين الصرب والألبان، إذ إن السكان أكثر انقسامًا بسبب الهويات القومية والفظائع والمظالم التي مروا بها في زمن الحرب أكثر من التوترات التي نشأت بين الإسلام والكنيسة الأرثوذكسية الصربية.
ففي غضون الحرب، دمرت القوات الصربية العديد من المنشآت الإسلامية، بما في ذلك جميع المكتبات ودور المحفوظات الإسلامية تقريبًا، وبعد انتهاء الحرب، رد الألبان بتدمير عشرات الكنائس الأرثوذكسية، حيث بدت هذه الأعمال التخريبية المتبادلة مدفوعة لدى كلا الجانبين بالرغبة في القضاء على الأدلة على وجود الطرف الآخر في كوسوفو أكثر من كونها مدفوعة بالتعصب الديني.
إذ كانت الطوائف الدينية الصربية والألبانية أكثر استعدادًا للتحدث مع بعضها البعض من الأقليات الأخرى في مجتمع كوسوفو، ففي وقت مبكر من مارس/آذار 1999، قبل التدخل بقيادة الناتو، عقد الممثلون المعينون من قادة الطوائف الدينية الرئيسية الثلاثة في كوسوفو (الإسلامية والأرثوذكسية والكاثوليكية) اجتماعًا مشتركًا في العاصمة بريشتينا عقده المؤتمر العالمي للدين والسلام (WCRP) لتسهيل الحوار.
وأعرب الممثلون عن معارضتهم لإساءة استخدام الدين لأسباب سياسية من جميع الأطراف ودعوا جميع الأطراف إلى عدم استخدام الرموز الدينية للترويج للعنف أو التعصب، كما أعربوا عن تصميمهم على الحفاظ على الاتصالات المباشرة بين الطوائف الدينية وبناء قنوات اتصال.
بعد مرور عقدين تقريبًا على هذه المبادرة، ما زال رئيس جمهورية كوسوفو هاشم ثاتشي يدعو إلى النظر من نفس الزاوية نحو المفاهيم الخاطئة التي تعتبر أن الدين تورط في نزاع كوسوفو، بقوله: “اسمحوا لي أن أتحدث قليلًا عن تجربة كوسوفو مع الدين والسلام وأن أسرد بعض إنجازاتنا. الأول هو أننا لم نسمح بتورط الدين في حرب كوسوفو من أجل التحرير والاستقلال “، مضيفًا “الإنجاز الثاني يتمثل بأن كوسوفو أدرجت رجال الدين والزعماء الدينيين في مساعيها لبناء السلام والتفاهم بين الناس منذ نهاية الحرب”.
أما الثالث، بحسب الرئيس ثاتشي، هو أن الزعماء الدينيين في كوسوفو بنوا جسور التواصل والتعاون بينهم، وهكذا استطاعت كوسوفو بعث رسالة التسامح والتعايش وتصوير الإسلام كأداة سلام وليست حرب، مع الأخذ بالاعتبار محاربة الدين الراديكال.
مسلمي البلقان كانوا قادرين على اعتناق الحداثة دون التخلي عن هويتهم الدينية أو ورؤية أنفسهم مسلمين بالكامل.
يؤكد على حقيقة هذه النقطة، زعيم حزب العدالة (Partia e Drejtësisë) فريد أغاني، بقوله: “يعتبر الكثيرون أن الدين (الإسلام) هو الجاني الرئيسي للمأساة الوطنية التي عانى منها الألبان بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، وهذا خطأ ولا يمكن دعمه كفكرة”، ويرى أن الهوية الدينية لأهل كوسوفو من خلال معتقداتهم الرئيسية الثلاثة، الإسلام والأرثوذكسية والكاثوليكية، هي قيمة يجب الترويج لها كوسيلة للاندماج الدولي.
دولة علمانية داخل نظام ديمقراطي ليبرالي
وفقًا لدراسة أجراها مركز بيو للأبحاث، فإن مسلمي كوسوفو، جنبًا إلى جنب مع جيرانهم البوسنيين والألبانيين من أكثر المسلمين ليبرالية في العالم، فقد أظهرت مثل هذه الدراسات أن مسلمي البلقان كانوا قادرين على اعتناق الحداثة دون التخلي عن هويتهم الدينية أو ورؤية أنفسهم مسلمين بالكامل.
وهذا ما يفسر لماذا لم يتم التنازع على النموذج العلماني في المنطقة، ففي كوسوفو، لم يتم تقديم فكرة الدولة العلمانية عام 1999 عندما دخلت البلاد حقبة سياسية جديدة، وإنما ظهرت الفكرة مع اندماج كوسوفو داخل النظام العلماني ليوغوسلافيا الاشتراكية لأكثر من خمسة عقود.
