على النصب التذكاري الكونفدرالي في ستون ماونتن بولاية جورجيا الأمريكية، سار أعضاء مليشيا “NFAC” وهم يرتدون الزي الأسود شبه العسكري ويحملون أحزمة الذخيرة، أمسك أحد أعضائهم بمكبر الصوت ودعا إلى مواجهة مع مجموعات الحراسة من البيض. قال الرجل وهو يمسك بندقية في حضنه: “لا أرى أي مليشيا بيضاء أو أولاد بوجي (يقصد بوجالو وهي مليشيات بيضاء متطرفة)، ولا ثلاثة بالمائة – مليشيا أخرى بيضاء -، ولا أي شخص من جميع هؤلاء المتخلفين الخائفين.. نحن هنا، أين أنتم الآن؟ نحن في عقر داركم”.
في وقت سابق من هذا العام نظمت مجموعة من السود المسلحين مسيرة في جورجيا، حيث قُتل أحمد أربيري، وهو رجل أسود، بالرصاص بعد أن طارده رجلان بيض على الأقل.
صور لمليشيا “NFAC” السوداء
ليست كل هذه المجموعات السوداء تتحدى المجموعات البيضاء، إذ يقول الكثيرون إنهم شكلوا المليشيات المسلحة لعدة أسباب، ومنها حماية المتظاهرين والتأكيد على حقوقهم في التعديل الثاني من الدستور وحماية مجتمعاتهم من ضباط الشرطة الفاسدين وكذلك المتعصبين البيض.
قال أحد الأعضاء: “السود لا يمكنهم الجلوس هناك عندما تُقتل عائلتك أو يُقتل الناس”، يبدو الأمر منطقيًا، حين يتحدث السود عن حماية أنفسهم من الاضطهاد، لكن هذا يُعتبر منحىً خطيرًا في بلد يُفترض أن ما يسود فيه هو القانون وليس لغة العصابات والمليشيات المسلحة.
مع اشتداد التوتر والاستقطاب الحاد مع كل ظهور أو تصريح للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يتحدث الإعلام الأمريكي عن انزلاق البلاد لاقتتال عنصري قد يمتد ليصبح حربًا أهليةً في ظل الانتشار المهول للأسلحة في البلاد، لكن مهلًا، كل ما يفعله السود والبيض مرخصًا لأنه حق يكلفه الدستور، فكل ما تفعله بالسلاح قانوني، ما لم تضغط الزناد!
ثقافة السلاح: لا يمكنك استعباد شعب مسلح
تعتبر قضية السلاح وتأثيرها في الولايات المتحدة عميقة لدرجة تدخل في أصل تأسيس أمريكا نفسها، إذ يعد حق امتلاك السلاح واستخدامه حقًا إلهيًا للأمريكيين على حد تعبير النائب عن ولاية تكساس في الكونغرس مات شايفر.
إذ ترتبط فكرة السلاح في أمريكا بنشوئها نفسها، فقد كان الهنود الحمر يعيشون في أرجاء القارة، فجاء المهاجرون والمنفيون من أوروبا واستولوا عليها بسلاحهم – يسود هذا المنطق حتى الآن في السياسية الأمريكية في أن القوة تصنع الشرعية -، ثم استعمر البريطانيون والفرنسيون ولايات كثيرة منها وكان على المستوطنين الجدد حماية أنفسهم من باقي سكان الولايات الأخرى سواء بقتالهم مباشرة أم بالتحالف مع إحدى القوتين، الأمر الذي أدى إلى ظهور ما يُعرف بالمليشيات، وفي كل الأحوال كانت مسألة السلاح مسألة وجود.
يقول الكاتب ديفد هارساني في كتابه “الحرية الأولى”: حين تفجر القتال مع البريطانيين واندلعت مذبحة بوسطن الشهيرة عام 1770 – وهي أحد أسباب قيام الثورة الأمريكية – شاعت عبارة “الدفاع عن النفس هو البند الأساسي في قانون الطبيعة”، ثم توسعت هذه العبارة لتكون الحق باستخدام السلاح للدفاع عن النفس، ثم تحولت لتكون بندًا في الدستور”.
وهكذا وضع توماس جيفرسون – أحد مؤسسي الولايات المتحدة وكاتبي وثيقة الاستقلال – بندًا في مسودة دستور فرجينيا يقول فيه إنه لا يحب تجريد المواطنين الأحرار من حق استخدام سلاحهم، وحين قامت الدولة الأمريكية الحديثة وقررت التوسع لتحتل مكانها كإمبراطورية في العالم بعد الحرب العالمية الثانية كان هناك عدة عناصر ترتكز عليها: صدارة القوة والاقتصاد والحرية والديمقراطية، والغريب أن السلاح عنصر رئيسي في الثلاثة!
على المستوى الفردي، يكفل الدستور الأمريكي في مادته الثانية حق امتلاك الأسلحة النارية للأفراد دون التدقيق عن السبب، وهذا الحق أنتج شعبًا مسلحًا يفوق تسليحه ترسانة جيوش بأكملها في العالم!
ففي عام 2018، كان 43% من الأمريكيين يستخدمون سلاحًا ناريًا أو يملكونه في بيوتهم، وتبلغ نسبة السلاح إلى عدد السكان 120% وهي نسبة أعلى من الدول التي تشهد حربًا أهليةً مثل اليمن (52.8%).
وبلغ قتلى الحوادث الناتجة عن الأسلحة النارية وحدها 11 ألف قتيل عام 2017 وأكثر من 14 ألفًا عام 2016 – أي ما يقارب 5 أضعاف قتلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر -، إضافة إلى 22 ألف حالة انتحار بالسلاح الناري، في حين تبلغ نسبة الجرائم من هذا النوع 73% من مجموع الحوادث الجنائية.
