قبل عقود قال الفيلسوف الفرنسي آلان فينكلكروت: “عندما تصبح كراهية الثقافة نفسها جزءًا من الثقافة، تفقد حياة العقل كل معنى، هنا تقرر السياسة الأخلاق، تتوه المعاني المقصودة بالعدالة، وتصبح الحقيقة ما تحددها لغة المكاسب”، وربما هذا ما يؤمن به صالح القلاب، السياسي والوزير الأردني الأسبق، وأحد الأعمدة الفكرية لمشروع التطبيع في المنطقة الآن.
اسمه كاملًا صالح حمد عواد القلاب العموش، سياسي وإعلامي أردني، عمل صحفيًا وتقلد مناصب حكومية رفيعة في الأردن أهمها على الإطلاق تعيينه وزيرًا للثقافة والإعلام ووزير دولة بحكومتين أردنيتين سابقتين، والآن يقف على رأس مشروع التطبيع مع “إسرائيل” وصار أحد أهم منظريه.
يملك القلاب تاريخًا طويلًا في العمل السياسي، ورغم ذلك أبرز ما يمكن ملاحظته في مسيرته عدم تحصيله أي قبول شعبي يناسب خبرته، يشهد على ذلك رسوبه في الترشح للانتخابات النيابية أكثر من مرة، وربما يقف خلف ذلك تقلبه الدائم وتغير ولاءاته الفكرية والسياسية على طريقة انسف حمامك القديم.
من الولاء التام لحزب البعث والممانعة القصوى ضد “إسرائيل” إلى الولاء بإسراف مخجل لمشروع التطبيع معها، ومن العمل في ضوء الثوابت القومية إلى تسخير نفسه لمساندة الملكيات المطلقة في الخليج التي تكن عداءً وجوديًا للفكرة وكانت من أهم أسباب استئصالها من المنطقة إلى جانب عوامل الضعف الداخلية ورحيل أكبر منظريها والمؤمنين بها.
لم تتبلور أفكاره السياسية إلا خلال دراسته بالجامعة الأردنية، التي تعرف فيها على أفكار حزب البعث العربي الاشتراكي
العودة قليلًا لتاريخ القلاب، تخبرنا أن صالح تلقى تعليمه الابتدائي في قرية العالوك بمحافظة الزرقاء، وانتقل بعدها إلى مدرسة النصر الإعدادية العسكرية في الزرقاء، التي صار اسمها الآن مدرسة الثورة العربية الكبرى العسكرية.
لكن لم تتبلور أفكاره السياسية إلا خلال دراسته بالجامعة الأردنية، التي تعرف فيها على أفكار حزب البعث العربي الاشتراكي، وآمن بها بشدة وانخرط في أنشطة الحزب، وهنا رصدته الأجهزة الأمنية وألقت به في غياهب السجون وأخذها “كعب داير” باللفظ الدارج المصري، من سجن المحطة السياسي في عمان إلى سجن الزرقاء، لينتقل إلى سوريا أحد أهم معاقل البعثية آنذاك.
هزائم نفسية
أي قراءة نفسية لصالح القلاب، ستكشف عن امتلاك الرجل ثقافة تغيير جلده بشكل ملفت، لكن تبقى حجم المغريات هي ما يحدد كيف وإلى أي وجهة سيفعل ذلك، ما يؤكد هذا الافتراض هو دخول القلاب في صراع شرس مع السلطة الأردنية وقيادته من الخارج أجنحة بعثية سرية ضدها، لكن بمجرد التواصل معه وتقديم عرض جيد عاد إلى بلاده وتراجع عن أفكاره السياسية على نحو مثير للتأمل.
هدم صالح مسيرة عقدين من حياته في سبيل العودة إلى ذهب السلطة وعزها، تطرف في تأييدها لدرجة أنه أصبح يقود بنفسه الحملات السياسية والفكرية المناهضة لرفقاء الأمس من المعارضة، وحصد في النهاية الجائزة الكبرى بتعيينه وزيرًا للإعلام عام 2001.
تغيير الولاءات.. من الأردن للسعودية
بعد خروجه رسميًا من المنصب الوزاري عمل القلاب في الإعلام السعودي، فكان أحد مؤسسي قناة العربية، وبالتزامن مع ذلك نشر نفسه سريعًا في أعرق وأقوى صحف المملكة، حيث دشن رؤى حاول من خلالها دائمًا إبراز ارتباطه بالمصالح القومية للدولة السعودية وخاصة الأمير محمد بن سلمان الذي التصق به وبمشروعه السياسي منذ لحظة ولادته الأولى.
يربط القلاب في كتاباته دائمًا بين خصوم السعودية وخصوم أمريكا و”إسرائيل” في المنطقة وعلى رأسهم إيران، ولم يترك ملفًا يسبب قلقًا للسلطة إلا وأهال عليه التراب، يستند دائمًا إلى تاريخه في العمل مع الحركات السياسية حتى يبني علاقة مع القارئ الخليجي تقف على أركان تجاربه الميدانية والتنظيمية، ما يجعله مؤهلًا لكشف ما في جعبته من مساوئ الداعيين للديمقراطية الذين لا يعرفون في أغلبهم إلا لغة المصالح العفنة على حساب أي قيمة أو مبدأ بحسب تعبيره.