هذه العملية ولدت نخبة سياسية وفكرية ملحدة، وهمشت كذلك بشكل جذري رجال الدين المسلمين، وهكذا اقتصر الإسلام على المجال الخاص: العبادة والأعياد الدينية السنوية والطقوس التقليدية للأعراس والوفيات، ومع ذلك، فإن هناك اختلافات بين دولة علمانية في ظل نظام اشتراكي ودولة علمانية في ظل نظام ديمقراطي ليبرالي.
كوسوفو في العقدين الماضيين أحرزت تقدمًا ضئيلًا في تطوير الإطار القانوني لاستيعاب الاحتياجات الناشئة للمجتمعات الدينية
إذ يتسم النظام الاشتراكي بالانفصال والعداء الأيديولوجي للدين، بينما يصب تركيز النظام الديمقراطي الليبرالي في الغالب على التعاون بين الدولة والدين، ولإثبات هذه النقطة، قد نأخذ تعريف الدولة العلمانية الذي قدمه الأستاذ الفخري للعلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا الأمريكية، دونالد يوجين سميث، هي “دولة تضمن الحرية الفردية والجماعية للدين، وتعامل الأفراد كمواطنين، بغض النظر عن دينهم، ولا ترتبط دستوريًا بأي دين، ولا تحاول الترويج للدين أو التدخل فيه”.
وبصرف النظر عن الضمانات القانونية التي تقر بفصل الدولة والدين وتكفل الحرية الدينية، إلا أن كوسوفو في العقدين الماضيين أحرزت تقدمًا ضئيلًا في تطوير الإطار القانوني لاستيعاب الاحتياجات الناشئة للمجتمعات الدينية، فهي لا تملك سوى قانون واحد (2006) لتنظيم وضع الطوائف الدينية في كوسوفو وتم تأطيره بعبارات واسعة، ما جعله عرضة للكثير من الانتقادات ومحاولات التعديل.
الأهم من ذلك، أن هذه الخلطة الإيديولوجية قد تكون ميزة لكوسوفو، حيث تعمل المؤسسات في بريشتينا على بناء إطار عمل قانوني يتوافق مع مبادئ الاتحاد الأوروبي التي تركز على تعزيز “الديمقراطية الليبرالية حيث الجميع متساوون أمام القانون” بغض النظر عن العقيدة، وبذلك لن يشكل الدين عائقًا أمامها، إذا افترضنا فعليًا أن شروط الانضمام إلى الكتلة الأوروبية لا تنطوي على بُعد ديني.
عمومًا، وتحديدًا فيما تعلق بموضوع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فإن كوسوفو تواجه عقبات أكبر من الدين، فقد تم الاعتراف ببريشتينا من 115 حكومة، بما في ذلك 23 من أصل 28 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، لكن عضويتها في الأمم المتحدة تم حظرها من حلفاء صربيا وروسيا والصين.
أمة أوروبية
من وجهة نظر رئيس وزراء كوسوفو راموش هاراديناي، فهو يعرف شعب كوسوفو بكونه: “أمة أوروبية أطلسية”، مشددًا أنهم يعيشون “عالمًا آخر” بخلاف إخوانهم المسلمين في الشرق الأوسط القريب، ويضيف: “نحن دولة أوروبية أطلسية. عندما كنا في ورطة، كانت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي معنا، لذلك نحن ننتمي إلى هذا النادي”.
ويتابع بقوله: “أنا ألباني. لست مسلمًا. الدين ليس هويتي الأولى. الحقيقة هي أننا موجودون منذ أكثر من 2000 عام، حتى قبل محمد أو عيسى. لدينا ذاكرة، نعرف من نحن، نحن عشنا كمسيحيين طويلًا واعتمدنا الدين الإسلامي من خلال الإدارة العثمانية”.
يأتي هذا التوجه الصريح، نتيجة لتدخل الناتو عسكريًا في عملية استمرت 3 أشهر ضد صربيا (بدأت في مارس/آذار 1999) لإجبارها على الانسحاب ومنع وقوع حرب إبادة وحملة تطهير عرقي، لذلك أصبح سكان كوسوفو ونخبتهم مؤيدين بشدة للولايات المتحدة، فوفقًا لاستطلاع أجرته مؤسسة جالوب عام 2018، يظل سكان كوسوفو الأكثر تأييدًا للولايات المتحدة في العالم، حيث يدعم 75% من سكان كوسوفو الإدارة الأمريكية الحاليّة، الأمر الذي يفسر سبب تزيين الكثير من الأماكن العامة في كوسوفو بالأعلام الأمريكية واحتفاظهم بتماثيل في بريشتينا للرئيس السابق بيل كلينتون ووزيرة خارجيته مادلين أولبرايت.