إن استخدام السلاح في أمريكا إضافة إلى بعده التاريخي، يمثل ثقافة وجود وأسلوب في حرية الشعب وتفوقه على المؤسسة الحاكمة، كما يعبر عن ذلك الكاتب نوح ويبستر: “لا يمكن لأي قوة في أمريكا أن تفرض القمع بالسلاح، لأن الشعب مسلح بالكامل، وهو يحقق تفوقًا على أي قوة تحاول السيطرة على الشعب”.
الأمر مختلف هذه المرة: حربٌ لا سطو!
رغم كل هذه الخلفية عن الأسلحة، لم يصل الأمر أن تتشكل مجاميع مسلحة مؤدلجة وسط كل هذا الكم من الظروف مجتمعة! نعم كان هناك مليشيات تحمل السلاح بدافع عنصري، لكنها هذه المرة تواجه مليشيات سوداء – سبق أن تم تشكيل مليشيا الفهود السود وقضت عليها مكاتب المباحث الفيدرالية -، في ظل احتقان عنصري يتصاعد ولا يهدأ، مع قوات إنفاذ قانون عنصرية بالنشأة والتركيب والأداء، وفوق هذا كله، يوجد رئيس أمريكي يرى في الأزمة فرصة للفوز برئاسة أخرى!
صورة لحشد إحدى المليشيات في ولاية فرجينيا أغسطس/آب الماضي: مجلة أتلانتك
تضع كل هذه العوامل البلاد في مخاطر الحرب الأهلية، ففي دراسة مطولة لمجلة أتلانتك، يرى الكاتب مايك جيجليو مؤلف كتاب “تحطيم الأمم: داعش والحرب من أجل الخلافة”، أن مشكلة الحرب الأهلية الحاليّة تكمن في تصاعدها الهادئ، وهو ما يضمن لها الوصول لنقطة اللاعودة دون أن يشعر أحد، حيث يقول:”لا تبدأ الحروب الأهلية دائمًا بحدث واضح وحاسم مثل هجوم أو انقلاب أو غزو، ربما تكون في الطريق إلى واحدة منها وأنت لا تدري، الحرب الأهلية صراع يبدأ بشكل تدريجي، وهو يبدأ عادة حين يفكر البعض بإمكانية حدوثه”.
هناك مشكلة أخرى قد تفاقم الوضع برمته، وهي أن الشخص المسؤول عن حل المشكلة لا يرى فيها مشكلة على الإطلاق، فالرئيس الأمريكي وهو يمثل اليمين المتطرف يشجع المتطرفين البيض على المضي بأفعالهم في كثير من تصرفاته، حيث رفض إدانتهم وحاول التهرب من الإجابة في المناظرة الرئاسية، كما أن إعلانه احتمالية عدم تسليمه منصبه بحجة عدم نزاهة الانتخابات قبل حصولها يثير مشكلة حقيقية بوجود أنصار مسلحين ومستعدين للدفاع عنه من خلال السلاح.
إن الديمقراطية الأمريكية – والغربية عمومًا – محمية بالدرجة الأولى بإرادة الشعب قبل المؤسسات الحكومية، فمن دون إرادة شعبية في إنفاذ الديمقراطية تصبح الهيئة القضائية مجرد أشخاص يرتدون ثيابًا سوداء طويلة، والاستقطاب الحاد الذي تشهده أمريكا يفتت الإجماع على إنفاذ الديمقراطية ويقود البلد لصراع مسلح لا يمكن للشرطة أن توقفه، وحينئذ يصبح الحل الآخر الوحيد المتاح بمثابة صب الزيت على النار كما يرى الكاتب جوش ماير، أحد ألمع المحللين الاستقصائيين في الصحافة الأمريكية.
“إن تعهد ترامب بدفع المزيد من العملاء الفيدراليين والحرس الوطني إلى المدن الأمريكية سيجعل الوضع المتقلب بالفعل أسوأ، سيضج الفيسبوك والإنستغرام وتويتر بمشاهد ما سيحدث بعدها، وسيصب الإعلاميون الزيت على النار بقولهم إن المدنيين المسلحين الشيء الوحيد الذي يحمي المواطنين الأبرياء وشركاتهم من العنف والدمار”!
إن موافقة شريحة كبيرة من المتطرفين المسلحين ومعهم شريحة أكبر من العنصريين البيض على اللجوء للسلاح بذرائع الحرية والحفاظ على الديمقراطية يفتح الباب أمام تحول كبير يمس أصل الحرية الأمريكية في ظل السلاح والسلاح المقابل.
بالعودة إلى مظاهرة مليشيا “NFAC” السوداء، في معقل البيض بولاية جورجيا يقول روبرت جيه. كوترول، المؤرخ القانوني ومؤلف كتاب “الظل الطويل المستمر: العبودية والعرق والقانون في نصف الكرة الأمريكي” إن السود لا يجب أن يتخلوا عن حقوق التعديل الثاني بسبب مخاوف بشأن رد فعل بعض البيض: “هل ستجعل حقك في البقاء على قيد الحياة مشروطًا بتصور الآخرين؟”، يتساءل كوترول.
تحمل هذه الدعوات وغيرها منطقًا عادلًا في ظاهره، لكنها أيضًا تثير أسئلة أخرى مثل: “ماذا سيحصل لو أطلق السود تحديًا مسلحًا.. وقبله البيض هذه المرة؟”.