في الوقت الحاليّ، تتصاعد الاشتباكات بين أرمينيا وأذربيجان في جولة من صراع طويل الأمد بين البلدين، ذلك الصراع الذي أودى بحياة أكثر من 20 ألف شخص في عمليات عسكرية وأصيب أكثر من 50 ألف بجروح، فيما أصبح أكثر من مليون أذربيجاني مشردين داخليًا، ولم يقف الأمر أبدًا عند هذا الحد، ففي يوم 26 فبراير/شباط 1992 ارتكبت وحدات الجيش الأرميني مذبحة في منطقة خوجالي الواقعة بإقليم قرة باغ الذي تحتله أرمينيا منذ ذلك الحين، وراح ضحيتها 613 مدنيًا، منهم 106 نساء و83 طفلًا و70 مُسِنًّا، كما أصيب 487 بجروح بالغة، هذا بالإضافة إلى وقوع 1275 رهينة واختفاء 150.
الأكثر دموية
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 بدأ الأرمن بمحاصرة مدينة خوجالي التي تضم المطار الوحيد في المنطقة كما أنها تقع على الطريق الرئيسي الذي يربطها بمدينتي خانكندي وأغدام حيث يحصل الأرمن على المساعدات العسكرية، واعتبارًا من يوم 25 من فبراير/شباط 1992 كثفت قوات الأرمن هجماتها العسكرية على المنطقة وذلك بالتعاون مع الفوج 366 السوفيتي الذي كان متمركزًا بالقرب من مدينة خانكندي الأذربيجانية.
ووفقًا للتحقيقات التي أجرتها الحكومة الأذربيجانية بناءً على شهادة 2000 ناجٍ فإن قوات الأرمن عذبت الأسرى وحرقتهم أحياء، هذا بالإضافة إلى ذبح بعض الضحايا وقطع آذانهم وتقشير رؤوسهم وجدع أنوفهم واقتلاع عيونهم وتشويه أعضائهم التناسلية هذا بخلاف عمليات القتل الجماعي.
رفض الاعتراف
في عددها الصادر بتاريخ 4 من مارس/آذار 1992 عنونت صحيفة “تايمز” اللندنية خبر المذبحة كالتالي: “معظم القتلى ممثل بجثثهم، وطفلة صغيرة لم يبق إلا رأسها”، أما بالنسبة لصحيفة “لو موند” الفرنسية فقالت: “الصحفيون الأجانب الموجودون بمحافظة أغدام يشاهدون ثلاث جثث مسلوخة الرأس ومنزوعة الأظافر بين جثث النساء والأطفال في خوجالي، وهذه ليست مجرد حملة دعائية من الأذربيجانيين، بل هي الحقيقة”.
وفي سياق متصل كان عنوان صحيفة “أزفيزستيا” الروسية عن المجزرة كالتالي: “الكاميرات تنقل لنا صور أطفال قُطعت آذانهم وامرأة لم يبق إلا نصف وجهها، وسلخ فروة رأس رجل”، هذا وقد وصفت منظمة “هيومان رايتس ووتش” اليوم الدامي بأنه أكبر مذبحة حصلت خلال حرب إقليم ناغورني قره باغ، وعلى الرغم من كل ذلك فإن السلطات الأرمينية لم تعترف بالمجزرة بل ووصل بهم الأمر إلى حد القول إن الشعب الأذري ارتكب تلك المجزرة بنفسه، وهو ما ذكره رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان خلال مناظرته المفتوحة مع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف في ميونيخ.
أزمة اللاجئين الكبرى
منذ عام 1992 تحتل أرمينيا نحو 20% من أراضي أذربيجان، منهم إقليم قرة باغ الذي يتألف من 5 محافظات، بالإضافة إلى 5 محافظات أخرى غرب البلاد وأجزاء واسعة من محافظتَي آغدام وفضولي، وقد تسبب ذلك في تهجير مليون لاجئ من مدنهم وأراضيهم، وبسبب الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها الحكومة الأذربيجانية فقد فشلت في توفير الاحتياجات الأساسية للاجئين، حيث أجبروا على العيش في ظل ظروف قاسية.
