بعد مرور أقل من 20 عامًا من التعبير مرارًا عن طموحاته في إنشاء وكالة فضائية منذ وصوله إلى السلطة في 2002-2003، حقق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وعده بإدراج هذا المشروع رسميًا لأول مرة في خطة عمل الحكومة عام 2016 وبتوقيع أمر تنفيذي لتشكيل أول وكالة فضاء رسمية في البلاد عام 2019، وسط ترحيب واسع من العلماء الذين يأملون أن توفر هذه الخطوة فرص عمل وتحد من هجرة الأدمغة.
وفي خطاب سياسي رئيسي ألقاه في 16 يناير/كانون الثاني 2020، كشف أردوغان عن مجموعة من مشاريع البنية التحتية الحكومية الكبيرة ومشاريع التكنولوجيا لعام 2020 وما بعده، وتضمن الخطاب الإعلان الموعود لبرنامج فضاء وطني وإطلاق العديد من أقمار الاتصالات خلال العامين المقبلين، أحدها يتم بناؤه محليًا بواسطة شركات الطيران التركية (THY).
وبذلك سوف تنضم تركيا إلى الدول الأخرى في الشرق الأوسط التي تمتلك برامج فضائية ذات قدرة إطلاق، وهي إيران و”إسرائيل”، وكلاهما يستخدمان هذه القدرة لأغراض عسكرية، وبناءً على تلك التجارب السابقة فمن المفترض أن يسمح هذا الحدث لتركيا بالتوسع على الصعيد السياسي في نواحٍ عديدة.
أول قمر صناعي تركي
تستعد تركيا في الأول من شهر ديسمبر/كانون الأول لإطلاق أول قمر صناعي مصغر يحمل اسم “Grizu-263A” من منصة إطلاق قاعدة “كيب كانافيرال” في الولايات المتحدة بعد أن تم العمل عليه بجامعة “بولنت أجاويد” في ولاية زونغلداق التركية. وبحسب تشاغلا آيتاتش دورسون، قائدة الطاقم الفضائي، فإن القمر يحمل أسماء 263 عامل تعدين لقوا مصرعهم، في انفجار منجم قوزلو بولاية زنغولداق شمالي تركيا، في 3 مارس/آذار 1992، ومع إطلاق هذه المهمة تأمل دورسون إحياء ذكرى هؤلاء العمال.
وبدأ الحلم بعد فوز دورسون وفريقها بالمركز الثاني على مستوى العالم عامي 2018 و2019 على التوالي في مسابقة الأقمار الصناعية التي أقيمت تحت عنوان (CanSat Competition)، بدعم الجمعية الأمريكية لعلوم الفضاء، ووكالة ناسا الفضائية، وشركة لوكهيد مارتن للصناعات العسكرية، وشركة كراتوس سبيس، وشركة براكسيز إنك، وشركة سيمنز، ومعمل أبحاث البحرية الأمريكية، أسسوا فريقًا مكونًا من 38 شخصًا وبدأوا بمشروع صناعة أول قمر صناعي.
وذكرت دورسون أنهم قد توصلوا إلى اتفاق مع شركة سبيس إكس (SpaceX) لإرسال القمر الصناعي إلى الفضاء بواسطة شركة ألبا أوربيتال (Alba Orbital) ومقرها اسكتلندا. وعن مواصفات القمر الصناعي، فإن وزنه 250 جرامًا، ويتكون من 4 أنظمة فرعية وهي: الحاسوب أحادي اللوحة (OBC)، والطاقة الكهربائية (EPS)، وأنظمة الاتصال (COMM)، وأنظمة الاستقرار المغناطيسي (PMAC).
وقبل شهرين تقريبًا، أعلن وزير النقل والبنية التحتية التركي عادل قرة إسماعيل أوغلو، عن خطة بلاده لإطلاق أول قمر صناعي محلي الصنع بالكامل إلى الفضاء في 2022، والذي من المفترض أن يحمل اسم “Türksat 6A”، ويمتاز بأن الطاقم المشرف على المشروع من الأتراك ويتم صناعته بإمكانات محلية بحتة، ويشمل ذلك، الكوادر والأجهزة والتقنيات والبرمجيات والأنظمة التي ستستخدم في القمر الصناعي ومحطته الأرضية، ومن المقرر أن يطلق إلى الفضاء من منصة إطلاق تركية.
ويجري حاليًا تمويله من وزارتي الدفاع والمواصلات والملاحة البحرية والاتصالات، ومستشارية الصناعات الدفاعية، إلى جانب شركة “Türksat”، ومن المتوقع أن تبلغ تكلفة إنتاج القمر الصناعي الجديد نحو 600 مليون ليرة تركية (ما يعادل نحو 170 مليون دولار أمريكي).