يروج القلاب نفس رؤى الأنظمة الشمولية عن الديمقراطية، فالمطالبون بها حفنة من المرتزقة والعملاء الذي يسبون الكبير والصغير، ويقتلون القتيل ويشاركون في عزائه بحسب تعبيره، والأفضل بحكم تجربة صالح هو الحاكم القوي الأمين القادر على تحطيم مخططات الديمقراطية الملعونة التي جرت الويلات على المنطقة والخراب والاقتتال والتفكيك والحرب الأهلية التي لم تبق ولم تذر.
يقول دائمًا: “أين وصلنا بالديمقراطية؟ هل أصبحنا ديمقراطيين بين ليلة وضحاها نشتم العدو الصهيوني ولا نستطيع الاقتراب من الولي الفقيه في طهران وشيطنة من نعارضه، نصفق لمن نريد التصفيق له، هل هذه هي الوصفة الكاملة للديمقراطية في أمتنا!”.
تسويق التطبيع
منذ ظهور مشروع التطبيع قبل أعوام وتبنيه -على استحياء- من أغلب حكام المنطقة، سابق القلاب الجميع في تقديم خدماته، فلعب الرجل بنفس الورقة التي يجيدها دائمًا – تاريخه القديم – هو وحده من يملك أغلب الحكايات الحقيقية عن الأشخاص الذين بيدهم مفاتيح الملف حاليًّا، لا سيما الذين عمل معهم في منظمة التحرير وحركة فتح.
يتعامل القلاب في ترويجه لمشروع التطبيع على عدة محاور، أخطرهم على الإطلاق تعرية نقاط ضعف السلطة الفلسطينية، لكن دون أن يصطدم بأبو مازن، فالجميع مخطئ إلا هو منزه عن الهوى، وجميع معاونيه لديهم شبكة مصالح مقعدة إلا كبير العائلة الذي يتفرج عليها من أعلى منطقة في برج المراقبة دون أن ينزل إليها فيصيبه ما أصابها، وكأن صالح يريد دائمًا أن يبقى جزءًا من الحل في أي تقلبات يمكن أن تحدث عكس قوانين المنطق، وتعيد ملف التطبيع لسيرته الأولى.
يلعب القلاب أيضًا على تعرية التناقضات داخل الجسد الفلسطيني وتنظيماته بأكملها ويكشف بحكم دوره القديم عن قصص الصراعات بين الجميع ويزعم أنها السبب في تغير موقفه من التطبيع.
يقول صالح في مقال حديث له: “الفصائل الفلسطينية لا يجمعها أي جامع، وأغلبها يعتبر عملية السلام خيانة وطنية، وبالتالي فهي ليست قادرة على تعديل المسار ودفع استحقاقات هذه المرحلة الخطيرة”.
يكشف أكثر عن خطته لتمرير التطبيع ويؤكد أن المطلوب في هذه المرحلة الخطيرة ليس تحشيد الفصائل الفلسطينية الفاعلة أو الأقل أهمية، المتشددة في مواقفها من التطبيع أو التي لديها شروط قابله للحل والتفاوض، لكن المطلوب فرض التطبيع عليهم، فهو برأيه الطريق الوحيد لإحلال السلام وتعزيز القناعة به.
المثير في خلطة صالح أنها تجد طريقها إلى النشر في كبرى الصحف الخليجية، أصبح هناك مزاج عام يؤيد رؤى الرجل في أعلى الهياكل التحريرية الخليجية، فمن يرفض التطبيع “تنظيمات إرهابية” تزايد على الأمة العربية والإسلامية، بل تزايد حتى على السلطة الفلسطينية التي أعلنت موقفها في اتفاقيات أوسلو ووضعت حدًا للمقاطعة مع “إسرائيل”.
يرتدي القلاب زي الباحث والأكاديمي والخبير التنظيمي القادر على تفكيك الصورة من الداخل ويحذر الخليج والعرب من ترك الملف بأيدي الفلسطينيين، فتشددهم سيؤدي في المقابل إلى استفراد اليمين الإسرائيلي بالسلطة، ومن ثم القضاء على القضية الفلسطينية من جذورها ولن يستطيع وقتها أي طرف التدخل وعمل أي شيء.
يؤكد القلاب دائمًا أن الشعب الإسرائيلي مل في أغلبه من صراع بلا نهاية، وأصبح يؤيد وضع حد لهذه الأزمة، وتساءل كيف ولماذا لا يؤيد مبادرة السلام العربية أو يضغط على حكوماته لتقديم حل عادل مقابل السلام.
الإجابة عند صالح المبادرة بتقديم ما هو أبعد، فرض سلام بلا كرامة، سلام بلا شروط وذو بعد واحد، وبعدها ربما يأتي الفرج أو تبقى الأحوال على ما هي عليه، وهذا أيضًا ثمن عادل جدًا لصالح والذين معه!