وقد كشفت العديد من التقارير الدولية أن اللاجئين اضطروا للعيش في مساكن صغيرة وجماعية إلى جانب العشرات من عائلات اللاجئين الأخرى كما أنهم يتشاركون في حمام واحد أحيانًا مع ما يقرب من 50 شخصًا بجانب نقص كبير في المياه الصحية، وبسبب تلك الأوضاع غير الإنسانية تدخلت الأمم المتحدة وقدمت مساعدات للاجئين بقيمة مليار دولار، وتجدر الإشارة إلى أن الحكومة الأذربيجانية ترتكز على المساعدات الخارجية بشكل رئيسي في محاولة حل مشكلة اللاجئين.
بروتوكول بيشكيك
مع تزايد الهجمات الأرمنية ضد المدنيين الأذربيجانيين وقّع الطرفان يوم 5 مايو/أيار 1994 في العاصمة القرغيزية بيشكيك اتفاقًا لوقف إطلاق النار عُرف باسم “بروتوكول بيشكيك” ووفقًا لهذا الاتفاق كان يفترض وقف إطلاق النار وعدم القيام بأي عمليات عسكرية متبادلة وانسحاب القوات من المناطق المسيطر عليها وإعادة تهيئة وتشغيل البنية التحتية، كما وقع الطرفان أيضًا على اتفاق قانوني ملزم بعودة اللاجئين.
وحين أُحضر الاتفاق إلى العاصمة الأذربيجانية باكو أجرى رئيس البرلمان آنذاك بعض التغييرات وبإلحاح شديد من الجانب الأذربيجاني تم تغيير كلمة “المناطق المسيطر عليها” إلى كلمة “محتلة”، وعلى الرغم من ذلك ظل هذا البروتكول مجرد حبر على ورق، فطوال 26 عامًا تكبد كلا الطرفين خسائر فادحة في صفوف قواتهما العسكرية.
ومن جانب آخر تلعب روسيا دورًا كبيرًا في خلق حالة من عدم اليقين ومحاولة السيطرة على طرفي النزاع، إذ عمدت طوال الأعوام الماضية إلى تسليح أرمينيا رغم احتجاجات أذربيجان، وخلال عام 1994 أرسلت روسيا شحنة كبيرة من الأسلحة إلى أرمينيا على هيئة منحة، كما أوعزت لشركات السلاح الروسية بتكثيف بيع السلاح لأرمينيا وذلك وسط مطالب منظمة الأمن والتعاون في أوروبا من المجتمع الدولي بوقف بيع الأسلحة إلى أي من طرفي الصراع.
وخلال عام 1997 أعد ليف روخلين رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما الروسي تقريرًا كشف فيه حجم الأسلحة التي تبرعت بها روسيا لأرمينيا، حيث وصلت قيمة الأسلحة في الفترة بين عامي 1993-1996 إلى مليار دولار، وفي عام 2008 نشرت وسائل إعلام روسية أن موكسو تبرعت بما يعادل 800 مليون دولار من الأسلحة لأرمينيا، وخلال اشتباكات عام 2016 على خط الجبهة وحين تمكنت أذربيجان من استعادة بعض المرتفعات الإستراتيجية ردت روسيا حينها بنشر صواريخ “إسكندر إم” في أرمينيا.
في نهاية الأمر نحن أمام الحقيقة القاسية وهي أن أرمينيا لا تدفع ثمن تلك الأسلحة وحدها، لكن يدفعها اللاجئون ويدفعها المشردون الذين عانوا من ويلات هذا الصراع، ودفعها ضحايا مجزرة خوجالي والناجون منها مثل فالح حسينوف الذي ذكرت وكالة أنباء “الأناضول” التركية أنه تمكن من الهرب من القوات الأرمينية بعد 27 يومًا من الأسر، ووفقًا لحسينوف الذي فقد زوجته في المجزرة فقد تعرض لتعذيب شديد على يد قوات الأرمن التي ما إن علمت بأنه اعتاد عزف الغيتار حتى نزعوا أظافره ثم كسروا أصابعه ووضعوا يديه على موقد ساخن ثم أحرقوها، وكما ذكر المبعوث الأذربيجاني في تركيا، خازار إبراهيم فإن مجزرة خوجالي التي ارتكبها الأرمن كانت واحدة من أحلك صفحات القرن العشرين.