التجربة التركية
حقق أردوغان بالفعل وعود حزب العدالة والتنمية، سواء من ناحية إنشاء وكالة فضاء حكومية لقيادة وتنسيق قطاع الفضاء الوطني بأكمله، ومن ناحية تعيين شخص قادر على تحقيق تطلعات الدولة التركية على رأس القيادة، وهو سردار حسين يلدريم، الذي تم تعيينه في 7 أغسطس/آب رئيسًا لوكالة الفضاء التركية (TUA)، وهو اختصار لـ”Turkiye Uzay Ajansi”.
وهو محترف معتمد في قطاع الطيران، ومهندس طيران من الجامعة التقنية في إسطنبول وحاصل على درجة الماجستير في تكنولوجيا الطيران من الجامعة التقنية في برلين، وشغل منصب المدير العام لهيئة المطارات الحكومية (DHMI) وإدارة تقنيات الطيران والفضاء في وزارة النقل، كما يعد المعلن الرسمي عن بناء مرصد شرق الأناضول (DAG)، وهو مرصد فضاء عميق بقطر مرآة يبلغ 4 أمتار، بحلول نهاية عام 2021.
يقع مقر الوكالة التي يرأسها يلدريم في أنقرة وتتمتع بخلفية مدنية قوية، وهي مستقلة ماليًا وإداريًا ولكنها تابعة لوزارة العلوم والتكنولوجيا، ومن خلال العمل عن كثب مع معهد “Tübitak” لأبحاث تكنولوجيا الفضاء، تهدف (TUA) إلى تحديد الأهداف المتوسطة والطويلة الأجل، وإنشاء قاعدة وطنية قوية لصناعة الفضاء وتخصيص الموارد لتطوير العلوم والتكنولوجيا في قطاع الفضاء.
من بين مهامها أيضًا المساعدة في تطوير تقنيات الأقمار الصناعية، وإنتاج معدات ومكونات لصناعة الفضاء الدولية، وتطوير قدرات الإطلاق الوطنية والبنية التحتية المرتبطة بها من أجل تقليل الاعتماد الخارجي ووضع تركيا كقوة فضائية طموحة.
أهداف تركيا في الفضاء
يمثل هذا المشروع الضخم حجز حجر الزاوية الذي يريد أردوغان من خلاله تحقيق تطلعاته في جعل جمهورية أوراسيا قوة فضائية مؤثرة، إذ تتطلع تركيا إلى أن تكون اللاعب الأول في مجال تكنولوجيا الفضاء العالمية، وتتمثل أولويتها في إنشاء صناعة دفاعية تركية مستقلة تمامًا، وذلك ضمن رؤيتها المتمثلة في “التكنولوجيا المحلية والصناعة القوية”، بحسب تصريح وزير الصناعة والتكنولوجيا مصطفى فرانك الذي قال:”نحن نقف في طريقنا بنفس الانضباط والتصميم في كل مرحلة؛ من الاستراتيجية إلى التصميم الأصلي، وإنشاء البنية التحتية إلى تطوير التكنولوجيا، والمنتج النهائي إلى التسويق”.
ومن المنتظر أن تأخذ هذه الصناعة البلاد إلى مستويات عالية في المنافسة العالمية ولذلك تحشد تركيا كل الفرص المتاحة للمشاريع التي قد تحقق التفوق التكنولوجي الذي تسعى إلى الوصول إليه، ولا سيما أنها تعتبر أن النجاح في التقنيات المطورة في صناعة الدفاع تخدم أيضًا الاستخدام المدني وتسهم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، كما ذكر فرانك.
ستصل تركيا إلى مرحلة مهمة في الدراسات التي تُجرى على المدار الأرضي المنخفض والذي يحتل موضعًا مهمًا في دراسات الفضاء
ولتحقيق ذلك، تخطط تركيا لإطلاق 11 قمرًا صناعيًا جديدًا حتى عام 2039 إلى جانب الأقمار الصناعية العشرة التي تملكها حاليًا وأطلقتها على مراحل متعددة بعد أن كانت تمتلك قمرين فقط قبل 15 عامًا. ومن المتوقع أن تدخل مناطق مثل أمريكا الجنوبية والشمالية وأوروبا وآسيا وأفريقيا وأستراليا ضمن نطاق تغطيتها بحلول عام 2020، ما يعني أن 91% من سكان العالم سيتمكنون من التواصل عبر الأقمار الصناعية التركية.
يضاف إلى ذلك، تصدير التكنولوجيا ذات القيمة المضافة المرتفعة إلى الخارج في المستقبل، وستصل تركيا إلى مرحلة مهمة في الدراسات التي تُجرى على المدار الأرضي المنخفض والذي يحتل موضعًا مهمًا في دراسات الفضاء.