وبعيدًا عن تلك المعطيات، فإن تعليقات رئيس الوزراء تشير إلى ابتعاد كوسوفو عن صف البلدان ذات الأغلبية المسلمة، وفشل المسلمين الألبان الذين يشكلون نحو 90% من السكان، في بعث رسالة مفادها أن جزءًا من هوية سكان كوسوفو هو الإسلام.
ربما حدث هذا التردد لأن أقوى حلفاء كوسوفو الذين ساعدوا المنطقة على كتابة أحدث تاريخ لها لا يتشاركون في نفس الدين، أو لأن شرائح مهمةً من الرأي العام الغربي لديها شك خفي في كلمة “إسلام” .
وربما لأن عضوية كوسوفو في منظمة المؤتمر الإسلامي ليست حتى على أجندة دبلوماسيتها، فقد قالت نائبة وزير الخارجية فلورا سيتاكو، إن بريشتينا ترددت في التقدم لأن معظم أعضاء منظمة المؤتمر الإسلامي فشلوا في الاعتراف باستقلال كوسوفو، فمن بين 56 دولة عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي، هناك 16 دولة فقط اعترفت بكوسوفو كدولة، بما في ذلك ألبانيا وتركيا، مضيفةً “كوسوفو جزء من أوروبا في نظامها للقيم، بينما الإسلام المطبق هنا هو إسلام أوروبي، والدين ليس ركيزة أساسية لهويتنا وأسلوب حياتنا”.
للعرف الاجتماعي كلمة حاسمة
الدستور الحاليّ لدولة شرق أوروبا المسلمة ينص على حرية المعتقد وحرية ممارسة الشعائر الدينية، لكن أعرافها الاجتماعية تسمح بأقل من ذلك، ففي عام 2009 أقرت المحكمة الدستورية بمنع آريتا حليمي، 19 عامًا، من ارتداء الحجاب داخل مدرسة الثانوية “كوفندي ليزهس”، القرار الذي اعتبره الكثيرون انتهاكًا لحقوق الإنسان وتعديًا على الحريات الشخصية، وردًا على الاعتراضات قال سامي كورتيسشي أمين المظالم: “كوسوفو دولة علمانية ولا يمكن أن تناقض قرارات المحكمة قوانين الدستور”.
كما صوتت الأغلبية في البرلمان ضد اقتراح عرضته الأحزاب الإسلامية، وهو التعريف بالإسلام في المدارس لرفع الحظر عن غطاء الرأس داخل الصفوف الدراسية، إذ صوت 64 من 120 عضوًا في البرلمان بالضد، وإثر ذلك، خرج نحو 5 آلاف شخص في كوسوفو إلى الشوارع للتظاهر ضد قرار منع الفتيات من ارتداء الحجاب في المدارس الحكومية، مطالبين الحكومة بالرجوع عن هذه الخطوة.
ولمعرفة الأسباب التي دفعت الحكومة لمنع الحجاب، ذكرت فلورا جيتاكو نائبة وزير الخارجية أن الحجاب “رمز ليس جزءًا من الصورة الثقافية لكوسوفو، وهو صورة عن إخضاع المرأة للرجل، وغياب كامل لحرية الاختيار”، وأضافت “لا أعتقد أن فتاة بعمر الـ16 يمكنها أن تتخذ قرارًا واعيًا وصحيحًا بشأن هويتها الدينية أو اتجاهاتها الفكرية”.
يرفض البعض انتشار المظاهر الإسلامية في شوارع كوسوفو، خوفًا من الاتجاه نحو التشدد أو التعصب
كما قالت النائبة جيتاكو إنه يسمح بارتداء الحجاب في الجامعات عند عمر 18 سنة، وذلك لأن الفتاة تكون قادرة على اتخاذ قرارتها بنفسها وتحمل عواقبها، دون أن تكون مجبرة من أي طرف، وأشارت كذلك إلى رفض بعض الأهالي رفضًا باتًا أن تكون إحدى المحجبات داخل الصفوف المدرسية، لأن ذلك قد يؤثر على طريقة تفكير وسلوك زميلاتهن الأخريات.
من ناحية أخرى، يرفض البعض انتشار المظاهر الإسلامية في شوارع كوسوفو، خوفًا من الاتجاه نحو التشدد أو التعصب، لا سيما أن نحو 315 شخصًا، بينهم 40 امرأةً تقريبًا، غادروا البلاد وانضموا إلى صفوف داعش في سوريا والعراق خلال السنوات الأخيرة. وعلى إثر ذلك، ينحصر الحديث عن الإسلام في المنطقة على موضوع التطرف الديني، ولذلك قد يتم قمع المناقشات الدينية من الرأي العام ودوائر النخبة الحاكمة والثقافية في بريشتينا.