أعلنت عن مبادرة حكومية تهدف إلى إعادة العلماء إلى تركيا من خلال توفير أموال تصل إلى 4500 دولار للشخص الواحد شهريًا
إلى جانب تلك الأهداف، يأمل بعض العلماء أن تساعد الوكالة في إبقاء الباحثين في الدولة التي واجهت هجرة عقول كبيرة، إذ يقول أوموت يلدز، عالم الفيزياء الفلكية في مختبر الدفع النفاث التابع لناسا في باسادينا، كاليفورنيا: “هناك أعداد كبيرة من الطلاب الذين يهتمون كثيرًا بالفضاء والعلوم في تركيا، وقد يكون برنامج الفضاء الراسخ هو بالضبط ما يحتاجه جيل الشباب ليكون لديه أمل في المستقبل.”
فضلًا عن مساهمتها في توفير وظائف لخريجي هندسة الطيران وعلم الفلك، والذين لديهم خيارات عمل قليلة في البلاد، ففي هذا الخصوص يقول يلدز: “عدد الأتراك الذين لديهم مهنة في علوم الفضاء منخفض جدًا”، لكنه يضيف أن الأرقام يمكن أن تزداد إذا حددت الوكالة أهدافًا مشجعة ومولت الأبحاث باستمرار، وهو ما فعلته الحكومة حقًا، فقد أعلنت عن مبادرة حكومية تهدف إلى إعادة العلماء إلى تركيا من خلال توفير أموال تصل إلى 4500 دولار للشخص الواحد شهريًا لمدة عامين إلى ثلاثة أعوام لمساعدتهم على الانتقال وبدء العمل.
الخبرة التركية في مجال الفضاء
ليس واضحًا ما إذا لدى تركيا خبرة متينة في مجال الفضاء، تمتلك “مركز تكامل الأنظمة الفضائية وتجاربها” في العاصمة أنقرة، ويعد أول مقر تركي لتصنيع وتجربة الأقمار الصناعية المحلية، ويمكن القول إن تركيا شاركت في تطوير وتصنيع 15 مركبة فضائية من جميع الأنواع والأحجام التي أطلقتها الحكومات المتعاقبة في أنقرة بنجاح في الفضاء منذ بداية القرن الحادي والعشرين.
وتصنف تركيا من ضمن الـ 30 دولة في العالم التي تمتلك أقمارًا صناعية خاصة بها، إذ تمتلك 6 أقمار صناعية، الأولى كانت تُسمى (Bilsat-1)، وهي منصة مراقبة صغيرة تزن 140 كيلوغرامًا تم إطلاقها حول الأرض في سبتمبر/أيلول 2003 واختتمت حياتها التشغيلية في أغسطس/آب 2006، وتبعها العديد من أجهزة الاتصالات السلكية واللاسلكية التابعة للمشغل الحكومي (Türksat) واثنين من أجهزة البصريات، إضافة إلى أقمار التجسس والمراقبة وهما (Göktürk-1) و(Göktürk 2)، واللذين سينضم إليهما ثالث (Göktürk 3).
المحطات الفضائية أصبحت أدوات لا غنى عنها لتوفير المعلومات الاستخبارية وتأمين حدود تركيا وتعزيز الاقتصادها
تم إرسال الأخير، الذي يبلغ وزنه 450 كيلوغرامًا ويتم تصنيعه محليًا – بدعم تكنولوجي من شركة ساتريك الكورية الجنوبية – إلى الفضاء في ديسمبر/كانون الأول 2012. على النقيض من ذلك، تم تصنيع (Göktürk-1) الذي يزن 1.060 كجم من قبل شركة “Telespazio” الفرنسية الإيطالية وتم إطلاقه في ديسمبر/كانون الأول 2016 بعد تأخيرات عديدة.
في كل مناسبة، استخلصت أنقرة دروسًا مختلفة، تم أخذ اثنين منها في الاعتبار، الأول هو أن المحطات الفضائية أصبحت أدوات لا غنى عنها لتوفير المعلومات الاستخبارية لقواتها المسلحة في النزاعات المختلفة التي تشارك فيها، ولتأمين حدودها وتعزيز الاقتصاد يجب إنشاء صناعة ساتلية وطنية كبرى.
الدرس الثاني هو أنه، بقدر الإمكان، يجب أن تكون مركبات الإطلاق المحلية الموثوقة متاحة لتوفير وصول مستقل إلى الفضاء، وهي الطريقة الوحيدة والأمثل لتجنب الاعتماد على دول ثالثة، كما كان يتعين على الحكومات التركية السابقة فعله.
مع هذا المشروع، ستصبح تركيا واحدة من 10 دول في العالم تنتج أقمارها الصناعية الخاصة للاتصالات، أو هكذا يرغب ويعد أردوغان، ولا يبدو تحقيق هذا الحلم بعيدًا إذ تشهد البلاد عمومًا ثورة تكنولوجية ملفتة في السنوات الأخيرة، فإلى جانب اهتمام أنقرة بالفضاء، فإن البلاد تعتزم بناء 135 مدينة صناعية وبناء محطة ثالثة للطاقة النووية إلى جانب محطتي “آك كويو” و”سينوب”.